قال: أتحتقرك وأنت مثال الطهارة وعنوان الفضيلة والعفاف؟
قالت: أنت تعلم يا فؤاد ما عندي من الشهامة وعزة النفس ونفوري عن موقف الذل والإهانة المعدة للسفلة الأدنياء، المعتادة خدودهم على اللطم، الذين يحملون الذلة صابرين ... فوالله إني لأرجف كالطير المذبوح وأخاف أن أرشق بسهام اللوم، فيتقطع فؤادي تقطيعا، وأسكن رمسي قبل الأوان، وخير عندي أن أعيش معذبة فقيرة طليقة الجناحين من أن أقيم في جنة الفردوس في ذل وإهانة.
قال: أؤكد لك يا عفيفة أن لك مقاما محفوظا عند أمي، وأنها تعزك وتعتبرك حق الاعتبار، وقد أخبرتها عنك فاشتاقت إلى رؤيتك، وشعرت بميل وانعطاف نحوك، وسوف تحققين الأمر بنفسك فتعلمين أني أقول الصدق.
قالت: لا بد أن تكون قد وصفتني بالأوصاف الجميلة فأجبتني والدتك، فإذا رأتني مجردة مما وصفت كرهتني لا محالة، وانقلب رضاها سخطا وغضبا.
قال: وصفتك بلا مبالغة، فلم أطنب، ولم أقل إلا الحقيقة، ولم أذكر إلا ما رأيته فيك.
قالت: ماذا رأيت في يستحق المديح والوصف؟
فقال لها فؤاد وقد خفق جنانه ورجف صوته بفعل الغرام: كل أوصافك جميلة، وأنت مظهر اللطف والظرف، ومعدن الطهارة والعفاف، وعلى وجهك علامة البهاء والجلال، جعلك الرحمن فتنة للعالمين وبهجة للناظرين، فيك يحسن غزل الشعراء، وبفضلك يتباهي الفضلاء، يا ذات الجمال الفريدة في المحاسن، يا ملكة القلوب.
فتبسمت عفيفة من سماع هذا الإطراء وقالت: لا فض فوك، ما أبدعك في الغلو، وأقدرك على الوصف! فكان الواجب عليك أن تلتزم الصمت، فلا تخبر والدتك بما ليس موجودا، ولا هو من الحقيقة في شيء.
قال: أنصتي إلي يا حبيبتي، فنار حبك تستعر في قلبي من خمسة أشهر، فلا يدري بها أحد، وهي في كل يوم تزيد سعيرا كلما زدتك نظرا وأقمت معك، حتى كاد جسمي يذوب ومهجتي تتقطع ابتغاء حفظ العهد الذي أخذته على نفسي أمام والدتك، وقد زجرت النفس وغالبتها فلم تبد مني حركة تترجم عن شديد غرامي بك، ولكنني خفت أن يقضي علي الأسى بالكتمان شهيدا في حبك، وفي قلبي الحسرات والآلام، فأخبرت والدتي بوجدي وغرامي فرقت لحالي وطيبت نفسي بالوعد الجميل، فلم يعد بعد مانع لإظهار المكتوم، فاعلمي أن قلبي نقي لم يدخله حب غير حبك، فأنت مليكته وحبيبته وغاية مناه وقصده.
فاحمر وجه عفيفة خجلا، وكانت وجنتاها تلتهب كجذوة نار تضيء ما حولها وتحرق قلوب الناظرين، وكانت متشحة بثياب سوداء تزيدها بهاء وإشراقا، فعقد الحياء لسانها فأمالت رأسها على صدر فؤاد وانهملت من عينيها الدموع كالدر المتساقط على الوجنتين، فحن إليها فؤاد، وانحنى يقبلها في جبهتها، فأعرضت عنه نافرة، فأنشد بلسان حال قول القائل:
Unknown page