قال همام: كان الموعد أن تحضر بعد الغروب لا في الساعة التاسعة، فما شاء الله إنك تعتبر الأصحاب، وتقيم عند قولك، وتحفظ مواعيدك، ولكن لا عتب عليك بمشابهتك أبيك، فمن يشابه أباه فما ظلم.
وبعد أن نطق همام بهذا تركه وأسرع في مسيره، فتقدم سعيد نحو فؤاد يحييه ويسأله عن كدر خاله وهياجه، فقال فؤاد مجاوبا: إن خاله متكدر بسبب إخلاف الموعد في الحضور وكرهه الإخلال في نظام معيشته.
قال سعيد: إنك لا تجد الترتيب إلا عند الكبار الطاعنين في السن، وهو عندنا نحن الشباب سبب للمضايقة، ومن عادتي أني لا أجعل لطعامي ميعادا، وإنما متى جعت أكلت، ولي - بحمد الله - اشتهاء وقابلية، وقد أكلت ثلاث مرات في هذا اليوم، ولو حضر الطعام أمامي الآن لما تأخرت عنه.
كان سعيد أشقر الشعر، عريض الكتفين، كبير القدمين، حسن الثياب، وله من العمر خمس وعشرون سنة، وكانت تلوح على وجهه لوائح الطيش والجهالة، كما يظهر من الحديث الذي دار بينه وبين فؤاد وهذا ملخصه:
قال سعيد: لا أقدر أن أشرح لك عن مقدار انشراحي في مصر، فقد حضرت إليها منذ خمسة عشر يوما قضيتها بالأنس والطرب، واللهو في مجالس الغيد، والحمد لله أبي لا يعلم شيئا من ذلك، وهو لو علم لسخط علي وعذبني عذاب الجحيم، وقد كلفت ثلاثة خياطين بأن يصنعوا لي ملابس من الزي الجديد، عشرة من كل زي، واشتريت دبابيس للصدر وخواتم وساعات وكثيرا من الحلي، وفي كل يوم أنزل إلى السوق وجيبي مملوء نقودا فلا أعود ومعي قرش واحد.
قال فؤاد: إن مضيت على هذا السبيل لا يطول الزمان حتى تكون قد بددت ما جمع الوالد.
قال سعيد: جمع الوالد أموالا لا تأكلها نيران، وله أملاك واسعة لا يفنيها التبذير، فحقا لو علم بمقدار ما أصرفه لأقام القيامة علي، وتراني من مكري إن اشتريت شيئا بالدين أشترط على المداينين أن يكتموا الأمر عنه وإلا امتنعت عن شراء شيء منهم، ولا يخفى عليك أني بالغ رشدي، وأن أمي توفيت من سنة، وخلفت لي عقارا وأموالا، فإن عنفني والدي وغضب علي طلبت حصتي من ميراثها فلا أكون مضطربا، ولا يعوزني شيء، فلذلك تجدني قرير العين، مرتاح البال، أنفق بغير حساب، وأدخل القهاوي والخمارات ومحلات القمار ومنازل العاهرات فيستقبلني الجميع بغاية الترحاب وغاية الإكرام، فلا يخالفوني في كلمة أو إشارة.
قال فؤاد: أنت تفتخر بهذا، وتزعم أن لك الوجاهة بترددك على هذه الأماكن والمحلات.
قال سعيد: أنت لا تعلم أسباب الحظ والسرور، ودواعي الحظ والانشراح فيها، ولو وافقتني على رأيي ولو شاركتني في حظي وأنا متأكد من محبتك، وستزيد المحبة بيننا تمكينا عندما تقترن بأختي قريبا، وتصبح نسيبي، وأظن أنك تعلم تضييق والدي علي في المصروف، وأنه لم يكن ينقدني القرش الواحد إلا بعد زهوق الروح، فإذا خرجت سألني: كيف صرفت ذلك القرش؟ فكانت حياتي عذابا، لم يخرجني منها إلا بلوغ رشدي، فأصبحت حرا، وأشبعت نفسي من ملذات الدنيا وملهياتها ومطرباتها؛ لأعتاض عن حرماني في الزمن الماضي، وأنسى أكداري في زمن الصبا، وهذه أموال والدي كثيرة، وأنا وريثه مع أختي ، فإن فرغ جيبي من النقود أقترض من الصيارف، فهم لا يبخلون علي بشيء؛ لعلمهم أني موفيهم حقهم عاجلا أم أجلا مع الفوائد رغما عن أنف والدي، فإن شئت أن ترافقني هذه الليلة دللتك على محلات الأنس والطرب، وشرحت صدرك بسماع الغناء الحسن؛ فتعود شاكرا لي مثنيا علي مجبورا مسرورا.
قال فؤاد: جزاك الله خيرا، ولا تؤاخذني إن لم أقبل دعوتك، فمشربي غير مشربك، ولو سمعت نصيحتي فارتدع عن مثل هذه العادات التي تظنها من أسباب التسلية والانشراح، وهي طريق ضلال تقود صاحبها إلى الشقاء والتعاسة، فلا يمضي عليه زمن مديد حتى يسوء حاله، وينفد ماله من يده فيندم حين لا ينفع الندم، ولكم رأيت شبابا خلف لهم آباؤهم أموالا كثيرة فما مضى عليهم أمد قريب حتى بددوها بالطريق التي ذكرتها، فأصبحوا في فقر مدقع وحالة من النكد والبؤس يرثى لها، والسبب في هذا الضياع سوء التربية في الصغر وشدة تقتير الوالدين البخلاء على أولادهم، وإن قصتك لتحاكي قصتهم، وإني لأعلم أن الذي دفعك إلى الجهل والغواية والاسترسال في التبذير هو شح أبيك عليك، فلو أنصفك وتوسع في الإنفاق عليك لصرف عنك سبب الغواية، ولكنه ظلمك فأضاعك، وسوف تلقيك جهالتك في هاوية الدمار والخراب، ويكون والدك هو المأزور بما بخل وأنت بما تفعل.
Unknown page