وحينئذ علمته «مندان» شروط الإيمان، فآمن بالله الملك الديان - سبحانه وتعالى - وعلمته ما يجب عليه من العمل، فتلقى ذلك منها بكل انشراح، وفرح بدخوله في ذلك الدين، ثم استأذن وانصرف بعد أن ودعها، وهو يكاد أن يطير من الفرح، وصار يفكر بما يفعل حتى يجعل له حزبا من أهل دينه الجديد.
أما «مندان» التي سقمت من ذلك السجن الذي طال مكثها فيه فقد فرحت، واستبشرت بدخول ابن الملك في دينها، وأحيت هذه المصادفة الغير منتظرة منها ميت الأمل، وأيقنت بخلاصها. ثم مكثت تنتظر الفرص.
أما «ألفونك» فإنه كان دائما يتذكر بديع جمال «مندان»، ويتلذذ برقيق تلك الألفاظ التي مرت على مسامعه؛ فكانت معينة له على تثبيت حلاوة الإيمان في صدره، وكثر اعتزاله الناس وتردده على المعبد الذي فيه «مندان»، وكان عند الملك وزير عاقل مارس الأخطار، ودرس الأخبار يسمى الوزير «فرنان»، وهو الذي كان عليه المدار الأعظم في تهذيب «ألفونك»، وكان يحبه محبة شديدة، ودائما يراقب أعماله وحركاته إلى أن كان في هذه الأيام ارتاب في أمره، وتعجب من حبه للاعتزال وطول تفكره، فعزم على مفاتحته بهذا الخصوص، وقد دخل عليه يوما، وهو في غرفته الخصوصية، وبعد أن أدى فروض التحية قال له: يا ولدي، إني أرى فيك سيم آثار الحيرة والتفكر؛ فأخبرني ماذا طرأ عليك حتى صرت في هذه الحالة لعلي - يا سيدي - أن أقدر على مساعدتك وانتشالك من وهدة الأكدار إذا قدرت.
فرفع «ألفونك» طرفه إليه، وقال - وقد توسم في وجهه علائم الصدق مع الحنو الزائد - نعم يا والدي، عندي فكر قد أتعبني وأقلقني جدا، ولا أقدر أن أخبرك بشيء إلا بعد أن تقسم لي أنك تساعدني مع المحافظة على سري، وإن لم تقدر على مساعدتي فلا تبح بسري لأحد.
قال: علي ذلك.
ثم أقسم بالأقسام الوثيقة، وأكد له بأن لو سمع عنه كلمة واحدة فدمه له مباح، فلا يطالبه به أحد، وكتب له بذلك صكا وناوله إياه، وعند ذلك اطمأن «ألفونك»، وصار يشرح له كل ما دار بينه وبين «مندان»، وكيف أنها كانت السبب في إدخاله في دين الله القويم، وأراه أن هذا الدين قريب من العقل، والإنسان لو تأمل بما أبدع الباري من عجائب هذه المخلوقات، وما في الكون من الغرائب التي لو تفكر فيها المرء لطاش عقله، وتحير في صنع الله - سبحانه وتعالى - ولعلم أن الحيوانات التي يعبدونها لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا، فكيف تنفع الإنسان الذي هو أقوى منها بطشا وهي المسخرة له من قبل الله - جل وعلا؟
ولما سمع الوزير منه ذلك أكبر الأمر، وبدأ يراجعه في شأنه، وقال: يا ولدي، إن هذا الدين وجدنا عليه آباءنا الأولين، ولو سمع والدك بما تقول لقتل «مندان»؛ لأجل كفرها بعد أن أظهر الإله فيها كرامته، وجعلها بيضاء بعد أن كانت حبشية الأصل واللون!
ولما سمع منه «ألفونك» هذا الكلام داخله الأسف، والتفت قائلا: إني أتأسف أيها الحكيم العاقل، كيف إنك لم تميز بفكرك النير بين الغث والثمين ؟!
ثم أخبره أن «مندان» ليست حبشية، وما هي إلا بنت ملك من أكبر ملوك العالم، وزوجة ملك، ثم أخبره بما أخبرته به «مندان»، وكيف أن والدها أراد قتل ولدها لمجرد رؤيا رآها، وكيف فرت به لما علمت أن والدها يروم قتله، وكيف تركته عند زوجة الراعي، وكان قصدها الذهاب إلى زوجها، فوقفت في هذه الجزيرة، أما تغير لونها؛ فإنه دهان صنعته حين خروجها من قصر أبيها، فلما مكثت شهرا هنا كشف الدهان فعادت لحالتها الأولى.
ولما سمع الوزير منه ذلك ابتسم وانشرح صدره؛ لأنه كان مرتابا في هذا الأمر، فظهرت له الحقيقة، ثم أطلع «ألفونك» على رغبته في الدخول في دينه، وأخذ عليه العهود هو أيضا، ووعده بالاجتماع «بمندان» والمذاكرة بحضرتها.
Unknown page