1 - في منشأ مندان بنت الملك أستياج ملك مادي
2 - في زواج مندان
3 - في خروج مندان، ومولد كورش
4 - فيما جرى في قصر الملك
5 - فيما كان من أمر مندان
6 - في غرام هيان فونك
7 - في منشأ كورش
8 - في غزو مدينة شيراز ومقتل قمبيز
9 - في غرام كورش واحتقاره لنفسه
10 - في قصر شاهزنان
11 - في شعور كورش أنه ابن الملك قمبيز
12 - في سفر كورش ودخوله مدينة شيراز
13 - في دخول كورش مملكة فارس ورجوعه إلى همذان وفتحها وأسر جده
14 - في زواج كورش بشاهزنان وفتح مدينة بابل
15 - في فتح جزيرة صقلية واجتماع مندان بولدها كورش
1 - في منشأ مندان بنت الملك أستياج ملك مادي
2 - في زواج مندان
3 - في خروج مندان، ومولد كورش
4 - فيما جرى في قصر الملك
5 - فيما كان من أمر مندان
6 - في غرام هيان فونك
7 - في منشأ كورش
8 - في غزو مدينة شيراز ومقتل قمبيز
9 - في غرام كورش واحتقاره لنفسه
10 - في قصر شاهزنان
11 - في شعور كورش أنه ابن الملك قمبيز
12 - في سفر كورش ودخوله مدينة شيراز
13 - في دخول كورش مملكة فارس ورجوعه إلى همذان وفتحها وأسر جده
14 - في زواج كورش بشاهزنان وفتح مدينة بابل
15 - في فتح جزيرة صقلية واجتماع مندان بولدها كورش
الملك كورش
الملك كورش
تأليف
زينب فواز
الفصل الأول
في منشأ مندان بنت الملك أستياج ملك مادي
كانت دولة «الماديين» ابتداؤها من سنة 751 قبل الميلاد، وكانت من الدول العظيمة، حكمت زمنا مديدا.
وكان مقر ملكها في بلاد «مادي» المقرونة بآذربيجان والعراق العجمي، وكانت عاصمة بلاد «مادي» مدينة «همزان» وهي مدينة بهجة المناظر حصينة الأسوار، بناها الملك «ديجوسيس» وقيل: «ديوكيس» وجعل لها سبعة أسوار، هيئة كل سور منها لا يعلو عن الثاني إلا بمقدار شراريفه. وكانت تختلف هذه الشراريف بالألوان؛ فجعل الأول أبيض، والثاني أسود، والثالث أزرق، والرابع أحمر، والخامس أرجواني، والسادس فضي، والسابع ذهبي ... هكذا رووه المؤرخون. وفي زمن «هيرودتس» كانت تسمى «أغبطانة».
ومن داخل السور السابع قصر الملك؛ فكان يحتوي على جميع الزينة وبهارج الدنيا التي يعجز عن وصفها الواصفون، وفي داخله محل حصين لحفظ خزائن الملك وكنوزه. وأما الشعب فإنه كان يسكن بين الأسوار.
وكان في بدء روايتنا هذه أحد ملوك «مادي» وهو الملك «أستياج» وكان شديد الحرص على ملكه، قوي البطش، يعبد النار دون الملك الجبار. وكان قد تزوج بابنة ملك «ليديا» فرزق منها ابنة في غاية من الحسن والجمال، فسماها «مندان» ورباها ورتب لها الأساتذة والمعلمين على اختلاف أنواع العلوم، فبرعت في كل فن، وأتقنت كل ما مرت عليه من العلوم حتى صارت تعد من فلاسفة عصرها ونادرة زمانها.
ولما كانت في ذات ليلة جالسة في قصرها فاكرة في أمر الخليقة، وقد اتسع فكرها مما استحصلت عليه من المعارف، وقالت في ذاتها: كيف يتسنى للنار أن تقدر على إبداع هذه المخلوقات، مع ضعفها، إذ إنها لا تتقد إلا بيد بشرية، والقليل من الماء يطفئها؟! فأشغل هذا الفكر الجزء الأعظم من عقلها، وجعلت جل بحثها في هذه الغاية، وكان من جملة أساتذتها رجل جليل القدر، عالي الهمة، خبير بدقائق الأمور، يقال له الكاهن «أرباسيس» وكان كلما حضر بين يديها يرى على وجهها علائم الحيرة والارتباك، فيفكر في ذلك لعله يجد إلى معرفة الحقيقة من سبيل. وبحث في داخليتها، وفتش في أسرارها؛ لئلا تكون انشغلت بسبب طارق غرامي أشغل فؤادها بحب أحد يليق بمقامها، فلم يجد لذلك من أثر.
فاحتار في سبب انشغالها، وصبر يتربص الفرص إلى أن كان ذات يوم طلبت الأميرة «مندان» من والدها أن يأذن لها بالتجول في أنحاء المملكة؛ لأجل أن تزيل بعض ما عندها من الانقباض الذي لم تعلم له سببا، فأذن لها الملك بذلك، وكان يحبها محبة بليغة؛ لفرط جمالها وكمالها ووافر معارفها وآدابها، ولكونها وحيدته ووريثته في الملك، وكان يعتمد على آرائها في الأمور المهمة ... ولما استحصلت على رضا والدها استحضرت الكاهن «أرباسيس» وأخبرته بعزمها، وكانت تعتمد عليه وتذعن لقوله، وتقدمه على جميع أساتذتها، فلما سمع منها ذلك فرح وأيقن ببلوغ المراد، وقال في نفسه: لعلي أطلع على ما في سريرتها، أو أجد منها فرصة على انفراد، فأستطلع ما في نفسها.
فقال لها نعم ما رأيت أيتها الملكة؛ لأن في السياحة فوائد عظيمة منها: رياضة للنفس، وزيادة في اتساع المعار. والاطلاع على عوائد الأمم وعقائدها وأديانها يكسب الإنسان حياة جديدة.
وعند سماع هذه الجملة ظهر الانشراح على محياها، وبرقت أسرة جبينها الزاهر، وقالت: هل في مملكة أبي من يتدين بدين غير ديننا؟
قال: لا بد أن يوجد ذلك، ولو سرا؛ لأن الملك لو علم بهذا الأمر لأهلك من يخرج عن عبادة النار؛ لأنه شديد التعصب لدينه.
فتنهدت «مندان» وشكرته على ما بين لها من هذا القبيل، وطلبت إليه أن يصحبها في سفرها هذا، فلبى طلبها وكان يعزها كابنة له، ويحافظ على عدم تغير إحساساتها، ويحب أن ينفذ أوامرها، ولو مهما كان الأمر خطرا. ولكنه تعجب منها حينما رأى على وجهها علائم البشر وقت ما سمعت منه ما يختص بالأديان، وكان هو أيضا ممن يعبدون الباري تعالى ويمجدونه، ولكنه لا يطلع على ما في ضميره أحدا؛ لأنه يخاف من سطوة الملك، فاستبشر بهذا الأمر، وكتم ما عنده لبينما يتبين الحقيقة.
وبعد ثلاثة أيام هبت الأميرة للسفر، وودعت والدها ووالدتها ومن في القصر، وركبت هودجها، وسارت تحفها الحراس من كل مكان، ولم تأخذ من الخدم الداخلي سوى جاريتين من خواصها فقط، وعلى يمين الهودج الكاهن «أرباسيس»، وساروا يقطعون البراري والقفار مدة ثلاثة أيام، وهم يسيرون بين رياض وغياض. وفي اليوم الرابع وصلوا إلى مكان يقال له المرج الأخضر، وكان في ذلك المكان المعبد الأكبر الموجود في بلاد «مادي» وكان على غاية من الإتقان وحسن البناء وغرابة الموقع، وهو مقام في سهل واسع الأرجاء بهج المناظر ذو غدران دافقة وأطيار ناطقة وأشجار ناضرة وأنوار ظاهرة.
وفي داخل المعبد 800 غرفة لنزول الزائرين، وهي في غاية الإتقان والنظام التام، مفروشة على نسق ذاك الزمان، لا تنقص عن غرف الملوك شيئا، بل تزيد إتقانا؛ لأنها تختص بالآلهة التي تعبدها الملوك، وفي وسط هذه الغرف حجرة الملك. وكان يزور هذا المعبد كل عام في أيام العيد ، ويتقرب إلى النار بذبح العدد الوافر ممن يعبدون غيرها، ولما حضرت الأميرة «مندان» خرجت المرازبة لملاقاتها على مسافة أميال، وكانت البشائر قد أتت إليهم من قبل بأمر «أرباسيس» فدخلت الملكة المعبد يحفها الحراس، وقد زين لها الهيكل بأنواع الزينة، وبعد أن أخذت لنفسها الراحة من وعث السفر، أمر الموبدان الأكبر خدمة النيران أن يوقدوها بالعود والند والصندل، وجميع الأخشاب العطرية، وأمرت الملكة «مندان» أن يخرج الجميع، ولا يدخل معها أحد سوى أستاذها «أرباسيس» لئلا يشغلها كثرة الناس عن العبادة. فأذعنوا لأمرها، وخرج الجميع، ودخلت هي و«أرباسيس».
وفيما هي داخلة من باب الهيكل إذ نظرت إلى مخدع عن يمين الداخل فيه ثلاثة أولاد لا يتجاوز أحدهم الأربع من سنيه، وقد وضع كل منهم في قفص حديد، وأمامه الماء والطعام، فلما نظرت الملكة إلى الأطفال اقشعر جسمها والتفتت إلى «أرباسيس»، وقالت له: ما سبب حبس هؤلاء الأطفال أيها الأستاذ، ومالي أراهم يحافظون على حياتهم من الجوع والعطش؟
قال: إنهم قربان للنار يا مولاتي! وإن محافظتهم على حياة الأطفال لأجل أن تلهمهم وهم في قيد الحياة؛ ليكون ذلك أبلغ لرضاها عن عبادها!
فتنهدت وقالت: وما حظ النار من أكل لحم البشر وفقد الأرواح.
وكان قد نظر إلى وجه «مندان» فوجد بشائر نور الإيمان تلوح على محياها، فتجرأ على إرشادها إلى طريق الصواب. فقال: مولاتي إن النار مخلوقة من مخلوقات الله تعالى، سخرها لعباده لينتفعوا بها، وليس لها سمع لتعي كلامنا، ولا بصر لتنظر إلى أفعالنا، بل أعجز من العاجز. ولا يجوز لبشر أن يعبد غير الله تعالى الذي خلق السموات والأرض وما بينهما، وأحصى كل شيء عددا، وقدر الأرزاق والأعمار، ونظم الكون بقدرته - سبحانه وتعالى عما يصفون.
فلما سمعت كلامه تلألأ وجهها، وانشرح صدرها، وقالت: وأين هذا الإله العظيم حتى أعبده أيها الأستاذ؟ أرشدني إليه لأني منذ أيام أفكر في أمر النار وعبادتها. ومن هو الإله الحقيقي الذي يجب أن يعبد؟ فمن هذا السبب كنت تراني دائما منقبضة النفس ضيقة الصدر، ولا أجد لي من ألقي إليه نتيجة أفكاري، ولا من يرشدني إلى طريق الهدى!
قال: يا مولاتي! هو الله الذي في السماء عرشه، وفي الأرض بطشه، يرى ولا يرى. وهو في المنظر الأعلى لا ينبغي لأحد أن يراه، وقد جل عن الوصف، وإني قد حيرني أمرك، وأشفقت على نضارة شبابك من ذلك الانقباض، وبحثت فلم أهتد إلى الحقيقة، والآن ها نحن - والحمد لله - قد ضمنا الدين القويم، وسألقي عليك بعض ما علمته من العلوم الدينية.
فشكرته «مندان» على ما أولاها من الهدى، ثم قالت: ولكني أود أن أسعى في خلاص هؤلاء الأطفال قبل سفري من هذا المكان.
قال: يا مولاتي، إن ذلك من أصعب الأمور.
قالت: إنه علي هين بمساعدة الإله الأعظم.
ثم نهضت ودخلت حجرتها، وأحضرت الموبذان الأكبر، وأنعمت عليه بالخلع والهدايا، وأحسنت إليه فدعا لها، وقال: باركت النار فيك أيتها الملكة، وأكثرت فينا من أمثالك!
ولما علمت منه أنه راض عنها، قالت له: إن النار قد رضيت عني، وعلمت ذلك؛ لأنها منحتني ثلاثة أنفار من أسراها.
قال: يا مولاتي، من هم هؤلاء الأسراء الذين غضبت عليهم النار، ولم تقبلهم لها قربانا؟!
قالت: إنهم الثلاثة أطفال الذين داخل الهيكل.
قال: إنهم أولاد أكابر البلاد، وهم منذورون من أهاليهم ليقدمونهم قربانا للنار، وأخاف إن لم أقدمهم أن يحدث من ذلك فتنة يقوم بسببها حرب ضدنا وضد الملك، وأما أنا فإني أريد أن أنفذ أوامرك، ولا أغضب النار.
قالت: اعلم أيها الموبذان أن الأمر بيد الآلهة، ولا بد أن يكون النذر غير مقبول حتى إنها لم تقبلهم، وربما إن قدمتهم لها تغضب من أجل ذلك.
قال: وكيف الخلاص من هذا الأمر الخطير، والباقي على وقت الاحتفال مدة ثلاثة أيام؟ وقد أخرنا هذا اليوم إلى وقت حضور الملكة، ولولا ذلك لكان قضي الأمر.
قالت: فلنتدبر بأية حيلة كانت، وننفذ أمر الآلهة.
فوعدها بإتمام مرغوبها وخرج. وأما هي فإنها أرسلت إلى «أرباسيس» وأخبرته بما تم بينها وبين الموبذان، ففرح وأبدى لها واجبات الشكر على حسن تدبرها ودرايتها.
ولما جن الليل دخل الموبذان إلى خلوته، وكان عنده تلميذ نبيه، حاو على أنواع المكر والحيل، فأرسل له وأخبره بما دار بينه وبين الملكة من الكلام، وقال له: يا ولدي، إن الربة قد وهبت هؤلاء الأطفال للملكة، وليس علينا خوف من غضبها، ولكن ما الحيلة في مرضات الأهالي وأهل الأولاد؛ لأنه لو ظهر للناس أن النار لم تقبلهم لبقي فيهم العار إلى آخر الأبد، وصارت فيهم وصمة لا تمحوها الأيام، وربما سبب من ذلك فتنة أثارها عائلات الأولاد تخلصا من العار؟!
فقال له: يا أستاذي! إني أنا المدبر لهذا الأمر، ولكن أريد المهلة قدر أسبوع على الأقل حتى أجد وقتا لاستنباط الحيلة.
قال: وما الذي تريد أن تفعله، أخبرني به حتى أكون على بصيرة من أمري!
قال: أريد أن أصنع ثلاثة تماثيل يشبهون الأولاد، وألبسهم الملابس الفاخرة، وأجعل إلقائهم في النار بأمر الملكة، وأن لا يقرب منهم أحد إلا الموبذان الأكبر، وحينئذ تفعل بهم ما شئت، ويصير الاحتفال كباقي الاحتفالات، وتلقيهم بيدك ليكون الفخر أعظم.
فقال الموبذان: نعم ما رأيت يا ولدي! فأسرع للعمل.
وأمر له بما يكفيه لصنع التماثيل، فأخذه وخرج، ثم جد في عمله.
أما الموبذان، فإنه استأذن على الملكة، فأذنت له، ولما تمثل بين يديها أخبرها بما تم بينه وبين التلميذ من الرأي، فراق ذلك لديها وشكرته، ومدته بمال، وقالت: كيف الرأي في إخفاء الأولاد؟
قال: يا مولاتي، لما تتم التماثيل نضعهم في محلهم ليلا، ونخرج الأطفال سرا، فلا يعلم بذلك أحد.
وكان «أرباسيس» سامعا لما دار بينهما، فقال: لا يتأتى لنا إخفائهم إلا بأحد أمرين: إما وضعهم في صناديق، وإما تغيير ألوانهم وملابسهم، وهذا الرأي عندي أسهل؛ لأنني أعرف مركبا لو طلي به جسم الإنسان يصير حبشي اللون، لا يفرق عن الحبش شيئا، ولو غسل بالماء يوميا لا يتغير إلا بعد شهر على الأقل.
فقالت «مندان»: لا عدمتك من أستاذ فاضل! تسعى بكل ما يرضي الربة.
واتفق رأيهم على ذلك، وانفض المجلس، وفي تمام الأجل المضروب أحضرت التماثيل، ووضعوهم داخل المعبد بغاية كل تحفظ، وأخرجوا الأولاد، وطلي جسمهم بذلك العلاج، وألبستهم ثياب الخدم، وسلمتهم للجاريتين، وأوصتهما بهم. وفي ثاني يوم احتفل بتقديم القربان للنار، وزين ذلك المكان، واصطفت العساكر، ولعبت في ساحة الهيكل، وذبحت الجذر على نفقة آباء الأولاد، وهم في فرح زائد كأنهم يقدمون أولادهم إلى حفلة العرس. ولما حان وقت تقديم الضحايا دخلت الملكة إلى داخل المعبد، ووقفت أمام النار، وأمرت ألا يقترب إليها أحد، ثم تقدم الموبذان، وأخرج أول طفل وقدمه أمام الملكة لأجل أن تتبرك به فمدت يدها، ومسحت على رأسه، وتلت بعض كلمات على مقتضى ديانة المجوس، وأمرت بأن يلقى في النار، ثم عجلت بإلقاء الاثنين الآخرين، وهللت الجموع، وأنشدوا الأناشيد التراجديه، وابتهج ذلك النادي كأنهم أدوا فريضة دينية.
وقد التهمتهم النار، وكانوا من الخشب المكسي بالجلد المدبوغ، ومطلي بدهان كلون الإنسان، وبعد أن فرغوا من تقديم الضحايا، ولعبوا الألعاب المختلفة، قدموا الطعام والشراب المروق فأكلوا وشربوا، وعزفت آلات الطرب، وتقدم بعد ذلك كافة الموجودين، وهنأوا آباء الأولاد بهذه النعمة التي نالوا بها رضاء الربة، وصار لهم بذلك الشرف الأعظم، ثم أجلسوهم في صدر المجلس، ووضعوا على رءوسهم أكاليل الزهور.
وبعد ذلك انصرف الجميع، وأنعمت الملكة على ذلك التلميذ الذي صنع التماثيل، وعلى جميع الخدم، وودعت الجميع، وانصرفت من ذلك المكان خوفا من أن ينكشف الأمر، ويصعب إصلاحه. وفي الحال حملت الحمول، وركبت الملكة، وساروا في طريقهم وقد فرحت وحمدت الباري تعالى الذي جعل خلاص هؤلاء الأطفال على يدها، وقدرها على حقن دمائهم الطاهرة البريئة من كل دنس.
الفصل الثاني
في زواج مندان
وبعد أن تجولت في أنحاء تلك المملكة الفسيحة رجعت إلى عاصمة ملكها، وسلمت الأولاد إلى «أرباسيس» ليعلمهم العلوم، ويزرع في قلوبهم العلوم الدينية الحقة، وقد جعلت لهم مرتبات تكفي لأن تجعلهم كأولاد الملوك، ووضعت اسم الأول «بركزاس»، والثاني «روبير»، والثالث «فانيس»، وفي تلك الأيام جاء للملك أحد ملوك فارس، وهو الملك «قمبيز»، وطلب إليه «مندان »، وكانت في ذاك الوقت مملكة فارس تحت سلطة ملوك «مادي».
ولما كان يعلم من عدالة ذلك الملك، وحسن سيرته، وإطاعته له، فأنعم له بها، وقد زوجت «مندان» «بقمبيز»، وحملها معه إلى بلاد فارس، وكانت عاصمة مملكته مدينة «شيراز»، وكان اسمها في ذاك الوقت «أسكيراز»، وعمل في زفافها ما يلزم لبنات الملوك، وزينت «شيراز» بأنواع الزينة، وأقيمت الأفراح مدة أربعين يوما اجتمع فيهم أهالي المملكتين «ميديا» وفارس، وبعد إتمام الأفراح رجع كل منهم إلى مكانه.
وبعد ذلك بما ينوف عن مدة أشهر رأى الملك «أستياج» رؤيا هائلة أزعجته وأشغلت أفكاره، فأحضر الكهنة، وقال لهم: إني رأيت كأن ابنتي «مندان» جالسة في قصرها، وقد خرج من حضنها كرمة، فامتدت غصونها حتى إنها ظللت آسيا وأقاليمها أجمع، وقد هالني أمرها، ونهضت من فراشي خائفا مذعورا، وقد أحضرتكم لتخبروني بتأويل رؤياي هذه إن كنتم تعلمون!
فأجابوه: أن الملكة ستلد ولدا يحكم على جميع ممالك آسيا، ويتولى على مملكة «مادي».
ولما سمع الملك ذلك راعه جدا، وتأثر تأثيرا شديدا، وخاف على مملكة «مادي» من تسلط الفرس، ولكنه كتم ما في نفسه إلى أن جن الليل، وكان عنده رجل من كبار قواده يقال له «أرباغوس»، وكان يعتمده في كل أموره، فاستحضره في خلوة، وقال له: لقد حيرني أمر هذه الرؤيا، فأشر علي بما ترى.
فقال له: يا سيدي! ليس عندي من الرأي إلا أن تستحضر الملكة، وتحبسها عندك فلا تلد أبدا، وإن كانت حاملا يصير إعدام الطفل بعد الوضع. فاستصوب الملك هذا الرأي، وأرسل في طلب ابنته «مندان»، وكانت حاملا في أشهر قريبة الوضع، ولما حضرت دخلت في قصر والدها، وكان «أرباسيس» يعلم سر المسألة، فعزم على أن ينذرها ويخبرها بما في نية الملك من إعدام جنينها، فأرسل يستأذن عليها بالدخول، فأذنت له وقد سلم كل منهما على الآخر بغاية كل فرح وسرور، وقد سألته عن الأولاد الثلاثة الذين سلمت أمرهم إليه، وقالت له: أريد أن أصحبهم معي في هذه المرة. وقد سألته عما يحسنون من العلوم والفنون.
قال: يا مولاتي! إنهم في غاية النجابة والذكاء، ولكن كل منهم يميل بالطبع إلى علم من العلوم؛ لأن «بركزاس» يميل إلى ركوب الخيل، وتعلم فنون الحرب، وأما «فانيس» فإنه يميل إلى الفلسفة وعلم الطبيعة، والبحث في غوامض الأشياء، وأما «روبير» فإنه يميل إلى فن العيارة؛ لأنه لص محتال يقدر على استنباط الحيل الغريبة على صغر سنه. وإني أرى لو أذنت الملكة بإتمام تعليمهم لكان أوفق!
قالت: شأنك أيها الأستاذ وما تريد، ولما يتم تعليمهم ترسلهم لي، ولكن بدون أن يعلم بهم الملك.
قال: سمعا وطاعة! ثم تنفس الصعداء، وقال: يعز علي أن أخبرك بأمر كتمانه عنك يحدث ضررا عظيما.
قالت: وما هو هذا الأمر أيها الأستاذ الشفوق؟
قال: يا سيدتي، إن الملك في عزمه أن يهلك ما في بطنك، وذلك بسبب حلم رآه.
ثم أخبرها بكل ما تم، وصمم عليه الملك، وكيف أرسل في طلبها لأجل هذه الغاية، وأشار عليها بعد ذلك أن تهرب بولدها؛ لأنه سيكون له شأن عظيم، فارتبكت «مندان» في أمرها المزعج، وقالت: وا ويلتاه! ماذا أصنع؟! وكيف العمل؟! أرشدني إلى طريق الصواب وإلى أين أذهب!
قال: يا سيدتي خفضي عنك ولا ترتاعي، فعندي رأي مفيد أعرضه عليك، وهو: أني سآتيك بالدهان الذي استعملناه في إخفاء الأولاد حينما كنا في معبد النار، وبعد أن تطلي به جمسك، وتلبسي ملبوس الخادمات، وسأرسل أحد خدمي الأمناء ينتظرك خارج القصر، وتخرجي ليلا، والحذر ثم الحذر من أن يعلم أحد بما دار بيننا؛ لئلا يعلم الملك فيهلكنا جميعا؛ لأنه مهتم لهذا الأمر أشد الاهتمام.
ثم ودعها وخرج، ودخلت هي إلى مخدعها، وأخرجت ما يلزم لها في السفر، وطلت جسمها بذاك الدهان الذي أتاها به أستاذها، وكان الخادم في انتظارها خارج القصر، ففتحت النافذة المشرفة على الحديقة الخارجية، ورمت حصاة، فأجابها من الخارج الخادم، وكان تحت النافذة شجرة مرتفعة جدا تكاد أن تفوق ارتفاع القصر، وكان اتفاقها مع أستاذها أن تنزل من تلك الشجرة.
والخادم ينتظرها بسلم لتسهيل نزولها إلى أسفل خوفا عليها أن يلم بها ضرر وهي حامل، وحفظا للجنين.
الفصل الثالث
في خروج مندان، ومولد كورش
فلنترك «مندان» هنا ونرجع للوزير «أرباغوس»، فإنه بعد أن أشار على الملك بقتل حفيده طرق عليه الخوف، ورجع إلى فكره، وقال في نفسه: ماذا فعلت في أمر الملكة، وماذا يصيبني إذا عملت بما دبرته لها ولولدها، وكيف بي إذا تولت زمام الملك بعد والدها، وليس له وريث سواها؟!
ولما عظم لديه هذا الفكر ضاق له صدره، ودخل على زوجته، وأخبرها بما كان، وأطلعها على ما لاح في فكره من أمر الانتقام لو علمت الملكة بما دبر لها، فقالت له: تلاف الأمر أيها الوزير، وأخبر «مندان» بما يريد الملك، ومن ثم تكون هي على نفسها بصيرة، فتدبر أمرها بنفسها، وتكون لك من الشاكرين.
قال: نعم الرأي! ولكن أخاف أن يطلع على دسيستي أحد، فيوشي بي إلى الملك، وتكون الأخرى أشر من الأولى، ونكون عجلنا الوقوع في المصيبة، وإن انتظرت إلى حين وضعها، وآخذ الجنين، وأعمل على خلاصه أخاف أن يسلمه لغيري، فلا أقدر أن أنتشله من مخالب الموت.
قالت: اخرج لها في هذه الليلة بدون أن يشعر بك أحد وأنذرها؛ لئلا تكون قريبة الوضع، فلا تقدر على خلاصها.
فأزعن الوزير لكلام زوجته، وخرج إلى جهة القصر بملابس خفية، وصار يتربص الفرص، ولما دنى من جانب الحديقة سمع هناك حركة أوقفته عن التقدم إلى الأمام، فوقف ينتظر ماذا يكون - وكان الظلام حالكا - ولما سمع صوت وشيش الشجر تقدم قليلا، وقد سمع صوتا رخيما يقول: تقدم مني أيها الأمين؛ لأني أشرفت على السقوط.
ولما سمع الوزير ذلك سار إلى الأمام، فوجد الخادم صعد إلى أعلى الشجرة أخف من النسيم، وأسرع من البرق، وأدرك «مندان»، وأخذ بيدها، وأنزلها إلى أسفل الشجرة بغاية التأني، وكان الوزير قد صعد على درجتي السلم، وقال بصوت منخفض: انزلي يا مولاتي ولا تخافي من شيء.
ولما سمعت «مندان» ذلك ارتعبت ووقفت في مكانها، ولما رأى منها ذلك تقدم إليها، وسكن روعها ، وقال: يا سيدتي فإني ما أتيت إلى هنا إلا بقصد خلاصك من الشر المحاط بك.
قالت: من أنت؟
قال: أنا «أرباغوس»، وليس هذا وقت الكلام، انج بنفسك أيتها الملكة. ومن ثم أخذ بيدها مع الخادم، وأنزلها بغاية الاحتراس، ولما صاروا خارج السور، وجدوا هناك «أرباسيس» في انتظارهما، وحينما رأى معهما رجلا ثالثا تعجب، واحتار في أمره، وكان قد أحضر مطيتين من الخيل الجياد، والثالث له، وأركب «مندان»، ثم ركب، وأمر الخادم بالركوب، فقال الخادم: لا يمكنني الركوب مع وجود دولة الوزير.
ولما سمع ذلك «أرباسيس» أخذته الدهشة، وكان يعلم أنه هو السبب بإساءة «مندان»، وقد نظر الوزير إلى تعجبه واندهاشه، وكيف توقف عن المسير، فتقدم إليه، وقال: أحسن ظنك بي أيها الأستاذ، ولا تعجل بشيء حتى تتصور سر المراد من هذا العمل، ولا تخشى مني أبدا، وعندما نصل إلى محل الأمن أنا أخبرك بسبب وجودي معكم.
ولما سمع الكاهن منه ذلك اطمأن نوعا، وقدم له المطية فركب وساروا، والخادم يعدو أمامهم إلى أن وصلوا إلى أول باب، وكانت المدينة بسبعة أسوار - كما قدمنا - والحراس تحيط بهم من كل صوب، ولما قربوا إلى الباب اعترضهم الحراس، وأرادوا منعهم، وحينئذ تقدم الوزير وقال: افتحوا لنا الأبواب؛ لأني أريد أن أتفقد الأبواب، وأنظر في حالة الجند وماذا يصنعون.
ولما علم الحراس أنه الوزير فتحوا الباب بدون مراجعة، فعبروا أول باب، وساروا قاصدين الثاني، وكان بين الأسوار منازل الشعب - كما أسلفنا - وهكذا حتى خرجوا من الباب الثالث، وهناك أشرق الفجر. ولما ظهر نور الصباح قال الوزير: يلزم رجوعي، ولكن لا آمن على الملكة من أن يصيبها سوء حتى تخرج إلى خارج المدينة.
ثم جدوا في المسير إلى أن بلغوا الباب الرابع، وهناك وجدوا أحد الجنود خارجا من داخل البرج، فطلب إليه الوزير أن يفتح الباب على حسب العادة في الأبواب السالفة، فامتنع الخفير وقال: لا يمكن أن أفتح الباب إلا أن تعلموني من أين آتين وإلى أين ذاهبين!
فقال «أرباسيس»: نحن من خدام الملك ، وقد أمرنا أن نذهب إلى المعبد الأكبر بهذه الجارية لتتوسل أمام النار لنأذن لها بالشفاء؛ لأنها مريضة منذ أشهر.
قال: ولكني أرى لها شأنا؛ لأن الوزير سائر في ركابها، وهي جارية حبشية على ما أرى. وكان هذا الحارس له بالوزير معرفة تامة، فاحتار الوزير في أمره عند سماع هذه الجملة، وقال في نفسه: كيف الخلاص من هذا الرجل، فإذا استعملنا معه القوة استنجد بباقي الجند، وافتضح الأمر، وحبط المسعى؟!
ثم تقدم الوزير إلى الأمام، وقال: افتح الباب أيها الرجل وإلا لا عذر لك بعد المعرفة.
فالتفت إليه الرجل، وقال: نعم سأفتح، ولكن سيظهر ما أنتم صانعون.
ثم فتح الباب وخرجوا جميعا، وتخلف الخادم، وقال للرجل: كيف تتجرأ على الوزير بالمنع؟! أليس هو سر الملك، فكيف تمنعه وهو ربما يكون متوجها لأمر يخص الملك، ولا يريد أن يطلع عليه أحد سواه؟!
فهز الخفير أكتافه، ولم ينطق بشيء، وصار الخادم يتبعهم، ولم يزالوا سائرين إلى أن خرجوا من الباب السابع، وهناك ودع الوزير «مندان» بعد أن أخبرها بكل ما حصل من أمرها وأمر الملك، ورجع وقد أوصى «أرباسيس» بسرعة الإياب؛ لئلا يعلم الملك بغيابه، فيلقي عليه الشبهة باختفاء «مندان» فشكره «أرباسيس»، وسار كل منهم في طريقه.
أما «مندان» ومن معها فساروا يقطعون القفار إلى أن ابتعدوا عن المدينة مسافة نصف يوم، وفي غضون ذلك التفتت «مندان» إلى أستاذها، وقالت: أراني عجزت عن أن أخطي خطوة واحدة أيها الأستاذ.
فلما سمع ذلك اندهش وقال: تجلدي يا مولاتي لنصعد على قمة هذا الجبل؛ لئلا تدهمنا الخيل، فيأخذوننا إلى الملك؛ لأنها الآن في طلبنا بدون شك.
قالت: لا سبيل إلى ذلك؛ لأنه قد اشتد علي المخاض، وإني عاجزة عن القيام بما أمرت.
وحينئذ صعد الخادم إلى أعلى الجبل بقصد أن يجد لها محلا يأويها إليه عن عيون المارة، مثل كهف أو غيره، ولما صار على سطح الجبل وجد على بعد خصا لأحد الرعيان فقصدة، ولما دنى منه وجد امرأة جالسة على الأديم فحياها، وسألها عن أمرها، فقالت: أنا «سباكو» زوجة «ميترادات»، رئيس رعيان الملك، وقد ذهب زوجي لدفن غلام لي مولود منذ ثلاثة أيام، فانتظره على الرحب والسعة.
فقال: لا بقصد الضيافة أتيت، ولكن معي جارية حبشية، وهي زوجتي، وقد خرجنا من المدينة بقصد زيارة المعبد، وحيث أنها حامل، ولم تقدر على قطع الطريق، وقد وافاها المخاض، فأرجوك قبولها عندك حتى تضع حملها.
فقالت: أين هي الآن؟
قال: إنها في سفح الجبل.
قالت: انزل وآتني بها، فأنا أدبر أمرها بنفسي.
ففرح الخادم وأسرع إلى مولاه، وقال: أبشر يا سيدي! فإنني وجدت من يدبر شأن مولاتي الأميرة.
وأخبره بما تم مع زوجة الراعي، ثم قال: يلزم رجوع سيدي إلى المدينة، ودعني أنا معها إلى أن يفعل الله ما يشاء.
فاستصوب رأيه، وأصعد «مندان» إلى أعلى الجبل، وقد استقبلتها زوجة الراعي بكل حنان، وكان قد اشتد عليها المخاض، وأوهى جلدها، فأسرعت بها إلى داخل الخص، وجهزت لها ما يلزم، وبعد برهة قليلة، وضعت غلاما ذكرا كأنه الهلال، فتلقته «سباكو» بقلب شفوق، وأحنت عليه ضلوع الرأفة، ووضعته على ثديها الممتلئ لبنا - وقد كنا أسلفنا أنها وضعت منذ ثلاثة أيام، وحين حضور الخادم إلى عندها كان زوجها توجه ليدفن ولدها المائت - ولما رأت «مندان» ولدها ابتهجت، وانشرح صدرها لما نظرت إلى محياه، ومدت يدها إليه وتناولته وقبلته، ورفعت طرفها إلى السماء، وقالت: اللهم إني أتوسل إليك بعظمتك الإلهية، وعزتك الجبروتية أن تحفظ ولدي من كل سوء، ومن كل عدو، إنك قادر على كل شيء! ثم قبلته قبلات عديدة، وسلمته إلى «سباكو».
وقالت لها: إني سميته «كورش» (ومعناه الشمس)، فاحفظيه عندك إلى حين رجوعي، وإن لم أرجع فهو ولدك، فإني سأتوجه إلى المعبد من وقتي هذا. وكان قصد «مندان» بترك ولدها خوفا من أن يدركها أحد من جيوش الملك فيظهر أمرها بوجود الطفل معها.
وبعد أن أخذت لنفسها قليلا من الراحة، توجهت هي والخادم قاصدة بلاد فارس.
الفصل الرابع
فيما جرى في قصر الملك
وكان الملك «أستياج» في صباح تلك الليلة جالسا في غرفته الخصوصية ينتظر حضور ابنته كعادتها فلم تحضر، فانشغل فكره بأمرها، وظن أنها وضعت لعلمه بقرب أيام الوضع، وبينما هو كذلك يضرب أخماسا لأسداس، ويدبر حيلة يهلك بها الطفل، وإذا بالجارية الموكلة بحفظ «مندان» ومراقبة ولادتها قد دخلت على الملك مرتجفة الأعضاء منحلة العزائم شاحبة اللون. ولما رآها الملك على هذه الصورة قال: ما وراءك أيتها الجارية؟
قالت: حدث أمر أوجب القلق، وحير الأفكار، وهو أن سيدتي «مندان» قد فقدت في هذه الليلة، وقد بحثنا في كافة أنحاء القصر، فلم نقع لها على خبر، ولا وجدنا لها أثرا! فلما سمع الملك هذا النبأ طار عقله من دماغه، وقال: علي بالوزير «أرباغوس».
ولما حضر قال له الملك: انظر أيها الوزير ماذا جرى «لمندان»، وكيف خرجت من القصر، ولا أعلم كيف خرجت، ولا إلى أين ذهبت؟! فأرسل الآن فرقة من العساكر لأجل أن تمسك عليها الطريق حتى لا يتسنى لها الهرب.
فقال الوزير: لا يمكن أن تكون خرجت من المدينة، فلنبث العيون في أنحائها لعلنا نقع لها على خبر.
وكان قصد الوزير بذلك انشغال العسكر بالتفتيش داخل المدينة؛ لبينما تكون قد سلكت طريق السلامة، ثم استأنف الكلام، وقال: وإذا أراد سيدي أن أمسك الأبواب على المارة؛ لئلا تخرج في هذا اليوم من المدينة؟
فقال الملك: نعم ما رأيت أيها الوزير! ولكن أسرع قبل فوات الوقت. فسار الوزير وأصدر أوامره على العساكر، فانبثت في أنحاء المدينة، يفتشون المنازل والطرق والحارات، ومنهم من أمسك الأبواب السبعة، ولم يزالوا كذلك إلى ما بعد الغروب، فلم يجدوا لها خبرا، ورجعوا إلى الملك بخفي حنين!
فغضب الملك غضبا شديدا، ودخل إلى حجرته حزين القلب باكي العين، ولم يجسر أحد من الناس أن يكلمه في شيء ما.
وكنا أسلفنا أن أحد الحراس قد تعرض للوزير حين خروج «مندان»، وكان بينه وبين الوزير حقد قديم.
ولما رأى الناس في ارتباك وتفتيش على الملكة «مندان» لم يشك أن التي رآها في تلك الليلة هي «مندان»، وأن الوزير له يد في إخفائها، فقال في ذاته: إني لا أجد لترقيتي وتشفي غلتي من هذا الوغد خير من هذه الفرصة.
ثم لبس آلة حربه، وامتطى جواده، وسار إلى جهة قصر الملك، وكان الوزير بعد أن انتهى من آداء ما يجب من البحث والخدمة اللازمة توجه إلى منزله مطمئن الخاطر على نفسه وعلى «مندان»، وأخبر زوجته بما تم ففرحت بخلاص «مندان»، وشكرته على ذلك.
أما الحارس فإنه لم يزل سائرا إلى أن بلغ قصر الملك، واستأذن عليه، فأذن له بعد الممانعة من الحراس وغيرهم، وبعد تأدية ما يجب من الخدمة، قال له الملك: ماذا تريد، ومن أنت؟
قال: أنا أحد حراس الأبواب، وقد رأيت البارحة أمرا لم أشك في خيانة الوزير «أرباغوس».
ثم أخبره الخبر، ولكن لم يقل له إنها حبشية اللون تأكيدا للتهمة، وكان الملك يعتمد على «أرباغوس»، ويلقي إليه مقاليد الأمور، ويرتكن عليه في جميع أموره، ولما سمع من الجندي هذا الكلام احتار في أمره، وافتكر قليلا، ثم رفع رأسه، وقال: اكتم ما قلت لي أيها الجندي. وأذن له بالخروج فخرج، وهو يمني نفسه بكل خير.
أما الملك فإنه تذكر ماذا يصنع مع «أرباغوس»، وكيف أنه كان السبب بقدوم «مندان»، وكيف تسبب بخلاصها، وقد عظم عليه هذا الأمر، وتوسم الخيانة في الوزير، وقد قصد تدبير الحيلة لمضرته بأي سبب، ولكي يكون الجزاء من جنس العمل، وكان لهذا الوزير ولد وحيد يعزه ويحبه محبة فوق العقول لما عنده من النجابة والأدب، فأرسل الملك له فحضر وسلم، فأمر له بالجلوس فجلس، وقد أظهر له الملك كل بشاشة، وسأله ماذا يفعل بأمر ابنته «مندان»، وقال: لا بد أن يكون لها من بلغها خبر الإيقاع بالجنين، فلأجل ذلك تجشمت أخطار الهرب لتنجو بطفلها.
قال: لا يبعد ذلك أيها الملك، وإلا فما الموجب لهربها تحت جنح الليل، ولكن أملنا وطيد بأننا سنعثر عليها في قريب من الوقت.
فسكت الملك عن الجواب برهة، ثم غير الموضوع، وقال: أريد أن تكون ضيفي في هذه الليلة، وتأتي بولدك معك؛ لأني لم أره منذ مدة.
قال: سمعا لأمر الملك.
ولما رجع إلى منزله قال لزوجته: أحضري ولدك ليتهيأ لمقابلة الملك.
فقالت وقد خفق قلبها: ماذا يصنع الملك بولدي أيها الوزير؟
قال: لا أدري ماذا يصنع به! ولكني لا أعلم ماذا أقول! وأخاف إن لم أمتثل أمره يمثل بي وبولدي معا ويقتلنا شر قتلة.
فسكتت زوجته على مضض، وأحضرت الغلام وألبسته أحسن الملابس، وأرسلته مع والده إلى قصر الملك، ولما وصل إلى أول باب وجد جملة من أولاد الوزراء والحاشية، فاطمأن قلبه ودخل، ثم انخرط الغلام بين هؤلاء الحدثان، ودخل «أرباغوس» فوجد جملة من حاشية الملك، فسلم وجلس في مكانه على حسب العادة. وكان الملك أمر الخدم أن يذبحوا ابن «أرباغوس»، ويقطعوا الرأس واليدين، ويضعوهم في سلة، وبعد الفراغ من الطعام يقدموهم بين يديه، ويكشفوا الغطاء، ففعل الخدم بما أمرهم الملك. ولما رأى وجه ولده وبقاياه طاش لبه وذاب قلبه، وغاب عن الوجود، ولكنه تجلد على مضض، وأظهر الحزم، وأخفى حزنه، وقال: كل ما فعله الملك، هو مقبول عندي لا أراجعه فيه، ولم يخرج ولدي عن كونه أحد رعاياه، وفرع من دوحة فضله.
فقال الملك: إنما فعلت ما فعلت لتصير مثلي عديم الولد؛ لأني صرت كذلك بسببك، وأنت تكون عديم الولد بسببي؛ لأن «مندان» أنت الذي أشرت علي باستحضارها، وأنت الذي أخبرتها، وأخرجتها من المدينة، وقد عفوت عنك، واكتفيت بهلاك ولدك، وأقرك على عملك.
فشكره الوزير وانصرف إلى منزله حزينا كئيبا، ودفن عظام ولده، وأقيمت الأحزان في دار الوزير، ولبست والدته ومن في القصر الحداد، وهكذا تم الأمر بين الوزير «أرباغوس» والملك «أستياج».
الفصل الخامس
فيما كان من أمر مندان
قد كنا تركنا «مندان» سائرة مع الخادم على طريق بلاد فارس، ولم يزالا سائرين إلى أن بلغا شاطئ البحر، فوجدا هناك سفينة سائرة إلى فارس، فالتمسا من الربان أن يصحبهما معه، فلبى طلبهما وركبا، وسارت السفينة تشق عباب الماء إلى منتصف الليل. وكانت «مندان» قد شغلها تعب السير، وتعب النفاس عن كل شيء، فانطرحت في جانب السفينة لا تعي على شيء مما هنالك. وإذا هم بالبحر قد هاجت أمواجه، وأزبد وألقت الرياح كل قواها على تلك السفينة الضعيفة، حتى صارت تلعب بها كلعب الأسد بفريسته أو الهر بصيدته، هذا وقد تقطعت حبالها، وتكسرت سواريها، وقد غاب رشد الربان والركاب والملاحون جميعا من هذه النازلة، ويئسوا من الخلاص، وابتهلوا بالدعاء كل على قدر دينه؛ فمنهم من يستغيث بالله تعالى، ومنهم من يطلب من النار الخلاص، ومنهم من يستنجد بالأصنام، وهكذا، إلى أن أشرق الفجر، وقد ألجأتهم الأمواج إلى شاطئ جزيرة هناك آهلة بالسكان، عامرة بغاية الحضارة والزخرف، ولها ملك يقال له «جرمانوس»، وهو يعبد الأصنام دون الملك العلام.
ومن ضمن تلك المعبودات كبش عظيم الخلقة أبيض اللون، وقد بنى له قبة عظيمة، وزينها بزخارف الزينات البديعة المنظر، وأفرض لخدمته جارية خصوصية تقوم بكل ما يلزم له من أكل وشرب وتنظيف. وكان في ذلك اليوم الذي رست فيه السفينة التي فيها «مندان» على الجزيرة قد توفيت تلك الجارية الموكلة بخدمة الإله، فصار الخدم يبحثون على جارية بأمر الملك غير تلك الجارية، ولما رأوا السفينة تجاروا إليها على قدم السرعة بصفة كونها تجارية، ولما صعدوا على ظهرها، وجدوا «مندان» جالسة، فقال أحدهم للربان: لمن هذه الجارية؟
قال: لأحد الركاب، وها هو الآن معنا.
قال الجندي: علي به.
فأحضروا «أديوس» الخادم، فقال له: بعني هذه الجارية.
قال: ليست هي للمبيع حتى أبيعها، بل هي زوجتي.
قال: لا بد من ذلك؛ لأن الإله جالس وحده، وليس عنده أحد.
فمانع «أديوس» بكل طاقته فلم يجد دفاعه نفعا، وهجم الخدم على «مندان» وأنزلوها إلى الزورق، وهي تبكي وتنتحب، وساروا بها إلى الجزيرة، وأدخلوها على الملك، وقالوا له: إننا وجدنا هذه الجارية في إحدى السفن الموجودة الآن في المرفأ، فأتينا بها أيها الملك.
فالتفت الملك إلى «مندان» وقال لها: ما اسمك أيتها الجارية؟
قالت: اسمي مندان.
قال: وما أتى بك إلى هذه البلاد، ويظهر أنك حبشية الأصل ، وهل أنت حرة أم مملوكة؟
قالت: أنا حرة، ولست مملوكة.
وكرهت أن تقول مملوكة خوفا من أن يطلب شراءها ممن ملكها، أو تدنس لسانها بأوساخ الكذب، فقال: يا مندان، إني أريد أن أرفع منزلتك إلى أعلى مما أنت فيه الآن.
فلما سمعت منه ذلك اضطرب فؤادها، وقالت: إني أريد السفر إلى بلادي أيها الملك، ولا أريد الإقامة هنا مهما كان الأمر.
قال: لا بد أن تتشرفي بخدمة الإله مهما قدمتي من الموانع؛ لأنه الآن وحيد، وليس عنده أحد؛ لأن خادمته قد توفيت.
وكان الملك يكلمها بلهجة تهديدية حتى شعرت أن الأرض من تحت أقدامها تمور، ثم أمر بإرسالها إلى القبة الآنفة الذكر، فأرسلت رغما عن أنفها، فسلمت الأمر لله تعالى، ودخلت إلى ذلك المكان الذي حسبته جنة على وجه الأرض، وكان في تلك القبة جملة حجر مفروشة على النسق الملوكي. فأدخلوها إلى حجرتها الخصوصية، وقدموا لها كافة ما يلزم من أكل ومشروبات وملبوس، ثم فتحوا لها مخدعا هناك مفروشا بالرخام منقوش الجدران بأحسن ما يكون من النقوش، وهو على يمين الداخل من تلك القبة، وفي صدر ذلك المكان حوض من المرمر فوقه أنابيب من الفضة المحلاة بالذهب، وإلى جانبه باب عليه ستر من الحرير الذهبي، فرفع الخادم الستار، وأدخل «مندان». فنظرت وإذا هي بمكان أبهج وأحسن من الأول، وفي وسط المكان أسطوانة من الذهب الخالص قد أحكمت بأحسن صنعة من أمهر صانع، وجعلوا على دائرة تلك الأسطوانة شبكة من الذهب مرصعة بالأحجار الكريمة مطروحة على قضبان من الزبرجد شبيهة بقفص، ومن داخلها كبش ناصع البياض كبير الجسم معتدل القرنين، وقد سلسل بسلاسل من الذهب، وفي عنقه قلادة من الجوهر لا توجد إلا في خزائن الملوك، وأمامه حوض من الذهب فيه مأكوله، وحوض آخر فيه ماء لشربه.
وحينئذ التفت الخادم إلى «مندان»، وقال يا جارية: إن الملك يأمرك أن تخدمي هذا الإله، وهو كبير الآلهة، ولا تخرجي من هذا المكان إلا في كل سنة مرة، وهو يوم عيد الإله الأكبر. وفي ذاك الوقت يبالغ الملك والحاشية، وأكابر الدولة والرعية، وكافة أكابر البلاد في إكرامك، فتصيرين سعيدة إذ ذاك، ويتبرك بك العالم أجمع.
ولما سمعت منه ذلك نظرت إليه بعين المحتقر ولم تحر جوابا، غير أنها استغفرت الله في سرها، ورجعت إلى حجرتها الخصوصية التي أعدت لها، وخرج الخادم، وأقفل الأبواب، وناول المفاتيح إلى البواب، وأوصى الحراس بحفظها، وصعد إلى غرفته، وكانت فوق الباب الخارجي، وكان اسمه «بروتوس».
أما «مندان» فمكثت تخدم الكبش مدة ثلاث شهور، وصباغها الحبشي أخذ يتناقص شيئا فشيئا حتى رجع لها لونها الأصلي، فصارت كأنها القمر ليلة البدر، وكان كلما نظر إلى محياها ذلك الخادم، ورأى بشرتها تزهو بياضا ابتهج، وصفق طربا، وعدها كرامة من مكارم (ربه الخارف)، وصار يكلم الناس بهذا الخصوص، ولم يزل الخبر يتناقل حتى بلغ مسامع الملك، وكان لهذا الملك ولد جميل الطلعة معتدل القوام مستحوز على كافة ضروب الأدب كامل المروءة شريف الأخلاق عزيز عند والده والناس أجمعين.
وكان يدعى «هيان فونك» فدعاه والده إليه، وقال: يا ولدي! قد بلغني عبارة عظيمة تؤيد ما للإله الأكبر من الكرامة، وهو أن الجارية الحبشية التي في خدمته قد تغير لونها من السمرة إلى البياض حتى صارت شائقة اللون، وإنها مقبولة عنده، فأريد الآن أن تمضي إلى القبة، وتأتيني بالخبر الأكيد.
فلبى «ألفونك» أمر والده، وذهب إلى تلك القبة، واستأذن على «مندان»، وكانت إذ ذاك مشتغلة بعبادة الله - سبحانه وتعالى - على الطريقة التي علمها لها أستاذها «أرباسيس»، ولما جاء «هيان فونك» خرجت لملاقاته، واستقبلته بكل بشاش، ثم أمرت له بالجلوس فجلس، وصارا يتذاكران بأمر الإله، وهي تخبره بما أجرته له من الخدمات، وصار هو يمعن فيها النظر، ويتأمل في بديع جمالها، ورقيق ألفاظها، وقد شعر في تلك الساعة أنه ثمل مما خامر لبه، وتملك جميع حواسه من رقيق معانيها، وقد أكبر أمرها، وشك فيما ذاع عنها أنها حبشية. وبعد ما تكلما فيما يلزم، وأكد ما جاء لأجله، ودع «مندان»، وانصرف من عندها طائش العقل مأسور الفؤاد ، ودخل على والده، وأخبره أن ما بلغه هو عين الحقيقة، وليس فيه أدنى ريب، فابتهج الملك، وأمر أن يبالغوا في إكرامها ففعلوا، وكان ذلك مما يسوء «مندان» حيث إنها لا تريد الانشغال بزخارف هذه الحياة الفانية، وكان أكثر فكرها في أمر ولدها لا تعلم ما تم من أمره، وماذا حل به بعد تركها له عند زوجة الراعي فتتحسر وتتضجر، ولكنها تلهو بالعبادة والتضرع إلى الله أن ينجي ولدها من كل سوء ومن شر والدها وغدر الدهر.
الفصل السادس
في غرام هيان فونك
وجلست «مندان» في حجرتها يوما من الأيام تتذكر أيام عزها، وأوقات أنسها، وقد ضجرت من ذلك المحبس والسجن الأبدي، فبكت بكاء مرا، ولسان حالها يقول:
زاد البلاء من الزمان وقد ألم
بفؤاد من لا يشتكي منه ألم
يا دهر كم ألقى وكم أشقى وكم
أسقى كئوس القهر مترعة وكم
ثم بكت، وارتفع نحيبها حتى غشي عليها، وانطرحت على الأرض لا تعي على شيء، وكان ابن الملك في تلك الساعة أمام الباب ينتظر الإذن ليدخل على «مندان» وكنا أسلفنا أنه قد تولع بحب «مندان» من أول يوم رآها فيه، ولكنه لما جبل عليه من الإنسانية، وشرف النفس كتم عنها ذلك لما يعلم ما هي عليه من الصيانة، وقد قنع منها بنظرة أو سماع كلمة، وصار يتردد عليها في بعض الأحيان، وينجز كل أوامرها، وما يلزم لها من الخصوصيات.
إلى أن كان ذلك اليوم، وقد تغلب عليه سلطان الغرام، وعظم لديه الوجد والهيام، ونفد منه الصبر، واشتد لديه الأمر.
فبكى مندهشا مما حصل في ذلك الهيكل الحيوي من الاضطراب، ولسان حاله يقول:
دع مهجتي تزداد في خفقانها
ليس الشكاية في الهوى من شانها
وانظر فإن حشاشتي كصحيفة
لا شك أن الدمع من عنوانها
ثم تجلد ونهض قائما، وركب جواده وتوجه قاصدا طريق القبة لعله ينظر مليكة فؤاده؛ إذ ليس له أمل في غير تلك النظرة.
ولما وصل إلى القبة، ودخل إلى جهة غرفة «مندان» مستأذنا - كما قدمنا - سمع ذاك الأنين والنحيب - كما سلف - فخفق فؤاده، وظن أنه قد أصابها ما أصابه من الوجد والهيام فخفق وطيء أقدامه، وصغى إلى ما تتلفظ به من الكلمات، وإذا بها تذكر عظمة الإله الأعظم جل وتعالت أسماؤه، وتقول: إلهي عظمت قدرتك، واشتد بطشك، إلهي خلصني من يد من يعبدون غيرك ويأكلون خيرك، يا أعظم من كل عظيم، قد طال - وعزتك - أمد هذا العناء، وعظم البلاء، واشتد الكرب، وعيل الصبر. اللهم خلصني و... خرت مغشيا عليها - كما تقدم.
وكان «ألفونك» سامعا ما تلفظت به من ذكر الله - سبحانه وتعالى - وقد اقشعر جسمه، وحن قلبه، واشتاق إلى معرفة هذا الإله الذي سمع اسمه من أحلى ثغر وأحب نغمة طرقت مسامعه، فارتعشت أعضاؤه، وقد سمع سقوطها على الأرض فطاش لبه، وفتح الباب، وهجم على غير انتباه، وهو غائب الرشد، وقد حملها بين ذراعيه، وطرحها على سريرها، وهو باكي العين حزين القلب، وقد اجتهد في تنبيهها حتى أفاقت، وفتحت عينيها، فوجدت ابن الملك فوق رأسها، فاندهشت لحضوره في مثل هذا الوقت، ولما رأى منها الحيرة، قال لها: كوني مطمئنة يا مولاتي، ولا تزعجي أفكارك، فإني ما أتيت إلا على سبيل الزيارة، فوجدتك على هذه الحالة. والآن أقدم رجائي بين يديك، وأتوسل بهذا الإله الذي تذكرينه بهذه الصورة، وهذا التوجع الخارج من صميم الفؤاد أن تخبريني ما سبب بكائك، واصدقيني حقيقة خبر حالك؛ لأني أرى لك شأنا وأي شأن، واعلمي أني أعاهدك عهدا مقرونا بالذمة والشرف على أن أكون لك مساعدا ومعينا ما دمت حيا، وأعضدك بكل ما في وسعي، ولو كان في هذا ضياع نفسي.
ولما سمعت «مندان» هذا الكلام الصادر عن قلب خال من الغش والرياء مجبول على الإخلاص، وحسن الطوية قالت: يا سيدي إني أعتقد صدق ما تقول، ولكن لا أقدر على إخبارك بكل ما عندي.
فقال: يا مندان! ... ثم سكت برهة يفكر، وكان جل فكره أن يدخل في دينها، ويعبد الإله الذي تعبده.
ثم رفع رأسه، وقال: إني سمعتك تذكرين إله السماء، فهل تكونين لي مرشدة إلى طريق عبادته حتى أكون لك عبدا ما دمت في قيد الحياة؟
ولما سمعت «مندان» منه ذلك تهللت أسرتها وأبرق جبينها بأشعة الفرح، والتفتت إليه قائلة: هل تريد أن تدخل في الدين القويم، وهو دين إبراهيم الخليل؟! واعلم أن كل ما عبدتموه من هذه المعبودات باطل لا أصل له؛ لأنها كلها صنعة الخالق، ولا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، فمثل هذا الكبش مثلا، فإنه لا يقدر على شيء ولا يدرأ عن نفسه شيئا، ويذبح ويؤكل مثل غيره من الحيوانات كذلك، فكيف يجوز لنا أن نعبدهم؟! ولنا رب هو خالق السماوات - سبحانه - إذ جعل فيهم نجوما زاهرات، وسير الشمس والقمر والأفلاك بقدرته، ونظم الكون، ومد البحار، ودبر المخلوقات، وحكمته ظاهرة في شخص الإنسان أيضا، فكيف يصح لنا، بعد معرفته، أن نعبد غيره، وهو خالقنا ورازقنا وواقينا من كل سوء؟!
فلما سمع منها هذا الكلام قال لها: قد سلبت لي بما أوضحت لي، وقد تولع قلبي بمحبة هذا الإله العظيم؛ فأرجو إرشادي إلى الطريق الذي يوصلني إلى عبادته.
وحينئذ علمته «مندان» شروط الإيمان، فآمن بالله الملك الديان - سبحانه وتعالى - وعلمته ما يجب عليه من العمل، فتلقى ذلك منها بكل انشراح، وفرح بدخوله في ذلك الدين، ثم استأذن وانصرف بعد أن ودعها، وهو يكاد أن يطير من الفرح، وصار يفكر بما يفعل حتى يجعل له حزبا من أهل دينه الجديد.
أما «مندان» التي سقمت من ذلك السجن الذي طال مكثها فيه فقد فرحت، واستبشرت بدخول ابن الملك في دينها، وأحيت هذه المصادفة الغير منتظرة منها ميت الأمل، وأيقنت بخلاصها. ثم مكثت تنتظر الفرص.
أما «ألفونك» فإنه كان دائما يتذكر بديع جمال «مندان»، ويتلذذ برقيق تلك الألفاظ التي مرت على مسامعه؛ فكانت معينة له على تثبيت حلاوة الإيمان في صدره، وكثر اعتزاله الناس وتردده على المعبد الذي فيه «مندان»، وكان عند الملك وزير عاقل مارس الأخطار، ودرس الأخبار يسمى الوزير «فرنان»، وهو الذي كان عليه المدار الأعظم في تهذيب «ألفونك»، وكان يحبه محبة شديدة، ودائما يراقب أعماله وحركاته إلى أن كان في هذه الأيام ارتاب في أمره، وتعجب من حبه للاعتزال وطول تفكره، فعزم على مفاتحته بهذا الخصوص، وقد دخل عليه يوما، وهو في غرفته الخصوصية، وبعد أن أدى فروض التحية قال له: يا ولدي، إني أرى فيك سيم آثار الحيرة والتفكر؛ فأخبرني ماذا طرأ عليك حتى صرت في هذه الحالة لعلي - يا سيدي - أن أقدر على مساعدتك وانتشالك من وهدة الأكدار إذا قدرت.
فرفع «ألفونك» طرفه إليه، وقال - وقد توسم في وجهه علائم الصدق مع الحنو الزائد - نعم يا والدي، عندي فكر قد أتعبني وأقلقني جدا، ولا أقدر أن أخبرك بشيء إلا بعد أن تقسم لي أنك تساعدني مع المحافظة على سري، وإن لم تقدر على مساعدتي فلا تبح بسري لأحد.
قال: علي ذلك.
ثم أقسم بالأقسام الوثيقة، وأكد له بأن لو سمع عنه كلمة واحدة فدمه له مباح، فلا يطالبه به أحد، وكتب له بذلك صكا وناوله إياه، وعند ذلك اطمأن «ألفونك»، وصار يشرح له كل ما دار بينه وبين «مندان»، وكيف أنها كانت السبب في إدخاله في دين الله القويم، وأراه أن هذا الدين قريب من العقل، والإنسان لو تأمل بما أبدع الباري من عجائب هذه المخلوقات، وما في الكون من الغرائب التي لو تفكر فيها المرء لطاش عقله، وتحير في صنع الله - سبحانه وتعالى - ولعلم أن الحيوانات التي يعبدونها لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا، فكيف تنفع الإنسان الذي هو أقوى منها بطشا وهي المسخرة له من قبل الله - جل وعلا؟
ولما سمع الوزير منه ذلك أكبر الأمر، وبدأ يراجعه في شأنه، وقال: يا ولدي، إن هذا الدين وجدنا عليه آباءنا الأولين، ولو سمع والدك بما تقول لقتل «مندان»؛ لأجل كفرها بعد أن أظهر الإله فيها كرامته، وجعلها بيضاء بعد أن كانت حبشية الأصل واللون!
ولما سمع منه «ألفونك» هذا الكلام داخله الأسف، والتفت قائلا: إني أتأسف أيها الحكيم العاقل، كيف إنك لم تميز بفكرك النير بين الغث والثمين ؟!
ثم أخبره أن «مندان» ليست حبشية، وما هي إلا بنت ملك من أكبر ملوك العالم، وزوجة ملك، ثم أخبره بما أخبرته به «مندان»، وكيف أن والدها أراد قتل ولدها لمجرد رؤيا رآها، وكيف فرت به لما علمت أن والدها يروم قتله، وكيف تركته عند زوجة الراعي، وكان قصدها الذهاب إلى زوجها، فوقفت في هذه الجزيرة، أما تغير لونها؛ فإنه دهان صنعته حين خروجها من قصر أبيها، فلما مكثت شهرا هنا كشف الدهان فعادت لحالتها الأولى.
ولما سمع الوزير منه ذلك ابتسم وانشرح صدره؛ لأنه كان مرتابا في هذا الأمر، فظهرت له الحقيقة، ثم أطلع «ألفونك» على رغبته في الدخول في دينه، وأخذ عليه العهود هو أيضا، ووعده بالاجتماع «بمندان» والمذاكرة بحضرتها.
ولما تأكد «ألفونك» منه ذلك كاد أن يطير فرحا وسرورا مما ظهر له من حمية الوزير «فرنان» وشهامته، وفي ثاني يوم توجه الوزير مع «ألفونك» لجهة القبة بعد أن استأذنا من الملك لزيارة الإله؛ لئلا يرتاب في أمرهما؛ لأن ذهابهما في غير أوقات الزيارة. ولما استأذنا على «مندان» أذنت لهما فدخلا، وترحبت بهما، وجلسوا جميعا، وبعد آداء فروض التحية فتحا باب المذاكرة، وأخبرها «ألفونك» بإسلام الوزير ففرحت، وزاد سرورها، ثم تكلما في الأمر من جهة إشهار هذا الدين القويم، فقالت لهما: إشهاره يحتاج إلى قوة، وهذه ليست بالإمكان ما لم يكن الملك معنا.
فقال الوزير: إني سأجمع رجالي ورجال سيدي «ألفونك»، وأنتخب العقلاء منهم، ونجعلها جمعية سرية، ونتذاكر في هذا الأمر بعد أن نأخذ عليهم القسم اللازم بألا أحد يظهر هذا السر.
قال «ألفونك»: نعم الرأي هذا، إنه لسديد! ولكن هل مضمون انضمامهم معنا.
قالت «مندان»: يجب أن تضموا كل واحد إلى الدين على حدة من الآخرين، وبذلك يصير أثبت للجمعية وأقوى، ويعرف كل منهم نفسه أخا ثابتا لباقي أعضاء الجمعية، ينتشلونه إذا عثر ويؤازرونه، وقد اجتهدت في هذه العبادة منذ سنين؛ ولذلك تراني سننت قانونا لتسير الجمعية على مقتضاه، وقد صار عندي فوق الخمسين رجلا.
فاندهش الوزير وقال : لأي سبب استحضرت هؤلاء الأشخاص؟
قالت: بسبب «بروتوس» الوكيل الخارجي المنوط به خدمة هذا الهيكل؛ لأنه آمن بربه من أيام دخولي إلى هذا المكان، وقد صارت أعضاء الجمعية إلى الآن خمسين نفرا والرئيس وأنا.
قال «ألفونك»: وما سبب إيمان «بروتوس؟»
قالت: إنه جاءني يوما، وقد أقمت الصلاة، فوقف في ذروة الباب إلى أن أتممت صلاتي، فتقدم إلى جانبي، وسألني عن هذا الإله الذي ذكرته، وقد أقسم لي أنه لا يبوح بكلمة ما، وإنه سمعني جملة مرار، وهو لا يقدر على مفاتحتي بهذا الخصوص، وقد مال قلبه إلى محبة الخالق ميلا أحرمه لذيذ المنام، والحاصل أنه آمن بربه، وكان معي كتاب من أستاذي «أرباسيس»، وكنت لا أفارقه، وأينما توجهت أصطحبه معي، وهو يحتوي على أصول دينية فأخرجته وشرحته، واستنبطت منه قانونا لأحكام الجمعية، فظهر بغاية الاتقان.
ولما سمعا ذلك منها تعجبا وطلبا منها إحضاره فأحضرته، فتصفحا سطوره فوجداه على غاية ما يرام، ففرحا به حيث إنه على قواعد دينية، وأكبرا «مندان» وشكراها، وهنآها على ما منحها الله من العلوم، وطلبا منها أن يدخلا في تلك الجمعية، ووعداها أنهما سيعضدانها بكل قوتهما.
فقالت: إن الاجتماع يكون في الأسبوع مرة، وكان في بادئ الأمر في رأس كل شهر مرة، وقد عينت الوقت الذي تجتمع فيه الجمعية.
ثم ودعاها، وخرجا فرحين بما آتاهما الله، وهكذا ثابرا على معاضدة هذه الجمعية، وإقامة الشعائر الدينية.
الفصل السابع
في منشأ كورش
أما الملك «أستياج» فإنه ما زال يبحث عن ابنته، ويئن لفقدها حتى مضى على ذلك أربع سنوات، ولم يهتد لها على أثر - وكان في أثناء ذلك أرسل لزوجها يخبره بما تم - واستفسر عنها، فلم يقع لها على خبر. أما زوجها فإنه جد في البحث حتى عيل صبره، وأخيرا يئس من وجودها، ولزم الحزن؛ لأنه كان يحبها حبا فوق العقل.
أما الخادم الذي كان مع «مندان» - وقد تركناه في المركب - فإنه اجتهد ليجد له طريقة يخلص بها سيدته، فلم يقدر على شيء، وقد وطد العزم على أن يرجع لسيده «أرباسيس»، ويخبره لعله يسعى في خلاصها، وسارت بهم المركب إلى أن قطعت عدة أميال عن الجزيرة، وإذا بمركب قرصان قد هجمت عليهم، وبعد المدافعة الشديدة استولوا عليها، وأخذوا من فيها أسرى، ومن ضمنهم «أديوس» الخادم، وساروا بهم إلى بلاد الهند، وباعوهم جميعا فوقع «أديوس» في يد رجل من العلماء، ففرح لذلك؛ لأنه كسيده، ولكنه تكدر لعدم مقدرته على خلاص سيدته، ولكنه قال: لا بد أن يكون لله فيه إرادة.
أما «كورش» الذي تركته أمه «مندان» عند «سباكو» زوجة الراعي فإنه كبر، وأنبته الله نباتا حسنا، ونشأ في حجر الراعي، وبين أولاده لا يعرف أبا سواه، ولا أما سوى «سباكو»، وصار يجمع أولاد تلك القرية ويلعب، وكان جميل الصورة معتدل القوام تلوح على محياه علائم النجابة والذكاء. ولما صار له عشر سنوات اتفق يوما من الأيام أنه شكل شبيه محكمة في أثناء لعبه مع أولاد القرية، وصار بينهم بالقسط، ويجري عليهم أوامره، ويجعل منهم قوادا، ويقلدهم الوظائف، وينظم بعضهم في زمرة الجند، وجعل له عساكر، وبنى له قصرا وهميا، وأوقف عليه الجنود والحراس حتى صار كل أولاد القرية له أعوانا كالحقيقة، وكان يأمر بضرب المجرمين منهم، وبسجن من يستحق السجن.
وكان من هؤلاء الأولاد غلام من أولاد أشراف «مادي» اعتدى على آخر في ذلك اليوم، فأمر بضربه بعد أن أحضره، وحكم عليه بالقصاص، وفي الحال انقضت عليه الجنود فأراد الخلاص منهم فقالوا لا بد من تنفيذ أمر الملك، وتغالبوا عليه، وطرحوه فوق الثرى، وضربوه ضربا وجيعا مؤلما فذهب الغلام إلى والده باكي العين، وشكا له ما حل به من الأولاد، ومن «كورش» ابن الراعي، وأخبره بكل ما جرى، وكشف له عن محل الضرب، فوجد آثاره على ولده فطار عقله، وأخذ ولده، وذهب به إلى قصر الملك، وأخبره بما تم، وكيف أن ولدا صغيرا جعل له حزبا من الأطفال، ورتب له دولة موهومة بغاية الانتظام لا ينقص من ترتيبها عن الممالك شيء مع أنه ربي هذا الغلام في البوادي مع الرعيان فمن أين علم هذا الترتيب.
فتعجب الملك من كلام هذا الأمير، وقال علي بالراعي وولده فأحضروهما، ولما مثلا بين يديه قال: من أين لك هذا الغلام أيها الرجل؟
قال: هو ولدي يا مولاي.
قال الملك: ما أظن أنه ولدك، اصدقني وإلا ضربت عنقك. وقد توسم الملك في وجهه ملامح «مندان» في صباها، فلما سمع الراعي تهديد الملك له خاف على نفسه فأخبره الخبر، وأطلعه على الحقيقة، وكيف أن أمه وضعته، وسافرت بعد الوضع ببضع ساعات، فضبط الملك تاريخ اليوم، فوجده اليوم الذي خرجت فيه «مندان»، فتأكد للملك أن الغلام هو ابن «مندان» لا محالة، وأنه هو الذي سيخرب بلاد «مادي»، ويضمها إلى بلاد فارس فاستشاط غيظا، ورجع له حقده القديم، وضبط الغلام عنده إلى الصباح، وعزم على قتله في الغد، وكان «أرباسيس» الجالس، وتأكد له أن الغلام ولد «مندان»، وأن الملك سيهلكه بدون شك فنهض قائما، وذهب إلى منزله، ثم طلب الأولاد الثلاث فحضروا، وقال لهم: يا أولادي! أنتم تعلمون أن الملكة «مندان» هي السبب الوحيد في إنقاذ حياتكم من مخالب المنون، ولولا أن الله شخصها لكم لكانت قد التهمت أجسامكم النضرة، وقد أفرغت عليكم النعم، وأحيت قلوبكم بالعلوم، وكان لها عليكم فضل الوالد على ولده!
قالوا: نعم! نحن غرس نعمتها بدون استثناء، فمرنا بما يجب أن نؤدي به حق العبودية.
قال: الغلام المسجون الآن في سجن الملك هو ابن الملكة، وإن لم تدركوه هلك لا محالة؛ لأن الملك عازم على قتله في صباح الغد.
قال «روبير»: شرفني بهذه الخدمة يا مولاي، وأنا آتيك به هذه الليلة قبل بزوغ الفجر.
قال: شأنك وما تريد. ثم نهض الغلام، ودخل غرفته الخصوصية، ولبس لباس السواح، وأرخى له لحية بيضاء، وأسبل على أكتافه شعورا بيضاء أيضا تشابه لحيته، وأخذ بيده عكازا، وقصد لجهة السجن الذي فيه «كورش»، فوجد هناك الحرس قيام على باب السجن، فسلم ودخل بينهم فرحبوا به، وأجلسوه، ثم جاءوا بفضلات الطعام الباقي منهم فأكل، وحمد الله، وصار يأتيهم بكل نكتة ظريفة ويرقص، ويطربهم بالعبارات المضحكة حتى آنسوا به غاية الإيناس، ولما علم منهم ذلك جلس، وأخرج شمعته من جيبه وأشعلها ووضعها، وصار يلهيهم بكل ما يقدر عليه من الملح إلى أن دبت رائحة البنج في رءوسهم، وكانت الشمعة مصنوعة لمثل هذه الغاية.
وبعد برهة صاروا يتساقطون واحدا بعد واحد إلى أن ناموا جميعا، فانسل هو من بينهم، وكان واضعا في صدره سفنجة فيها بعض الأرواح المنعشة لكي لا يؤثر فيه البنج، وأخرج المفاتيح من الحارس، وفتح الباب، ودخل على «كورش»، فوجده منزويا في السجن الداخلي، وهو نائم لا يعي على شيء، فتقدم إليه وأيقظه، وقال له: لا تخف! فإني منقذك من هذا السجن فقم معي، ولا تلفظ أدنى كلمة. فلبى الغلام طلبه ونهض، وانسلا من الباب الخارجي، وقد أخرج من تحت ردائه ثوبا ألبسه له، وسارا على عجل إلى أن دخلا على «أرباسيس»، فوجداه على أحر من الجمر، ولما رأى «كورش» ضمه إلى صدره، وقبله بين عينيه، وأفرد له محلا خصوصيا في الداخل، وأوصى عليه «بركزاس»، وسلمه إلى «فانيس» الفيلسوف، وقال له: ليكن هذا تحت عهدتك يا ولدي بحيث لا يعلم به أحد من خلق الله، وتتكفل بتهذيبه، وتعليمه كل ما تقدر عليه من العلوم. ثم أخرج زجاجة وطلى جسمه، وأنزله بين الخدم إلى أن ينتهي بحث الملك، وبينما هم كذلك، وإذا «بروبير» يطرق الباب ففتحوا له، ودخل على أخويه فسألاه: أين وجهته، وكيف تأخر إلى هذا الوقت وقد ظهر الفجر؟
قال: إني بعد أن سلمت لكم سيدي «كورش»، تذكرت أن لا بد للملك من تفتيش المدينة، ولا بد أن يصل إلينا التفتيش، فأردت أن أفعل شيئا ينفي عنا ذلك، وقد حصل، وهو أني تزييت بزي الجند، وتوجهت إلى الباب، ودخلت ضمن الحراس، وأشعلت شمعة، ووضعتها في غرفة الغفير، ثم توجهت إلى الباب الثاني والثالث إلى أن انتهيت إلى السابع، وقد فتحت كل أبواب المدينة حتى إذا انتبه الحراس لا يشكون أن الفاعل قد خرج من المدينة إلى الخارج حيث إن الذي حصل في السجن حصل في الأبواب أيضا.
فتعجب «أرباسيس» من خفته، وحسن صنعه، وشكر له ذلك، وشكره أخواه أيضا.
ولما أصبح الصباح قام الملك، وأمر بأن تنصب له أحبولة على جزع ليشنق الغلام على مرأى من الناس، وبعد أن أحضروا ما لزم، توجهوا إلى السجن لإحضار الغلام فوجدوا الحراس في بكاء ونحيب خوفا على أنفسهم من غضب الملك؛ لأنهم لما أصبحوا وجدوا الأبواب مفتحة، ولم يجدوا الغلام ولا الرجل الهرم. وقد فتشوا ما أمكنهم حتى وصلوا إلى أبواب المدينة، فوجدوا الحراس هناك كذلك في ارتباك عظيم، وقبل أن يذهبوا إلى الملك جاء الجلادون بطلب الغلام، فلم يجدوه كما تقدم.
فذهبوا إلى الملك وأخبروه الخبر، ولما سمع انقلبت عيناه في أم رأسه، وغضب الغضب الشديد، وقال: لا بد أن يكون للنار في ذلك إرادة، ولا بد أن الغلام يملك بين مشرقها ومغربها، وقد عزمت على قتله وهو في بطن أمه، فلم يتيسر لي ذلك، ولقد فقدت ابنتي الوحيدة بسببه، وها أنا الآن بعد أن ظفرت به، وأردت قتله خوفا على بلاد «مادي»، وخروج الملك إلى يد الفرس أبت النار إلا تنفيذ أمرها، ولم أدر هل الأرض ابتلعته أم السماء انتشلته، ثم قال: علي «بميقرات» الراعي وزوجته، فأحضروهما. وكانت القواد والوزراء والأمراء والحاشية قد اجتمعوا، وكان منهم «أرباسيس» و«أرباغوس»، فسأل الملك الراعي وزوجته عن «كورش» فقالا: إننا لم نره بعد أن استلمه الملك، فأمر الملك بسجنهما إلى أن ينظر في جزائهما على ما فعلاه من تربية «كورش»، ثم قال مخاطبا «أرباسيس»: اعلم أيها الفيلسوف أن بلادنا من الآن فصاعدا ستصير في أيدي الفرس؛ لأن هذا الغلام سيصير ملكا عظيما إذا تهاونا في أمره، فأريد الآن أن تبحث عنه؛ لأني لو تركته لتفاقم أمره، ولصعب علينا استدراكه؛ لأني ما انتدبتك لهذا الأمر إلا لما أعلم من خبرتك بفك المعميات وقراءة الطلاسم. وغاية قصدي أن تبحث لي عن مكان هذا الغلام بكل ما تقدر عليه.
قال «أرباسيس»: نعم سأبحث، ولكن لا نفلح لو وجدناه؛ إذ ربما كان للنار فيه مأرب وغاية في استفحال أمره، فما نكون إلا أغضبناها، وعملنا ضد إرادتها، ولولا ذلك لما كانت النار تفتح له بابا للخلاص، كلما أردنا الايقاع به.
هذا وقد صدق على قوله كل من في المجلس إلا «أرباغوس» فإنه قال: لا بد من البحث والتدقيق؛ لأنه من واجباتنا المحافظة على الوطن والذب عن حقوق مملكتنا، وصون أعراضنا، وأموالنا من أن تنالها أيدي الفرس.
وكان قصد الوزير بهذا الكلام أن يستخلص لنفسه ثقة الملك؛ لأنه كان يحرك عليه القوم لما عنده من الضغينة به عليه.
وكان الوزير من يوم قتل ولده يتحين الفرص، ويدس الدسائس، ويشحن صدور الأمراء وأكابر البلاد على مخالفة «أستياج»، ولما علم فيه بظهور ابن «مندان» حمد الله وأثنى عليه. ولكنه تحير فيمن خلصه، وود لو أنه هو المخلص له، وقال في ذاته: من الذي انتشله يا ترى؛ إذ إن هذا الأمر لا يكون إلا من خبير قدير، ولا قدرة «لأرباسيس» على مثل هذا الفعل.
ولما سمع الملك منه ذلك جنح إليه، وجاء طبق مرامه فقال له: نعم الرأي أيها الوزير! إن ما قلته هو الصواب، فيجب أن تبث العيون في أنحاء المملكة، وتجد لي هذا الخائن الذي تجاسر، بعد علمه برؤياي، على إخراج الغلام من السجن، وعمل على كيدي وكيد المملكة؛ لأن النار لا ترضى بخراب بلاد عبادها.
فلبى الوزير طلبه بالسمع والطاعة، وانفرط عقد المجلس على هذا الرأي، وقام مع «أرباسيس»، وتوجها إلى منزل الكاهن بعد أن أصدر أوامره لجميع القواد ببث المخبرين في أنحاء المملكة، وقال: لا أظن أن الغلام في المدينة؛ لأن أبواب المدينة وجدت مفتحة. ثم سارا وهما يتذاكران في أمر «كورش» إلى أن بلغا منزل «أرباسيس» ودخلاه، وجلس كل منهما مرتابا في الآخر مرتبكا في ما يفتح له الحديث، ويكشف عما في ضميره، وبعد تفكر برهة قال «أرباغوس»: لا بد أن يكون أخذك العجب، وارتبت في أمري أيها الفيلسوف حينما تكلمت مع الملك ضد فكرك في التفتيش على «كورش» والبحث عنه حيث إنك تعلم محبتي «لمندان»، وكيف عدمت ولدي بسببها، وتعلم أيضا بغضي للملك الذي قتل ولدي ظلما، ومن ذاك الوقت، وأنا أترقب فرصة كهذه لآخذ ثأري، وإني أعلم أنك توافقني على أفكارك؛ فلذلك أريد أن أطلعك على ما في ضميري؛ لأني لا أشك في أنك تريد ذلك أنت أيضا لحبك لولد «مندان».
فقال «أرباسيس» وقد تبين فيه الصدق وتهلل وجهه بعلائم البشر: صرح لي بما في ضميرك أيها الأخ الصادق، ولا أشك في صداقتك «لمندان».
قال «أرباغوس»: آه يا سيدي لو أعلم أنها على قيد الحياة!
قال: نعم! إنها على قيد الحياة، وستجتمع بولدها «كورش» بعد بضعة سنين حينما يكون في أوج عزه، ولكن دعنا الآن منها، ولنتكلم في أمر ولدها.
قال: وكيف الوصول إليه الآن؟!
قال: سنجتهد في الحصول عليه بعد ما ندبر أمر وقايته من أيدي الظلم.
قال: أنا أقيه بنفسي وبمالي، وبكل ما أقدر عليه.
قال: وأين يكون المحل الذي يجب أن يكون فيه، ولا تصل إليه عيون الملك؟
قال: أنا أرسله إلى إحدى مزارعي، وهي في محل حسن المناظر، طلق الهواء، فيه قصر شاهق حصين، وأرسل معه «بركزاس» و«فانيس» و«روبير»، وأجري عليهم الأرزاق بما يجعلهم يعيشون كأولاد الملوك، ولا أدع أحدا يعلم لهم مكانا.
فأعجبه هذا الرأي، وقال: هو عندي الآن أيها الوزير في منزلي بين خدمي، وأنا في غاية الخوف عليه.
ولما سمع الوزير ذلك ابتهج غاية الابتهاج حتى كاد أن يطير فرحا، وقال: أين هو؟ آتني به حتى أضمه إلى صدري، وأطفئ نار وجدي على ولدي الذي أحسبه هو الآن؛ لأنه مات بسببه، فعوضني الله منه خيرا.
فأمر «أرباسيس» بإحضار «كورش» فحضر، وقام له الوزير وضمه إلى صدره، وبكى حتى بل الأرض، ثم جلس وأجلسه إلى جانبه، وسأله عن اسمه فقال: اسمي «كورش».
قال: ومن هو والدك؟
قال: يا سيدي! بكل أسف أخبرك أن والدي أقل من أن يذكر في مجلسك؛ لأنه راع، واسمه «ميترادات»، واسم أمي «سباكو»، ومعناها: «الكلبة»، وما أدري سبب هذا الاسم لها، فإنها آية اللطف والله يا سيدي!
فتعجب الوزير من حسن منطقة ورشاقة أسلوبه في إلقاء العبارة، ثم ضمه إلى صدره، وقبله مرارا عديدة، ولم يبد له شيئا عن والديه؛ لأنه يعلم أن الملك مهتم بجمع الجيوش، وتحصين القلاع، وعازم على ضرب مدينة «طهران» وهي المدينة التي يحكمها والد كورش، ويدفع خراجها إلى الملك «أستياج»، وكان لما علم «قمبيز» والد «كورش» أن زوجته وولده فقدا، فجاهر بالعصيان، وكان الوزير يدس عليه الفتن، ويخبره بأسرار المملكة، وقد جمع الجيوش، وحصن بلاده، وصار مستعدا للدفاع عن بلاده، هذا وقد أمر الوزير بأن يركب «كورش»، ومن معه - بعد أن طلى جسمه بصباغ أسود، فصار كالعبد النوبي - فركبوا جميعا، وساروا إلى المزرعة، وكان الوزير أعطى تعليماته لأحد خدمه الأمناء ليحضر لهم كل ما يحتاجون إليه في ذلك المحل اللائق لسكنى هذا الأمير الجديد، وكانت تلك القرية واقعة في بقعة نضرة زاهرة في سهل متسع على جانب نهر جار كالسلسبيل، ينساب من جانبها الغربي، ومن وراء هذا النهر جبل شامخ مرصع بالأشجار الزبرجدية، والماء يلتف من حوله كالطوق في جيد الحسناء، ومن الجانب الشرقي من النهر أراض واسعة خالية من الأحراش والغابات صالحة للزرع، وفي وسطها حديقة غضة، وفيها من كل فاكهة زوجان قطوفها دانية وأثمارها يانعة. وفي تلك الحديقة قصر مشيد مقام على أحسن ما صنع في ذلك الزمان، وفيه من الزخارف ما يفوق عن قصور الملوك، قد جعله الوزير متنزها له يرحل إليه في فصل الربيع من كل سنة، وفي الجانب الغربي من النهر غابات ومناظر طبيعية قد غرستها يد القدرة الإلهية، واعتاد الناس التنزه في تلك الأحراش.
ولما كان اليوم الذي قدم فيه «كورش»، وكان سبقهم الخادم الذي أرسله الوزير إلى حارس القصر، وأمره أن يهيئ كل ما يلزم فامتثل الأمر، وأجرى كل أوامر سيده حتى إذا جاء «كورش» ومن معه وجدوا أنفسهم كأنهم في جنة الفردوس، فجلس كل منهم في الحجرة التي أعدت، وأفردوا «لكورش» حجرة خصوصية، وأحضروا له كل ما يلزم له، وقد جعلوه نصب أعينهم، وصاروا يلقنونه الدروس في مواعيدها، من علوم، وفروسية، وغير ذلك. وهو يتعجب من هذا الاعتناء الغريب الذي يرى نفسه غير مستحق له؛ لأنه ابن راع، وفوق ذلك فإنه مغضوب عليه من الملك؛ لأنه ضرب ابن أحد الأمراء. هذا ما كان يعلمه «كورش» ويفتكره في نفسه.
الفصل الثامن
في غزو مدينة شيراز ومقتل قمبيز
فلنترك «كورش» في دروسه، ونرجع إلى الملك «أستياج» حيث تركناه يتقد غيظا على ما فاته من هلاك «كورش»، وصار لا ينطفئ غيظه إلا بدماء الفرس، فأمر العساكر أن تتأهب لغزو مدينة تهران، وقتل الملك «قمبيز» والد «كورش».
ولما علم الوزير أرسل إلى «قمبيز» يعلمه ليكون على أهبة، وحذره من مباغتة «أستياج» فاستيقظ وجمع العساكر، وتحصن ورتب العساكر على الأبراج وأسوار المدينة، وبعد قليل من الأيام جاء الملك «أستياج»، وعسكر حول المدينة، وضرب عليها الحصار، وقامت بينهم الحرب على قدم وساق حتى فني أكثر عساكر الفرس، وكان الوزير «أرباغوس» قد خلفه الملك في مدينة «همذان» عوضا عنه يحكم بين الناس إلى حين حضوره حتى فرغ الملك من حرب «قمبيز»، وفتح مدينة «تهران»، وأخذ «قمبيز» أسيرا، وقدمه بين يدي الملك، فسأله عن من خلص «كورش».
فقال: لا أدري من هو «كورش»، ولا من استخلصه.
فأمر بقتله، وصلبه على جزع من الشجر، فقتل وصلب ظلما وعدوانا، وقد أمر بتفتيش المدينة لعلهم أن يجدوا «كورش»، فلم يجدهم ذلك نفعا، فأمر بقتل من استحصلوا عليه من أكابر الفرس، وقد أطفأ لهيب فؤاده بسفك تلك الدماء البريئة، وأقلع بعساكره الجرارة مؤيدا ظافرا بعد أن أقام على «تهران» حاكما من قبله، ودخل مدينة «همزان» في يوم مشهود، فهرعت الناس لملاقاته، وفرح قوم واغتم آخرون، أما «أرباغوس» و«أرباسيس» فتكدرا لموت «قمبيز» كدرا شديدا؛ لأن الغلام صار يتيما، وقد أجمعا أمرهما على الكتمان عنه؛ لئلا يشغله الحزن عن درس العلوم. واجتهدا في تهذيبه وتثقيفه، وكان «كورش» شابا ذكيا نير الفكرة ، ثابت الجنان، فصيح اللسان، بهي الطلعة، جميل الصورة. قد تجمل بمكارم الأخلاق والكرم والمروءة، له خلق طبيعي، ولما صار له من العمر سبع عشرة سنة صار بهجة للناظرين، وكان الوزير يحافظ عليه تمام المحافظة، وقد ضرب على تلك المزرعة كردونا من خدمه، وأوعز لهم إذا رأوا أحدا يشتبه فيه ألا يدعوه يتجاوز تلك الأرض إلى حد أن يصل إلى القصر.
وكأن الله تعالى من فضله وكرمه قد غرس حب «كورش» في قلوب أهالي تلك القرية والمزارعين، فصار كل من رآه يدعو له بطول العمر والبقاء، وهو يحسن لفقرائهم، ويوقر أغنيائهم، وكان إخوانه الثلاث، وبعبارة أخرى أساتذته يحلونه محل الروح من الجسد؛ فكان «روبير» دائما ساهرا على مراقبته، حريصا عليه من عيون الملك وأرصاده؛ لأنه لم يأل جهدا في البحث عنه، وأما «بركزاس» فكان يقيه بنفسه ويهذبه، ويجتهد في تعليمه الفروسية وفنون الحرب، و«فانيس» صار يلقي عليه أنواع العلوم الفلسفية حى نبغ في كل ما تقدم ذكره.
الفصل التاسع
في غرام كورش واحتقاره لنفسه
ولما كان ذات يوم ركب «كورش» جواده، وقصد التنزه على حافة النهر كعادته، وأخذ معه «روبير» الذي لا يفارقه طرفة عين، ولم يزالا سائرين إلى أن بلغا الجانب الشرقي من النهر، ووقفا يسرحان أنظارهما في تلك الغابات النضرة على الجانب الغربي، وكان «روبير» يعلم ما في باطن تلك الصخور لكثرة تردده وبحثه على كل دقائق تلك الأرض، فصار «كورش» يسأله بعض أسئلة عما اكتشف من تلك الناحية، وعما رأى فيها من زهور ونبات وغير ذلك، وهو يجاوبه عن كل سؤال بمقداره، حتى قطعا مسافة بعيدة وهما يتلذذان بتلك المذاكرة، وينتعشان بما يستنشقانه من أرج النسيم الممتزج بعبير تلك الأزهار العطرة وتلك الغابات النضرة. وبينما هما سكارى من لذيذ ذاك الموقف، وإذا هما ذعرا بصوت مستغيث أزعجهما، وبهتا من رخامة ذلك الصوت، ثم التفتا إلى جهة النهر، وإذا هما ينظران عن بعد جوادا تعلوه فتاة، وهو شارد بها، منكب على الماء، وقد نزل حتى صار في النهر يتخبط في الماء المتلاطم، أما الفتاة فقد استعملت كل قواها لرد جماحه فلم تقدر. وكان إلى جانب النهر فتاة أخرى قد نزلت عن جوادها، وهي تصرخ وتستغيث، وتنادي لعلها تجد من ينتشل رفيقتها من مخالب المنون.
ولما رأى ذلك «كورش» ألقى بنفسه، ولم ينتظر حتى يخفف ما عليه من الملابس، بل كان أسرع من البرق، وبأقل من لمح البصر قطع النهر إلى الجانب الغربي حيث كانت تلك الفتاة، وهجم على الفرس - وهو يطارد الأمواج - وقبض على زمامه، وسحبه إلى جهة البر بغاية الرشاقة والقوة الغريبة، وكانت تلك الفتاة قد غابت عن رشدها، فوقعت لا تعي على شيء، فأخذها بين يديه، وألقاها إلى الأديم فوق تلك الأعشاب، واجتهدت الأخرى في تنبيهها، وقدمت «لكورش» مراسم الشكر بعبارة أرق من النسيم، وهي تنظر إلى محياه الباهر، وتعجب ببسالته وأدبه.
أما هو فإنه دهش من جمالها، وبهي طلعتها، ورقيق ألفاظها، ورخيم صوتها، وقد وقف مبهوتا لا يبدي ولا يعيد، أما «روبير» فإنه لما رأى سيده واقفا أمام خريدتين، وهو مبلل الملابس حاسر الرأس ركب جوادا وسار، وقد أطلق له العنان حتى بلغ القصر، وطلب له ملابس، ورجع في أقل من لمح البصر، وفي الحال نزل إلى النهر واضعا تلك الملابس حتى عبر النهر، وقدمها إلى مولاه، وقد انعطف به إلى داخل الغابة، ولبس ثيابه، ورجع إلى المحل الذي كان فيه مع البنتين، وإذا به امتلأ بالعساكر والقواد والخدم، والكل خاضعون بين يدي تلك الفتاة التي استغاثت به لينجي رفيقتها، وقد خلبت لبه، فوقف بين الجنود لا يبدي حراكا، وقد تحير فيمن تكون تلك السيدة الجليلة، وما هي إلا من بنات الملوك بدون شك.
ثم التفت إلى «روبير»، وقال له: أريد أن تسأل عن أحوال هذه الفتاة، وابنة من هي وإلى أين تريد؟
قال: سمعا وطاعة. ثم دخل بين الخدم، وسأل: من هم؟
فقيل له: إنها ابنة الملك «أكيا كسار» ملك مدينة «نينوى». وقد خرجت للتنزه مع ابنة الوزير في موكبها الحافل، وبطريق المصادفة انفردتا عن الموكب راكبتين الخيول حتى بلغتا هذا النهر، فشرد الجواد بابنة الوزير وأشرفت على الغرق، ولولا أن سيدك انتشلها لهلكت. ولا بد للملكة من مكافأته. فلما سمع «روبير» ذلك ذهب إلى «كورش» وأخبره بما سمع، فتأوه من صميم فؤاده وسكت، أما ابنة الملك فإنها احتارت في أوصاف «كورش»، وكيف بها أن علمت عنه شيئا؟! ومن الذي تركن إليه بهذا الخصوص؟ وقد منعها الخجل إظهار ما عندها، ولكنها أخيرا تذكرت أن عليها واجبا له يلزمها أن توفيه إياه لأجل انتشاله ابنة الوزير، ولا بد من مكافأته. وهذا الفكر أراح فؤادها نوعا، وعند ذلك التفتت إلى ابنة الوزير، وقالت لها: أريد يا عزيزتي «خواند» أن أكافئ هذا الشاب بما هو أهله؛ لأني أراه معدن الإنسانية والمروءة - على صغر سنه - وقد جمله الله بكل فضيلة.
وكانت «خواند» تريد مكافأته؛ لأنه منقذ حياتها، ولما سمعت من «شاهزنان» بنت الملك ذلك انشرحت، وقالت: يلزم ذلك يا سيدتي؛ حيث إنه أنقذني، وإنه فوق ما ذكرت أيتها الملكة.
ثم نظرت «شاهزنان» إلى أحد الخدم الواقفين، وقالت: اذهب إلى الشاب الذي أنقذ أختي من النهر، وائتني به حتى أكافئه على ما فعل من المعروف.
فذهب الخادم إلى «كورش»، وقال له: أجب الملكة «شاهزنان» بنت ملك «نينوى».
فرفع «كورش» رأسه، وقد خفق فؤاده واضطرب جسمه، وقال: ماذا تريد ابنة الملك؟
فقال: لا أدري، أظن أنها تريد مكافأتك على مروءتك. فنهض «كورش» معه، وذهبا إلى أن بلغا سرادق ابنة الملك، وقد سلم عليها بكل تجلة واحترام، وعلى ابنة الوزير أيضا. وكانت «شاهزنان» تنظر «لكورش» نظر العاشق الولهان، وهو ينظر لها كذلك، وكانت «خواند» تراقب أحوالهما، وتنظر لهما بعين المنتقد، ولما لم يجدا لهما بابا للكلام قالت «شاهزنان»: لقد خولتنا جميلا أيها الشاب، وقصرت عقولنا عن أداء الشكر على البعض منه. فأرجو أن تمهد لنا عذرا عن هذا العجز!
قال: العفو يا مولاتي! هل أنا فعلت إلا بعض ما تطالبني به الإنسانية من المفروضات الواجبة على كل شخص؟!
وحينما نطق بهذا اللفظ خفق فؤاد ابنة الملك، استحسانا، وطربت من فصاحة منطقه، وتفرست فيه، فظهر لها أنه من أولاد الملوك، فقالت: ما اسمك أيها الشاب؟
قال: اسمي «كورش». ولم تزد على سؤالها خجلا من الحضور فسكتت، ثم عرضت عليه شيئا من المال فلم يقبل، ولكنها أخرجت خاتما ثمينا كان في يدها، وناولته له فابتهج لذلك، وتناوله من يدها تذكارا وعربون حب، ثم ودع وانصرف، وترك في قلبها لهيبا.
وأما هو فذهب وهو لا يدري كيف يصنع، ولا من أي باب من أبواب الغرام يسلك، وقد حل الركب، وهو ينظر إليه بعين تدمع، وقلب من الوجد والغرام يتقطع، وساروا بابنة الملك، وخلفوا «كورش» على أحر من نار السعير، ويصعد الزفرات. وكان «روبير» واقفا ينظر إليه ويتعجب، وأخيرا التفت إليه، وقال: فديتك يا مولاي! ما هذا البكاء، وما السبب الموجب لهذا القلق؟ فالتفت إليه «كورش» وقال ما معناه:
لقد ضاق بي صدري فإن كنت لا تدري
سل الدمع من عيني يخبرك عن سري
لقد أمسيت محروق الفؤاد شجيه
ولي كبد حرى إلى ذلك البدر
ثم بكى، وأن أنين الثكلى، فتحير «روبير»، وقال: يا سيدي، خفض عنك هذا الحزن، فروحي فداك أيها العزيز، ولو أردت أن آتيك بها قبل أن تبرح هذه الديار لفعلت!
فقال «كورش»: «كلا فإني لا أريد أن أفعل كما يفعل اللصوص بالحرائر، وإنما أريد أن تكون لي زوجة شرعية، وهذا لا يمكن أبدا ما دامت السماء والأرض!»
قال: لماذا لا يتم لك أمر وهي على ما أرى تحبك؟ ويشهد على ذلك إعطاؤها لك الخاتم.
قال: يا روبير، لا تزدني هموما؛ إذ كيف أرجو قربها وهي ابنة ملك، وأنا ابن راع لا أصل لي ولا نسب؟!
فقال: لا يا سيدي، لا دخل للأصل في الحب، وإني أراها لم تسألك: ابن من أنت؟
قال: نعم، ولكن منعها الخجل من الاستفهام، وليس هذا الأمر بيدها، بل هو بيد والدها، وهو لا يزوجها إلا لمن يليق بها.
ثم بكى بكاء مرا، وأن أنين من فارق أحباءه، وكان «روبير» يسكن روعه، ويعده ببلوغ الآمال، ولرأفته عليه هم بإخباره من هو وابن من هو ليعلم أنه من نسل الملوك لأجل ألا يسلم نفسه لليأس فيهلك، ولكنه تذكر وصية الوزير والكاهن ألا يخبره ابن من هو؛ لأنه لو علم أنه ابن الملك «قمبيز» وأن جده «أستياج» لاشتغل بأخذ الثأر، وهو لم يقو على ذلك بعد فيحزن، أو يتهور في الأمر فيهلك. فسكت «روبير»، وانصرف إلى جهة النهر، فنزلا يقطعان النهر إلى أن بلغا البر الشرقي، فركب «كورش» جواده قاصدا جهة القصر، فاستقبلهما «فانيس» و«بركزاس» بغاية الترحاب، ولكنهما اندهشا لما وجدا «كورش» متغير الوجه باكي العين، فانعطفا عليه انعطاف الوالدة على ولدها، وسألاه إذا كان يشكو ألما، أو أثر فيه برد النهر كل ذلك، وهو مطرق إلى الأرض لا يبدي ولا يعيد، وكان أوصى «روبير» أن لا يخبر أحدا بما حصل فسكت «روبير»، ولم يذكر شيئا مما جرى وكتم السر، وجاوب عن كل ما سألاه عنه: بلا أدري. فسكتا، وهما على مضض؛ إذ لا فائدة من الاستفهام والسؤال، وصار «كورش» ليس له دأب سوى البكاء والنحيب، ونشيد الأشعار آناء الليل، وأطراف النهار.
الفصل العاشر
في قصر شاهزنان
أما «شاهزنان» فإنها ما برحت تلك الأرض إلا وصورة «كورش» قد ارتسمت في مخيلتها، وألفاظه العذبة ترن في سمعها، وما وصلت إلى مدينة «نينوى» إلا وقد روت الأرض من دمعها، وذبلت نضارة محياها الباهر. ولما استقر بها المقام دخلت حجرتها الخصوصية، وخلت بنفسها وبكت وشكت وجدها، وأنت أنين الثكلى.
وقالت: واويلاه! ما هذا البلاء، وما هذه المصيبة العظمى، كيف العمل؟ ومن أين يتيسر لي أن أراه مرة أخرى - ولو في المنام؟ ما هذه البلوى التي لا تطاق؟ كيف ذهلت عن السؤال منه ابن من هو، وأين مقيم، ومن أي طبقة في النسب حتى كنت أعلم مستقره، ويتيسر لي تلقي أخباره، فيستريح لذلك قلبي، وأستريح؟
ثم أطلقت لفكرها العنان قدر ساعة متفكرة، كيف تصنع للوصول إلى أخباره؟ ثم خطر لها أن تخبر «خواند» بما عندها لتكون مساعدة لها على ما تريد أن تجريه من البحث، فانشرحت لهذا الفكر، وقامت متجهة جهة الباب، وإذا بها تجد إحدى الجواري يستأذنون «لخواند» بالحضور إلى حضرة الأميرة «شاهزنان»، فأذنت لها فدخلت، وسلمت بكل اشتياق، وجسلتا تتحادثان من موضوع إلى آخر حتى وصلتا إلى ذكر رحلتهما، وكانت «خواند» تلاحظ بكل دقة وجه «شاهزنان»، وتنظر ما طرأ عليه من التغير عند ذكرها تلك الرحلة ومسألة غرقها في النهر. ثم التفتت إليها، وقالت: روحي فداك يا مولاتي! مالي أرى على وجهك الباهر علامات الكدر والحزن؟
فانتبهت «شاهزنان» لهذا الكلام، وكانت منتظرة فرصة لتلقي لها سرها، وتبث لها ما عندها من الوجد «لكورش»، فقالت: يا عزيزتي «خواند»! بي وجد لا يطاق، وهم لا تحمله الجبال، ولا تحصيه الأوراق، وكنت أنت السبب بهذا البلاء.
قالت: ما هذا البلاء يا نور العيون وزهرة الألباب؟ أخبريني عنه وأنا أفديك بنفسي، وأقيك بروحي.
قالت: آه يا صديقتي! ألم تتذكري تلك الساعة التي نجوت فيها من الغرق، وخلصت من الموت؟
فقالت: نعم أذكر ذلك، ولا أنساه أبد الدهر.
قالت: لما نظرت إلى ذاك الشاب الذي خلصك من النهر التهبت ضلوعي بنار الغرام!
قالت: كيف ذلك، وأنت لم تريه إلا مرة واحدة، ولم تعلمي من هو، ولا في أي أرض مقره، ولا ابن من، وهل يليق أن يكون لك زوجا؟ أم هو من رعاع الناس؟
فقالت لها: نعم أيتها العزيزة! إن كل ما قلتيه صحيح، وقد تفكرت في ذلك، ولم يخفه عني الحب، ولكني لم أقدر على رد جماح الوجد والهيام، وقد أخبرتك به لتمديني برأيك؛ لعلي أن أتخلص مما أنا فيه بأي طريقة كانت.
قالت: يا سيدتي، إني أرى أن ترسلي من تستأمنينه وتعتمدين عليه ليبحث عنه في تلك الجهة، ويأتيك بالخبر الأكيد، وأظنه قريبا من تلك الجهة التي كنا فيها على ضفة النهر.
قالت: هذا مناسب يا عزيزتي، ولكن كيف نجد ذلك الأمين، وهل يركن الإنسان إلى أحد؟
قالت: إني أرى خادمك «فيروز» شديد الحرص على تنفيذ أوامرك، وقد كان معنا في تلك الأرض، وهو يعرف الطريق إذا أرسلتيه بعد أن تأخذي عليه العهود بكتمان السر.
قالت: سأفعل.
ثم أمرت الجارية باستحضار «فيروز»، وكانت تلك الجارية قد سمعت كل ما دار بين «شاهزنان» و«خواند» وهي واقفة خلف الستار تسترق السمع، فذهبت الجارية لتستحضر «فيروز»، وهي تهدر وتتقد غيظا؛ لأنها كانت تكره «شاهزنان» لأمور صرفنا النظر عن ذكرها، وكانت تلك الجارية تترقب الفرص لترى لها شيئا يسقطها من قلب والدها به. ولما سمعت هذا الخبر وجدته غنيمة باردة، ولما حضر «فيروز» قالت له شاهزنان: إني أريد أن أستأمنك على سر، وأريد أن تقسم لي أنك لا تبوح به لأحد من الناس.
فقال: يا مولاتي إني أضحي نفسي تحت أقدامك، فكيف أخرج سرا استأمنتيني عليه قبل أن تزهق روحي من جسدي؟!
ثم أقسم لها الأقسام الشديدة، وبعد ذلك حررت خطابا تذكر فيه: أنها لم تتمكن من مكافأته، وأنها تريد أن تعلم من هو؛ لتجري الواجب عليها له من الجميل الذي فعله معها، ولم تذكر شيئا من أمر الحب، ثم سلمتها له، وزودته بشيء من المال، وانصرف في طريقه.
أما الجارية فدخلت على الملك وأخبرته بكل ما سمعت من تلك الحوادث، وبالغت في الأمر، وقالت: حيث إني أنا جارية الملك وغرس نعمته؛ فيلزمني المحافظة على شرفه، وهذه سيدتي صغيرة لا تعرف كيف يدبر المرء نفسه.
ثم ألقت عليه كل أحاديثها الصحيحة والملفقة، فهيجت بلابل الملك لهذا الخبر، وأثارت غضبه، وقام من وقته، وأحضر رجلين من رجاله كان يعتمد عليهما، وأخبرهما بخروج «فيروز» بعد أن استكتمهما الخبر عن كل إنسان، وألا يظهرا شخصيتهما «لفيروز»، فإنه سار برسالة لا آمن أن تضر بمملكتي، وإياكما أن يعلم من أنتما ولا من أين جئتما، ولا تفتحا الرقعة التي تجدانها معه، بل ائتوني بها.
فأجاباه بالسمع والطاعة، لبسا آلة الحرب، وركبا جواديهما بعد ما ضربا لثامين على وجهيهما، وقصدا الطريق المؤدي إلى بلاد «مادي»، وكمنا هناك في أحد الكهوف الكائنة على الطريق المار منه «فيروز»، وكان اسم أحدهما «بهادر»، والثاني «طيفور»، فجلسا ينتظران مرور «فيروز» من ذلك المكان، وإذا بشبح ينتقل بين الصخور، ويفز من مكان إلى مكان كأنه الغزال الشارد، ولقد توارى بين الصخور، فظنا أنه «فيروز» فتتبعا أثره فلم يقفا له على خبر، ولا وجدا له أثرا، فرجعا إلى محلهما بين الظن واليقين. وبعد مضي بضع ساعات من النهار أقبل «فيروز» فهرعا إليه، وقد عرفاه عن بعد فهجم عليه أحدهما، وسأله: إلى أين أيها الرجل؟ فلم يرد عليه جوابا، ومضى في طريقه، وكان «طيفور» من خلفه، فطعنه بعقب الرمح، وقد استل سيفه، وضرب «بهادر» فجرحه في كتفه جرحا بليغا، فوقع على الأرض من ألم الضربة، وكان «فيروز» قد وقع لما ضربه «طيفور» على حين غفلة منه، فانقض عليه، وأوثقه كتافا، وساقه إلى الكهف.
ورجع إلى ملابسه يبحث فيها عن الرقعة، فلم يجد لها أثرا، وكان في جعبته بعض أدوات ففتحها، وأخرج ما فيها فلم يجد إلا ما يلزم للمسافر من أدوات السفر من زاد وغيره، ووجد من ضمن تلك الأشياء أرنبا صغيرا موضوعا في شبكة، فظن أنه اصطاده في طريقه، ولم يسألاه عن الرقعة خوفا من أن يعرفهما، أو يطلع على أمرها، فيئسا من وجودها. وعمد «طيفور» على قتل «فيروز»، ولكنه تذكر أن الملك لم يأمره بقتله، فقام وشد وثاقه، وربطه إلى صخر في داخل المغارة، وذهب إلى رفيقه، وضمد جرحه، وصعد به إلى محل عال من الجبل ليستريحا ويملآ جوفهما من الطعام الذي وجداه في جعبة «فيروز». وبينما هما يخرجان الأشياء، وإذا هو وجد ذلك الأرنب فأخذه، وجمع شيئا من الحطب، وأشعل النار وشق بطنه بعد أن سلخ جلده، ولا تسأل عما شمله من الفرح حينما وجد الكتاب الذي هو بصدده في جوف الأرنب، وطار فؤاده سرورا حيث إنه كان في غاية الخجل من رجوعه إلى الملك بدون جدوى.
وبينما هما كذلك، وإذا هما برجل كبير السن محدوب الظهر أبيض الشعر قد دخل عليهما وسلم، وقال: يا أولادي ! هل يوجد عندكم شربة ماء، فأطفي أواري بها؛ لأني قد أعياني الظمأ والنصب؟ فقال له «طيفور»: ادخل يا عماه على الرحب والسعة. فدخل بينهما، ووضعوا الزاد فأكلوا وشربوا، وهو يلقي عليهم العبارات اللطيفة، وحول وجهه إلى جهة النار، وكان في يده شيء من الشمع المصنوع فألقاه بها. وما تصاعد دخانه حتى زبلت أعينهما، وناما نوما عميقا، فعمد إلى حبل كان تحت ثيابه ووأثقهما وثاقا متينا، ومد يده إلى جعبة «فيروز»، وكافة أدواته، وأخذ الرقعة التي هي في صدر «طيفور»، وقصد محل «فيروز» في لحف الجبل، ولما رآه وأخبره بأنه وجد الرقعة فرح «فيروز»، وركب وسار إلى محل «كورش».
الفصل الحادي عشر
في شعور كورش أنه ابن الملك قمبيز
أما «كورش» فإنه استمر على البكاء والنحيب، وإنشاد الأشعار والتغزل في تلك الفتاة، وقد ترك الدروس، وركوب الخيل، وأحب الاعتزال، وانقطع عن مجالسة الناس، وصار لا يريد أحدا يدخل عليه سوى «روبير»؛ لأنه كاتم أسراره وشريكه في مصابه. ولم يزل على هذا الحال إلى أن جاء الوزير، ودخل إلى القصر فخرج «كورش» لملاقاته، وقبل يديه ودخلا الحجرة المعدة للوزير فجلس، وأمر «كورش» بالجلوس فجلس، وقد تحير الوزير لما رأى من تغير «كورش» ونحفه ونحول جسمه، وذبول تلك الطلعة الباهرة، فقال له: ما الذي نزل بك يا ولدي؟ ومالي أراك متغير اللون والجسم؟ فإني أراك على غير هيئتك الأولى، فما تشكي؟ أخبرني أيها العزيز إن كان ألم بصحتك شيء أوجب هزالك حتى أتلافاه قبل أن يستفحل.
قال: صحتي - ولله الحمد - في غاية الجودة، وليس بي شيء يكدرني ما دمت تحت رعاية مولاي.
فسكت الوزير، وبعد هنيهة قام واختلى «بفانيس»، وسأله عن حالة «كورش»، ولماذا هو بهذا النحول والكآبة؟ هل بلغه أنه ابن «قمبيز» وسمع بقتل أبيه؟ أخبرني يا فانيس؛ لأني تكدرت جدا مما رأيت من حالته؛ لأنه يهمني كما أهتم لنفسي، وأحرص على حياته أكثر مما أحرص على ذاتي.
قال فانيس: والله يا سيدي قد أعيتني فيه الحيل واحترت في أمره، ولم أعلم له سرا، ولقد هممت أنا و«بركزاس» أن نرسل لسيدي خبرا بما هو حاصل، فمنعنا «روبير» حيث إنه يعلم بأسراره على ما أظن؛ لأنه يحب أن يختلي به دائما دون غيره، حتى صرنا إذا دخل منا أحد عنده نراه يتضجر فنتركه وشأنه مع «روبير»، ولو أن في هذه الجهة من يليق لأن يعشق لظننت أنه عاشق.
قال: يا «فانيس» ارصدوا الغلام وهو في خلوته واسمعوا ماذا يقول، ولا تجعلوه يشعر بأمر ما.
فقال: سمعا وطاعة.
ثم انصرف الوزير بعد أن أوصى «بركزاس» و«فانيس» على مداراته والمحافظة عليه وعلى راحته، وأن يقوه بأنفسهم، ودائما يستطلعوه على أخباره. وكانوا هم الثلاثة يحبونه حبا لا مزيد عليه حتى إنهم يودون لو يفدونه بدمائهم وأرواحهم إلى أن حدث له ذلك الحادث فاضطربت قلوبهم، وكادوا يذوبون أسفا وحزنا عليه، واجتهدوا بتسليته والاستطلاع على سره، فلم يجد ذلك نفعا. وبعد ذلك تركوه آسفين، وجهدوا بكشف هذه الغمة إلى أن جاء الوزير، وحصل ما تقدم ذكره. ولما جاء الليل ونام الناس قام «بركزاس» وصار جهة غرفة «كورش»، ووقف حزاء النافذة فسمع أنينا، وتصاعد زفرات وبكاء ونحيبا، وصوتا رقيقا يترنم بما معناه:
لا تخش يا ربع الحبيب همودا
فلقد أخذت على الوداد عهودا
وليغنين ثراك عن صوب الحيا
صوب المدامع إن طلبت مزيدا
كم غادرت رؤياك يوم وداعنا
سحب المدامع منهلا مورودا
ثم خانه الجلد فشهق، وأن أنين الثكلى، وجعل يهتف باسم «شاهزنان» ويقول: واويلاه! كيف يجوز لي أن أحب ابنة الملك، وأنا دنيء الأصل لا نسب ولا جاه؟! غرست في نعم هذا الوزير، ولولاه لكنت الآن أرعى الغنم، وأساري الوحوش، وأسكن الجبال. آه يا «شاهزنان»! ليتني لم أخلق، وليت أمي لم تلدني، ولا بليت بحبك! ليت شعري ما تعلم عني، وماذا تفعل يا «روبير» في هذه الرحلة، هل يسهل عليك أن تراها أم ماذا؟! وكيف بهذا إذا علم أنني ابن راع.
وكان «روبير» غائبا عن القصر؛ لأنه لما رأى «كورش» بهذا الحزن المفرط اجتهد بتسليته، وقلب أفكاره عن حب «شاهزنان» فلم ينجح. وأخيرا قال: يا سيدي! ما هذا اليأس وقد من الله علينا بالعقل، وجعل الفكر للإنسان ليدير به الأمور، ويفك به المشكلات؟! فلنسع الآن بتدبير حيلة أو رأي نفك به هذا المشكل.
قال: يا «روبير»، ماذا يكون من الرأي وبيني وبينها من السماء إلى الأرض؛ لأنها بنت ملك وأنا ابن راع ليس إلا. فكيف أن والدها يسمح بها لرجل مثلي عار من المال والجاه والنسب؟!
قال «روبير»: لا تفتكر في شيء من ذلك؛ لأن العناية الإلهية إذا وفقت الإنسان، فلا تقف أمام مقاصده الجبال الراسيات، ولا تصده الوحوش الضاريات.
وإذا العناية صادفتك عيونها
نم فالمخاوف كلهن أمان
والآن، اسمع مني رأيا أبديه إليك، وليكن لك به تسلية، وترفع من عنقك نير اليأس، وهو أنك تأذن لي بالسفر إلى نينوى حتى آتي إليك بأخبار «شاهزنان»، وأعلمها بحبك لها، وأعلم مقدار حبها لك.
قال: كيف ذلك؟ وكيف يقال إذا لم يجدوك هنا؟
قال: يا سيدي، إني أستأذن أخوي بالتجول على حسب العادة، وأنت تعلم أنني كنت أتغيب عن القصر شهرا أو أكثر لاكتشاف الأماكن التي على حدود المملكة، وبهذه النية أسافر من هنا إلى نينوى.
قال: شأنك يا «روبير»، ولكن لا تطل غيابك عني، ولا تتركني أعاني عذاب الانتظار.
ومن ثم قام ودخل على أخويه، واستأذنهما بالسفر على قصد الاكتشاف، وقد كنا أسلفنا أن مهنته العيارة، وهذه المهنة يلزم لها السياحة ليطلع على أحوال البلاد حتى إذا لزم الأمر حرب أو غيره يكون خبيرا بأحوال الطرق والممالك. وبعد أن استعد للسفر دخل على «كورش» فوجده في انتظاره، فقال له: هل حررت لها خطابا أم كيف يكون الرأي؟
قال: يا أخي لا أقدر أن أحرر لها شيئا؛ لأني لم أعلم كيف يكون من أمر سفرك، وماذا تكون أحوالها من جهتي، فهل ترحم غرامي بها أم تردك بالخيبة والفشل؟ ولكنك أنت لسان حالي، وفي فصاحتك كفاية.
ثم ودعه وانصرف قاصدا طريق «نينوى»، وفي نيته أنه إذا اجتمع بها يخبرها بنسب «كورش»، ويوصيها بكتمان الأمر عنه إذا كتبت له، ويخبرها عن أسباب ذلك بالصورة الواقعة.
وهكذا سار «روبير» يقطع الأرض نهبا إلى أن التقى «بطيفور» وأخياه، ورأى ما قد حصل «لفيروز»، وكمن حتى تواروا عنه، ودخل على «فيروز» وفكه، وسأله عن أمره، فأخبره بالواقع ففرح «روبير»، وعلم أن الله قد أرسله؛ ليخلص شرف بنت الملك و«كورش» معا، فحمده وأثنى عليه، وخلص الرقعة - كما تقدم - فلندعه الآن في سيره، ونرجع إلى «بركزاس» حيث تركناه أمام النافذة يسترق السمع من «كورش»، ولما سمع ما تلفظ به من العبارات الغرامية وفهم أنه عاشق يائس - وقد كاد اليأس أن يهلكه - ذهب إلى «فانيس»، وأخبره بالخبر، وأعلمه أن «روبير» ذهب لهذا الخصوص، قال «فانيس»: يلزم لنا أن نخبر الوزير حتى يتخابر مع أستاذنا «أرباسيس» ليبديا فيه رأيهما.
الفصل الثاني عشر
في سفر كورش ودخوله مدينة شيراز
ولما كان في اليوم التالي ركب «فانيس»، وقصد المدينة، ودخل على الوزير فرحب به، وسأله عن سبب مجيئه فأخبره بما تم، وما سمع من «كورش»، وكيف أنه يتلفظ بذكر بنت ملك «نينوى»، وأن الذي به ليس إلا من أحوال العشق واليأس؛ لأنه يفتكر أنه ابن راع، وأن بنت الملك لا ينبغي له الوصول إليها، وهذا الفكر الذي أهلكه يا مولاي.
قال الوزير: وما الذي أعلمه ببنت الملك؟ وما السبب لهذه المعرفة وهو في مملكة «مادي»، وهي في مملكة «أشور»، وبينهما بون بعيد؟
قال: نعم، ولكن كانت منذ أشهر قد مرت من هذه الجهة، وهي في موكبها الحافل، وعلى ما بلغني أن بنت الوزير التي كانت في صحبتها - وهما منفردتان عن الموكب - قد شرد بها الفرس، وسقطت في النهر، ونزل «كورش» فخلصها من الغرق، وهنا وقع التعارف - على ما أظن.
قال: يا «فانيس» هذا مشكل شديد الأهمية، فإن تركناه على ما هو عليه كبر معه الوهم، وربما أضر بصحته.
قال فانيس: وربما ذهب بعقله أيضا.
قال: سأستشير الكاهن «أرباسيس» في هذا الأمر، وهو يمدنا برأيه السديد.
ثم قام من وقته وركب قاصدا منزل الكاهن ومعه «فانيس»، ولما أشرف على «أرباسيس» فرح ورحب بهما. ثم جلسوا، وسأل الكاهن «فانيس» عن «كورش»، فشرح له الوزير ما سمعه من «فانيس»، وقال: مدني برأيك أيها الفيلسوف؛ لأني مرتبك في أمر «كورش».
قال «أرباسيس»: إني أرى أننا نطلعه على أصله، ونترك له الرأي؛ لأنه عاقل نبيه خبير كيف يدبر أمره ويدبر شأنه.
قال: ولكن لم يئن أوان إخباره بعد؛ لأنه ثمل بخمر الشباب، وربما ألقاه التهور في التهلكة.
قال: كلا، فإنه إن علم بالأمر يقصد بلاده، وكل قومه يشكون من ظلم الماديين، واستبداد «أستياج» وظلمه، فالكل إذا وجدوا ابن «قمبيز» يجتمعون تحت رايته، ويهجمون على هذه البلاد، ونخلص من ظلم «أستياج».
قال: هذا ما كنت أتمناه مدة حياتي أيها الحكيم.
قال: وهذا هو الواقع، وستراه عما قريب، فأشير عليك الآن ألا تؤخر هذه الفرصة، واستحضر «لكورش» ما تقدر عليه من رجال؛ ليكونوا له عونا في طريقه، وإن العناية الإلهية تحفه بالنصر مهما كانت أنصاره قليلين.
ولما سمع الوزير ذلك لبى بالإجابة، وقام بعد أن التفت إلى «فانيس»، وقال له: هل أنت سمعت ما دار بيننا من الكلام؟ وأنتم الثلاثة أول رجاله، وأنا سأهتم بتحضير الرجال بعددهم وآلاتهم، ولكن أنتم عليكم بأن تخبروه بلطف؛ لئلا يؤثر عليه الفرح، واستحضروا جميع ما يلزمكم للسفر إلى بلاد فارس.
قال: سمعا وطاعة.
ثم ودعهما، وذهب فرحا مسرورا لخلاصهم من ذاك الاختفاء الذي هو أمر من السجن، وقد قبل أيادي «أرباسيس»، فدعا لهم بالتوفيق، ولما دخل القصر قابله «بركزاس»، وأخبره: أن «روبير» جاء من السفر، وأن «كورش» اليوم في غاية الانشراح إلا أنه شديد التفكر.
قال: علمت بما يتفكر، وسبب انشراحه.
قال «بركزاس»: كيف ذلك؟!
قال: أما سروره؛ فإنه ناشئ عن أن «روبير» أتاه بخبر مفرح من لدن محبوبته، وأما تفكره فلكونه ابن راع، وها أنا الآن أمرت بأن أخبره الحقيقة.
قال «بركزاس»: وبعد أن تخبره ماذا يكون؟
فأعاد عليه كل ما حصل بين الوزير والكاهن، ففرح «بركزاس» لذلك ، وسأله «فانيس» عن «كورش» قال: إنه نزل مع «روبير» إلى الحديقة، فلنتبعه.
فذهب إليه «فانيس» وسلم عليه فسأله «كورش» عن الوزير، وعن أستاذه.
قال: إنهما يدعوان لك بدوام العز وبلوغ المراد. ثم قال: إننا سنتهيأ للسفر إلى بلاد فارس.
قال «كورش»: ولم هذا السفر؟!
قال: ستعلم يا مولاي. ولما سمع «روبير» ذلك انشرح صدره؛ لأنه علم أن «فانيس» سيطلعه على الحقيقة، فيرتاح من عبء اليأس، أما «كورش» فإنه تعجب من ذلك غاية العجب، وتاقت نفسه للاطلاع على الغرض المسبب لهذا السفر، فدخل على «فانيس» - وكان بعد ما قال له هذا اللفظ دخل حجرته، وترك «كورش» مع «روبير» - فدخل عليه «كورش»، وسأله قائلا: لماذا لم تخبرني عن سبب سفرنا إلى بلاد فارس أيها الأستاذ؟!
فنظر إليه متبسما وقال: الآن قد حصحص الحق، وظهر الصبح لذي عينين أيها الملك!
فاندهش «كورش» من هذا اللفظ، ونظر إليه بنظر المرتاب، وقال: أتهزأ بي أيها الأستاذ؟!
قال: لا والذي نفسي بيده لم أقل إلا حقا! وإنك حقيقة ملك إيران، وإن لم تكن اليوم، فستكون غدا.
قال: كيف ذلك؟!
فقص عليه الخبر برمته، وكيف أن أمه، وضعته في منزل «سباكو»، واختفت من ذلك الوقت إلى الآن لم يظهر عنها خبر، وكيف أن جده «أستياج» قتل ابن الوزير، وكيف جرد العساكر على قتال والده «قمبيز» إلى غير ذلك مما حصل، وقد أوغر صدره من جهة «أستياج» بكل ما قدر عليه، ولما سمع «كورش» منه ذلك ثارت في رأسه نخوة الشباب، وشجاعة الملوك، وقال: الآن علمت سبب اعتناء هذا الوزير بي، وخوفه علي من «أستياج»، فوالله لآخذن بثأره، ثم بثأر أمي وأبي.
ثم التفت إلى «روبير»، وقال: قم، واستحضر كل ما يلزم للسفر «فاليوم خمر وغدا أمر».
وبعد قليل من الزمن أرسل الوزير مائة فارس بعددهم، وكل ما يلزم لهم، وزوده بمال كاف حتى يصل إلى بلاده، ويجمع الجيوش.
الفصل الثالث عشر
في دخول كورش مملكة فارس ورجوعه إلى همذان وفتحها وأسر جده
وركب «كورش» ومن معه، وقد كان أرسل «روبير» في أثناء ذلك لتخليص الراعي وزوجته من سجن «أستياج» ففعل، واستصحبهما معه، وقاموا جميعا يقصدون بلاد فارس، وقد وفقتهم العناية الإلهية بلطفها، فوصلوا إلى مدينة «شيراز» في أقرب وقت. وكان الوزير أرسل الرسل بدهائه إلى من يعتمد عليهم من أكابر إيران، وأخبرهم بمجيء ابن ملكهم «قمبيز»، ولما علموا بذلك فرحوا فرحا شديدا، وكانوا منتظرين حضوره منذ بضع سنين بناء على وعد الوزير لهم. ولما علموا بقرب حضوره تجمعوا سرا، واستحضروا لمقابلته، وقد دخل «كورش» «شيراز» كالأسد الضاري، فقابلته أهل «شيراز»، وهجم على قصر الملك بمن معه، وخلع الحاكم الذي من قبل «أستياج»، وجلس مكانه. وأعلن في المدينة أن الملك «كورش» ابن الملك «قمبيز» قد حضر، وجلس على سرير أبيه، فمن يريد أن يدخل تحت رايته فليحضر.
وقد نشر هذا الإعلان في جميع مملكة إيران، وكانت تلك المملكة قد ضجر أهلها من ظلم «الماديين»، واستعبادهم لهم وحرمانهم من السلطة في بلادهم، فجمعوا أكابرهم وعقدوا الرأي على تعضيد «كورش» ومبايعته عليهم ملكا، ثم جمع العساكر، وحشد الجنود، وهجم على مدينة «همذان»، وكان الملك «أستياج» قد أحس بالأمر فجمع الجيوش، وأمر عليهم وزيره «أرباغوس»، وحصن المدينة من كل جهة، وكان «أرباغوس» يدس الفتن من كل جهة ضد «أستياج»، وقد جاء «كورش» بجيوش الفرس، وعسكر حول المدينة، وكان الملك وقومه في أمان من ضبط الأسوار، وفي ثاني يوم اصطفت العسكر، ودار بينهما الحرب؛ ففي اليوم الأول كان فيه النصر للماديين، ولما أمسى المساء دخلت عساكر «أستياج» إلى المدينة، وأوصدوا الأبواب.
أما «كورش» فإنه جلس في سرادقه، وجمع أكابر قومه، وطلب آراءهم في فتح المدينة، فقالوا: إن هذه الأسوار متينة جدا، وليس لنا في فتحها إلا أن نستعمل الحيلة.
قال «فانيس»: فانتظروا «روبير» إلى حين حضوره، فإنه الآن في المدينة داخل الأسوار.
فتعجب «كورش» والحاضرون من ذلك، وقالوا: كيف أمن على نفسه، ودخل بين الأعداء، وهو معروف بينهم؟!
قال «بركزاس»: لا خوف عليه، فإنه ينفذ من الزرد.
وكان «روبير» لما دخلت عساكر «مادي» إلى المدينة لبس لباس الجند، ودخل من ضمنهم، ولم يزل سائرا إلى أن دخل على الوزير، ولما رآه استبشر به، وكان في احتياج له ليرسل معه التعليمات إلى الملك «كورش»، وبعد أن سلم وجلس سأله عن أحوال الملك، قال: هو بخير أيها الوزير.
ثم قال: يا «روبير»، إننا لو تركنا الحرب على ما هي عليه لهلكت أبطال فارس، ولكن الحرب خدعة، فاذهب أنت الآن إلى مولاك وأخبره أن يهجم في الليلة الآتية على الأبواب فيجدني قد فتحتها له من الداخل؛ بحجة أني سأهجم عليكم على حين غفلة منكم.
فقال: سمعا وطاعة.
ثم ودعه وخرج، وانخرط بين عساكر «مادي».
وكان الملك «أستياج» فرحا بنصر جيوشه وخامره السرور من شدة فرحه، وأرسل إلى «أرباغوس» وقال له: كيف رأيت عساكرنا في هذا اليوم؟
قال: يا مولاي، على غاية ما يرام من الانتظام حليفهم النصر، وعما قليل ترد عساكر الفرس على أعقابهم، ونأتيك «بكورش» أسيرا أو قتيلا، وفي هذه الليلة سأهجم عليهم على حين غفلة، وأمحي أثرهم.
قال: باركت النار فيك يا وزيري الأمين!
وفي اليوم الثاني خرج «روبير» ضمن عساكر «مادي»، واختلط بعساكر الفرس، ودخل على الملك، وأخبره بما تم بينه وبين الوزير ففرح لهذا الخبر، وجمع القواد، ورتبهم بحسن درايته، وقال: كونوا على أهبة لحين أن يصدر لكم أمري بالهجوم على الأبواب.
قالوا: سمعا وطاعة.
ثم أمر «روبير» أن يلاحظ الوقت المعين، وفي الميعاد جاء «روبير»، وقال: يا مولاي، أزف الوقت. فصدر الأمر للقواد بالهجوم، وقد هجموا هجوم من يريد التخلص من الظلم، وألقوا بأنفسهم في حزافر الموت، و«كورش» شاهر حسامه في مقدمة تلك الصفوف، و«روبير» أمامه، و«فانيس» عن يمينه، و«بركزاس» عن يساره، ولما رأى الوزير ذلك، وعسكر الفرس كالسيل الجارف أمر القواد بالرجوع إلى الوراء، وأن تخلى الأبواب، فعلموا أنها مكيدة، وألا مناص من الخضوع، فامتثلوا أمره، ودخل «كورش» بجيوشه المنصورة وملك الأسوار، واستولى على قصر الملك بعد أن قادوه أسيرا، ثم جلس «كورش» على سرير مملكة «مادي»، وجمع أكابر الدولة، وسألهم فيمن يختاروه عليهم حاكما لبينما يفرغ هو من غزواته، فقالوا كلهم بلسان واحد نحن نريد الوزير «أرباغوس»؛ لأنه محب لنا، عادل بالرعية، فولاه وأمر باستحضار «أستياج»، فحضر فقال له: كيف رأيت صنع الله في الظالم؟! ولماذا قتلت أبي وأمي - ولم يعصيا لك أمرا؟
قال: فلم أقصد قتل أمك؛ وهي ابنتي الوحيده، ولكن كان قصدي قتلك وأنت في بطنها خوفا على ضياع مملكة «مادي»، فلم يتيسر لي ذلك، ولا بد أن يكون للنار فيه إرادة.
قال: يا ظالم، إن النار مخلوقة من مخلوقات الله - سبحانه وتعالى - ليس لها حل ولا ربط، وإنما الإرادة بيد الله سبحانه فمن آمن به فقد نجى، ومن كفر فجزاؤه الخزي وعذاب الجحيم فآمن به واترك عبادة النار وأنا اترك لك ثارات أمي وأبي.
قال: ما كنت لأترك دينا وجدت عليه آبائي وأجدادي.
فألح عليه «أرباسيس»، وأنذره فلم يقبل، فلما وجد «كورش» امتناعه وترفعه عن عبادة الخالق - سبحانه وتعالى - أمر بأن تجمع الأحطاب، وتوضع في ساحة القصر، ثم يوقدوا فيها النار ففعلوا، وأمر بإحضار الملك «أستياج» فحضر - وقد جلس الملك «كورش» على كرسي مملكته، وحوله الوزراء والقواد، وأكابر الدولة - ثم أمر «فانيس» أن يخطب فيهم والعساكر شاهرة السلاح فوق رءوسهم. فقام وقال: أيها القوم! إن الله يأمركم بعبادته، وألا تعبدوا إلا إياه، فمن أطاع منكم، فله أجره من الله، ومن خالف فمأواه النار التي تعبدونها من دون الله. فهاج الجمع وماج، ثم التفت أكابر القوم إلى «أرباسيس»، وكانوا يعلمون فيه الحكمة والدراية، ويحترمون قوله واستشاروه، في ماذا يعملون؟
فقال لهم: هذا هو الحق. ثم قام وألقى عليهم خطبة كلها حكم، وأرشدهم إلى صراط مستقيم، فآمنوا جميعا إلا «أستياج» فإنه وقف مبهوتا لا يحر جوابا، فقال له «كورش»: كيف رأيت ربتك أيها الملك؟ هل قدرت أن تدافع عن نفسها، وتمنع عبادها من الخروج عن عبادتها؟!
فسكت «أستياج»، ولم يحر جوابا.
فقال له: انطق بالوحدانية، وإلا كانت هذه النار مأواك.
وأشار إلى النار الموقدة في ساحة القصر، فأطرق «أستياج» إلى الأرض، فاحتد «كورش»، وأمر بأن يخلعوا ما عليه من الملابس، ويدنوه من وهج النار، لعله يتذكر أو يخشى، فقربوه حتى إذا صار قيد رمح لفحه لهيبها، فرجع إلى الوراء مذعورا مرعوبا طائش الفكر، وقال: أرجعوني إلى الملك.
فرجعوا به فقال له «كورش»: ماذا تراءى لك الآن؟
قال: إني آمنت بربك، فاتركني من هذا العذاب.
فقام «أرباسيس» وحل عقاله، وأجلسه عن يمين الملك، وعلمه شروط الإيمان عن ملة إبراهيم خليل الرحمن - عليه السلام - وبعد ذلك بالغ في إكرامه، وتركه داخل قصره يعبد الله ما بقي من حياته.
الفصل الرابع عشر
في زواج كورش بشاهزنان وفتح مدينة بابل
أما «كورش» فإنه بعد أن رتب أحوال المملكة أمر بقيام الجيوش إلى مدينة «شيراز»، فساروا بعد أن تركوا «أرباغوس» ملكا على «مادي»، وهكذا تم سائرا إلى أن بلغ ظاهر المدينة، فنظر إلى جيوشه وحاشيته، فتذكر «شاهزنان»، وكان «روبير» لا يفارق ركابه، فقال له: يا «روبير»، كيف رأيك بمالكة فؤادي؟ هل تقبلني الآن أن أكون لها بعلا أم لا؟
قال «روبير»: كيف لا وقد كاد الغرام أن يذهب بحياتها؟!
قال: ولكنها لم تعلم أني ابن ملك فارس، وجدي «أستياج».
قال: بل هي تعلم ذلك قبل أن تعلمه أنت.
قال: كيف ذلك؟
قال: يا مولاي، إني لما أرسلتني ووجدت «فيروز» كما أخبرتك، ولم أرد أن أتأخر عنك فأخذت منه الكتاب، وأرسلته إلى سيدته ليخبرها بك من أنت، ووضحت لها كل شيء أنت غافل عنه، وأعلمته بما عندك من الحب والهيام. والآن هي تعلم كل شيء.
قال: أنا أرسل «أرباسيس» ليطلبها لي من أبيها.
قال: هذا رأي سديد، وأرجو أن ترسلني معه لأتجسس الأحوال الداخلية.
قال: وهو كذلك؛ لأني أعلم أن الملك «أكيا كسار» شديد البأس والأنفة، وأن المملكة الآشورية كلها تهابه، وتكبر رأيه، وأخاف أن يردكم خائبين.
قال: يفعل الله ما يشاء.
ثم ساروا كأنهم السحاب المنتشر، وكان «أستياج» على ظهر جواده يتأمل في صنع الله، وكيف كان يظن أن يقدر على أن يطفئ نورا أراد الله إظهاره وانتشاره في الأرض بعد أن أطلعه الله عليه في عالم الرؤيا، فيندم على ما فرط منه، ويستغفر الله لذنبه، وما زالوا سائرين إلى أن بلغوا مدينة «شيراز» فضربت الطبول، وقامت الأفراح، وزينت المدينة بأحسن زينة، ودخل «كورش» إلى محل عزه ورايات النصر تخفق فوق رأسه، وقد كان ذلك اليوم يوما مشهودا يحدث به التاريخ جيلا بعد جيل، كل ذلك والملك ثمل بخمر الغرام، بيد أن كل أهل إيران ثملون بنشوة النصر، وتخلصهم من ربق العبودية.
وبعد أن استقروا وارتاحوا من وعثاء الحروب والأسفار جلس الملك يوما وحوله خواصه وندمائه «أرباسيس» و«فانيس» و«براكذاس»، وبعد ذلك التفت الملك إليهم، وعرض عليهم الرأي في طلب بنت الملك «أكيا كسار»، وأعلمهم أنه يحبها، ولا يريد أحدا سواها قال: وأريد أيها الأستاذ أن تكون أنت الرسول إلى بلاد آشور؛ لأنك عالم بغوامض الأمور قادر على استنباط الحكم، لعل أن يكون شفائي على يديك.
فقال: نعم يا ولدي، ولكني أريد أن ترسل معي «فانيس».
قال: نعم، و«روبير» أيضا، وقدر ما يحتاج إليه من العساكر والخدم؛ ليكونوا في معيتكم.
ثم استحضروا ما يلزم لهم من الهدايا الثمينة من أحسن ما غنموه من خزائن «مادي» من الجواهر الثمينة وغيرها، وأرسل معه مائة وأربعين صندوقا تحتوي على أعظم ما تقتنيه الملوك من حلي وحلل. وسار الركب يقطع القفار حتى قرب من مدينة «نينوى»، فنزلوا هناك في مرج زاه زاهر والمياه تتدفق من جوانبه، فأمرهم «أرباسيس» بالنزول فنزلوا، ونصبوا الخيام، وباتوا تلك الليلة، وكان «روبير» قد قام من ساعته، وأطلق رجليه للرياح، وقصد مدينة «نينوى»، ولما أقبل عليها وجد حولها جيشا جرارا، وعساكر وخياما منصوبة، ورايات تخفق.
فاخترق بين هذه الجموع، ودخل من مكان إلى آخر حتى اطلع على القوم. ووجد الحصار ملقى على مدينة «نينوى»، وأبوابها مغلقة فتقدم إلى بعض الحراس، وسأله عن اسم هذا الملك، وعن السبب في هذه الحرب. فقيل له إن هذا الملك «أفراسياب » ملك بابل، وقد طلب «شاهزنان» بنت الملك «أكيا كسار» فلم يسمح له بها فغضب لذلك، وجرد عليه العساكر فهذا سبب الحرب، فلما سمع «روبير» ذلك طاش عقله، وقام يعدو إلى أن وصل إلى محل القوم، وكان الحكيم «أرباسيس» قد أمر الركب أن يظعنوا، وكان النهار قد أسفر اللثام عن وجه الليل القاتم، وقد قاربت الغزالة أن تلقي حبالها على هاتيك الروابي فدخل عليه، وقال له: قد كدنا أن نكون غنيمة للقوم.
قال: وما ذلك؟ فأخبره بكل ما رأى وسمع فتكدر «أرباسيس» من هذا الخبر، وقال: كيف العمل يا «فانيس؟»
قال: يا سيدي، لا يجدي إلا الرجوع من حيث أتينا، ونخبر الملك لعله يدرك «أفراسياب» قبل أن يدخل المدينة، ويسبي «شاهزنان» التي هي المراد في هذه الحرب. وفي الوقت عينه حملت الحمول، ورجع الركب من حيث أتى، وما زالوا سائرين إلى أن دخلوا مدينة «شيراز»، وكان «روبير» سبق الركب، وطار في الهواء إلى أن بلغ القصر، ولما رآه الملك أشعث أغبر على هذه الصورة ارتاب في أمره، وقال: ما بالك يا «روبير» - كفانا الله الشر - وأين باقي الركب؟
قال: هم في الطريق يا مولاي، ولكن أدرك مدينة «نينوى»، فإنها على وشك الحرب، ولا يبعد أن تقع «شاهزنان» سبية في يدي الأعداء.
قال: أوجز يا «روبير» كيف ذلك؟
فقص عليه الخبر بما فيه، ولما سمع «كورش» ذلك شعر كأن صاعقة من السماء نزلت فوق رأسه، وصاح صيحة ارتجت منها الأرض، وأمر القواد بالاستعداد والتأهب في أقل من القليل. ثم تجمعت العساكر تحت راية ملك فارس، وكان «أرباسيس» قد حضر بمن معه، ولما تكاملت الحملة خرجوا إلى خارج المدينة، وعسكروا هناك، وبعد ثلاثة أيام سار الجيش الفارسي تحت راية الملك «كورش» تحفه أعلام النصر والأبهة، وما زالوا سائرين والملك في أوائل تلك الجيوش يكاد أن يسبق الرياح، وهو يبكي وينتحب، وينشد الأشعار الغزلية والحماسية، و«روبير» يصبره، ويسليه إلى أن وصلوا إلى مدينة «نينوى».
ولما بلغوها، وجدوا أعلام العراقيين تخفق على أسوارها، ولم يجدوا من عسكر «بابل» سوى المناط بهم حفظ المدينة، وقد عسكر الملك حول الأسوار. وكان «روبير» قبل أن يقربوا على نينوى بنصف يوم أمره الملك أن يكشف لهم الأخبار، وما زال سائرا إلى أن بلغ تلك الربوع، وإذا بها خاوية على عروشها، فدخل المدينة فلم يمانعه أحد، ووجد أهلها في غاية الحزن والكدر، فقال لأحد حراس الأبواب: أرى آثار حرب، ومعالم طعن وضرب!
فقال: أين كنت يا هذا؟! فإن الحرب عما قريب ألقت أوزارها، وإن الملك «أفراسياب» فتح المدينة عنوة، وأسر الملك «أكيا كسار»، ووضع أحد قواده حاكما عليها يدير أمورها، وسافر بالأسراء والسبي إلى مدينة بابل.
ولما سمع ذلك منه خرج فوجد مولاه على مسافة قريبة من المدينة، فانتظر إلى أن عسكروا - كما تقدم - فدخل على الملك، وأخبره بكيفية الواقع.
ولما سمع «كورش» هذا الكلام أخذه القلق على «شاهزنان»، وقال لمن حوله: ما الرأي أيها الملأ؟ أفتوني في هذا الأمر؛ فإني عدمت الرشد والصبر، أأمضي إلى «بابل» أم أهجم على نينوى وأفتحها عنوة، وأخرج عساكر «أفراسياب» منها؟
قالوا: حيث أننا قربنا من مدينة نينوى يلزم فتحها قبل السفر إلى بابل.
قال: نعم، ولكني أخشى من أن يصيب «شاهزنان» مكروه.
قال «روبير»: فليس في المدينة من الحامية ما يحمل جولة جائل.
قال «بركزاس»: دعني أنا مع مائة فارس أغار عليها، وسيروا أنتم إلى بابل.
قال «أرباسيس»: هذا رأي سديد؛ لأني أعلم أن «بركزاس» فيه الكفاية بأن يفتحها بمفرده.
قال الملك: فاختر لنفسك من شئت من الجنود.
ففرح «بركزاس»؛ لأنه يريد أن يعمل عملا يظهر به شجاعته أمام الملك، والحاصل انتخب مائة فارس تحت إمرته، وهجم على المدينة فخرج لهم عساكر العراقيين مندهشين من أين جاءت هذه الشرذمة القليلة وقابلوهم باحتقار، وعدم اعتناء، ودار الحرب بينهم، وقد أظهرت أبطال الفرس كل بسالة، وفي مقدمتهم «بركزاس» كالأسد الضرغام حتى ألجئوهم إلى أبواب المدينة، وقبل أن يتمكنوا من غلق الأبواب هجمت عساكر الفرس على الأبواب، ودخلت المدينة تأسر وتقتل إلى أن دخلوا قصر الملك، ودخل «بركزاس» بعد أسر الحاكم وجلس مكانه، ونكس الأعلام البابلية، ونصب الأعلام الفارسية، ورتب الأحكام وعزل وولى، وبعد أن رتب إدارة المملكة كتب كتابا إلى الملك يخبره بما تم، وأرسله مع أحد العيارين.
أما الملك «كورش» فإنه بعد أن أمر «بركزاس» أن يفتح «نينوى» أمر العساكر بالقيام من ساعته فنفرت في الحال، وسار بركبته قاصدين أراضي بابل، والملك يكاد أن يطير شوقا إلى تلك الربوع، وبعد بضعة أيام أدركوا المدينة وعسكروا حولها ...
فلنترك الآن «كورش» في غرامه وهيامه، ونرجع إلى «شاهزنان» ووالدها، فنقول: إنه لما رجع «فيروز» إليها - كما سلف - ودخل عليها وسلم، وسألته عما حصل، وعن قريب رجوعه فأخبرها بكل ما سمعه من «روبير»، وما حصل من اللصين، وكيف أخذا منه الكتاب، وكيف خلصه «روبير» منهما، وكيف أخبره عن «كورش» أنه ابن ملك فارس، وجده ملك «مادي» أكبر ملوك الأرض، وهو لا يعلم ذلك لدواع أخرى، والحاصل أخبرها بكل شيء يعلمه ففرحت «شاهزنان»، واشتعل قلبها بنار الغرام، فباتت تسعد بالأمل، وتشقى باليأس.
أما والدها، فإنه تعجب لما رأى «فيروز» في القصر بين الخدم كعادته، وهو يعلم أن المسافة بين حدود «مادي» وبين أرض «آشور» تستغرق مدة أيام، والرجلان اللذان بعث بهما لم يحضرا بعد، فاستحضر الجارية التي وشت بابنته، وهددها بالقتل إن لم يظهر نتيجة لقولها، وفيما هو كذلك، وإذا بالحاجب دخل عليه يخبره بحضور وفد ملك بابل، فقام الملك وخرج إلى دار الضيافة، وقابل الوفد وهو مؤلف من الوزير وخمسة من الجند، فصغر في عينه، وثارت في رأسه أنفة الملوك، وندم على خروجه لهم، وبعد أن سلم الوزير وجلسوا برهة من الزمن قام الوزير وأخرج منشورا يتضمن أنه يطلب ابنته «شاهزنان» - بصوت تهديدي - ولما اطلع الملك على ذلك التفت إلى الوزير بغاية الأنفة والعظمة، وقال: أخبر مولاك أنه ليس عندي بنات له، فليفعل ما يشاء.
فقام يتعثر بأذياله، ورجع بالخيبة إلى مولاه، وبعد أن أخذ قليلا من الراحة ركب وسار إلى أن دخل على الملك «أفراسياب»، وأخبره بما حصل، فلما سمع ذلك قامت قيامته، واشتعلت عيناه في أم رأسه يقدح منها الشرر وهدر وزمجر، وأمر في أسرع وقت بتحضير الجنود، وركب بجيشه الجرار، وهجم على «نينوى» - وكان الوقت الذي جاء فيه «روبير» - فهدم حصونها، ودك أسوارها، وفتحها عنوة، وأسر الملك «أكيا كسار»، وأخرج الحرم من القصر سبايا عرايا باكيات العيون، وبينهن «شاهزنان» كأنها القمر بين النجوم. ولما رآها تبكي وتلطم وجهها، وتستغيث نظر إليها بعين العاشق الولهان، وقرب منها، وقال: خفضي عنك أيتها الغادة، فإنك عما قريب تكونين ملكة بابل. فنزل هذا اللفظ على قلب «شاهزنان» نزول الصاعقة، وقالت: انزع من فكرك هذا أيها الملك الظالم، فوحرمة الشرف الذي هدمته والناموس الذي وطأته، إنك لو أجبرتني على ذلك لأقتلن نفسي قبل أن تضع يدك علي.
فاحتد الملك من هذا الكلام، ولكن الوزير سكن غضبه، وقال: يا ملك، فمن عادة النساء لا يملن إلى الرجال إلا باللين وحسن المعاملة، وهذه هدمت ملكها، وأنزلتها من أوج عزها، وتريد أن تسمع منها الطاعة في حينه؟! فهذا أمر بعيد.
فسكت الملك، وترك لها من يدبر أمرها، وأخذ الملك «أكيا كسار» تحت التحفظ والأغلال، وأخذوا «شاهزنان» في محفة تحيطها العساكر والحراس من كل جانب إلى أن بلغوا مدينة بابل، وقد زينت من كل صوب، وأقامت في عرصاتها الأفراح، وهم في طرب زائد، وإذا بالملك «كورش» عسكر حول المدينة - كما تقدم - بعسكره الجرار، وهو كالأسد الكاسر لما في قلبه من لهيب النار.
فلم يكترث به «أفراسياب» لما يعلم من تحصين مدينته، بل أمر بإغلاق الأبواب وتحصينها وتحفظها وإبقاء الأفراح على ما هي عليه من ضرب آلات الطرب، وشرب بنت الحان بكاسات الذهب آمنين من متانة الحصون، وتحفظ الأسوار، وقد هزأ «أفراسياب» بكورش وجيشه، وأعماه الله عن تدابيره؛ لأن «كورش» لما رأى منه عدم الاكتراث خاف على محبوبته من أن تهلك نفسها، أو تسلم لهذا العاتي، فاختلى «بروبير» كاتم أسراره، وقال له: يا «روبير» - بعد أن شكا له ما يقاسيه من الوجد - أخاف ان تكون هذه الطبول والأفراح التي داخل المدينة لأجل زواج الملك «بشاهزنان».
فقال: يا سيدي، إن «شاهزنان» تفضل الهلاك على أن تسلم نفسها لمن تكرهه، وفي قلبها شخص آخر.
قال: وهذا الذي أخشاه، وربما أجبرها اليأس على إهلاك نفسها، فأموت أسى وحسرة. دبرني كيف العمل؟! ومن أين المنفذ لهذه المدينة؟
قال: يا سيدي، دعني أطوف حول الأسوار في هذه الليلة لعلي أجد لها حيلة.
قال: قم وأنا معك على بركة الله، والله ثالثنا يدبرنا كيف يشاء.
قال: فليكن ذلك خفية عن عيون الناس.
ولما جن الليل ركب الملك وفي ركابه «روبير»، وطاف حول المدينة من كل جهة، فلم يجدا لهما حيلة لهذا الأمر العظيم، فقال الملك بعد تفكر قليل: أنا لي رأي واحد إن صح هذا دخلنا المدينة بكل سهولة بإذن الله.
قال: كيف ذلك يا مولاي؟
قال: أن نحول ماء النهر الذي يشق المدينة، وتدخل منه الجنود بعد أن تشف منه المياه.
قال: هذا رأي حسن!
ثم تقدم «روبير» جهة القناطر التي تدخل منها المياه، وتنصب داخل المدينة، وبحث فيها جيدا من جهة عمقها وعرضها، ورجع إلى مولاه، وقال له: إن اتساع المجرى كاف لأن يدخل منه فارسان معا.
قال: امض إلى العسكر، وائتني بالمهندسين والعمال. وحالا ابتدئوا بالعمل، وحفروا الخنادق، وحولوا ماء النهر، وبعد انقطاع الماء أمر «كورش» جنوده بالعبور إليها، فدخلوا وهو في مقدمتهم يكاد أن يقتلع تلك الأسوار. وقد نجح في ذلك نجاحا تاما، ودخل تلك العاصمة العظيمة، وأهلها مقيمون بين طرب وخمر، وهم يسكرون ويمرحون، وملكها بين أعيانه يترنح بين خمر الدنان وخمر الغرام، ويعد نفسه من يوم لآخر بقرب الوصال، فلم ينتبهوا إلا وعساكر الفرس قد امتلكت المدينة والقلاع والحصون، وأحاطوا بقصر الملك وأوثقوه كتافا، وأخذوه أسيرا، وهو لا يعي من السكر، ودخل «كورش» إلى قصر الحرم، وهو شاهر حسامه و«روبير» أمامه.
فلما دخل وجد القصر جنة فوق أديم الأرض؛ لما فيه من الزخارف والأواني الذهبية والفضية والنمارق الثمينة ما يعجز عن وصفها اللسان ، وكانت النساء يصلحن من أمر «شاهزنان» لأجل زفافها على الملك، وهي تبكي وتنتحب، وتتضرع إلى الله أن يصرف عنها هذا البلاء. وإذا بها تسمع ضجة عظيمة في أنحاء القصر فخفق فؤادها، وظنت أن الملك داخل عليها، وكان في صدرها مدية قد استحضرتها معها لتطعن نفسها حين دخول الملك عليها فشهرتها في يدها، ونظرت إلى الباب، وكان النساء اشتغلن عنها، وتشتتن في أنحاء القصر خوفا ووجلا من تلك الضجة، وبعد لحظة دخل «كورش» ومعه قواد قومه إلى ساحة القصر الداخلي، وكان «روبير» قد سبق القوم ليبحث عن محل «شاهزنان»، وقد دخل فوجدها شاهرة بيدها تلك المدية، وتريد أن تطعن نفسها، فاختطفها من يدها، وبعد ما استفهم عن اسمها وعرف أنها هي بشرها بخلاصها ودخول حبيبها وامتلاكه المدينة.
ورجع إلى مولاه ليخبره، وإذا به داخل أمام الباب الذي هم فيه فأرشده «روبير» إليها، ولما رأته صرخت بصوت الفرح، وخرت مغشيا عليها، فدخل «كورش»، وانكب عليها وانتشلها بين أحضانه، ووضعها فوق سريرها، واجتهد في استفاقتها، ولما أفاقت نظرت إليه، وبكت حتى بلت الأرض، فقال لها «كورش»: قد زال الخطر يا قرة العيون، ومنتهى الشجون، فلا فراق بعد الآن إلا بالموت فطيبي نفسا، وقري عينا، واعلمي أن هذا القصر، وما فيه تحت تصرفك، وسيقام زفافنا فيه عما قريب - إن شاء الله تعالى.
ففرحت «شاهزنان»، وحمدت الله الذي من عليها، وأخرجها من الضيق إلى الفرج حيث إن كل ما يلزم للزفاف كان حاضرا، وكانت على وشك زفافها لرجل تفضل الموت على النظر إلى وجهه، فبدله الله لها بمن تحب.
ثم قالت له: أين أبي أيها الملك؟ فإني ما رأيته منذ دخولي هذا المكان الذي كنت أحسبه قبل دخولك إليه نار السعير، وكنت أحس أن ثقل تلك الأسوار كلها فوق صدري.
فقال: يا شقيقة الروح! هو موجود الآن في القصر الخارجي، وقد أخرج من السجن، ووضع مكانه الملك «أفراسياب».
قالت: أريد أن أراه الآن لأجل أن أروي صدى شوقي منه.
قال: سمعا وطاعة.
ثم أمر «روبير » أن يستحضره مع «أرباسيس» و«فانيس»، فذهب «روبير» وأحضر الجميع، ولما دخل عليها والدها انكبت على أقدامه تقبلهما، وتزرف الدمع السخين فانهضها بين يديه، وضمها إلى صدره، وبكى بكاء مرا. وحالما نظر الملك إلى هذا الموقف المحزن، اجتهد في تسكين روعهما وتسليتهما، وقال لهما: إني أرسلت أحد قوادي لتخليص «نينوى» عاصمة مملكتك، ولا بد أن يكون الآن قد فرغ من فتحها. وبينما هم في تلك المذاكرة، وإذا بالحاجب في يده كتاب، فناوله للملك ففتحه وتلاه، وإذا هو من «بركزاس» يخبره فيه أنه فتح «نينوى» عاصمة مملكة «أشور»، فناوله إلى «فانيس» فتلاه جهارا، ولما سمع الملك «أكيا كسار» فرح فرحا شديدا.
وفيما هم في تلك النشوة، وإذا بالحكيم «أرباسيس» قام واقفا على أقدامه وألقى خطبة فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله قد جمل هذا الملك الصغير السن الكبير القدر بحسن الشيم، ومكارم الأخلاق، وقد خصه بالنصر حتى إنه فتح أعظم ممالك العالم في أقرب وقت، وهي مملكة «مادي» و«أشور» و«بابل». ثم وجه كلامه إلى الملك «أكيا كسار»، وقال: والآن فإنه يريد أيها الملك أن ينتمي إليك، ويكون لك صهرا، وإن تنعم له بابنتك، ويكون صداقها رجوع مملكة «أشور» إليك كما كانت.
فلما سمع الملك «أكيا كسار» ذلك كاد أن يطير فرحا، وقال: فليكن كما يشاء الملك. ثم عقدوا لها عليه في تلك الساعة، وقامت الأفراح في تلك الليالي الضاحكات، وتم السرور، وزينت تلك المعالم الزاهرة، وأرجعوا مياه النهر إلى مجاريها، وبعد أن كان الفرح «لأفراسياب» انقلب، وصار «لكورش» فسبحان من له الدوام، وفي اليوم الثاني جمع أكابر بابل، وعرض عليهم ترك عبادة النار، وأن يعبدوا الله الواحد القهار فآمنوا جميعا، وقد خصص لهم من يعلمهم شروط الدين. ولما انتهى من تصليح بلاده، وتم له الأمر أرسل «أكيا كسار» إلى بلاده، وأمر أن يسير كل من كان معه في الأسر من عساكره، فودع ابنته وصهره الملك «كورش»، وخرج الملك وحاشيته إلى خارج المدينة، وبعد أن ودعوه سار إلى بلاده في غاية الفرح والسرور.
أما الملك «كورش» فإنه جعل عاصمة بلاده مدينة «بابل»، وصار يجتهد في إصلاح بلاده، وتنظيم أمورها، وانتخاب الأكفاء من أمرائه للولايات في أنحائها. وصار يحارب عباد النار، ويهدم هياكلهم ومعابد النار، ورد طائفة اليهود إلى بيت المقدس بعد السبي (وقد كان نبي الله أشعيا أنبأ عنه قبل ظهوره بمائة سنة).
والحاصل: فبينما هو جالس في ذات يوم، وإذا بالحاجب دخل عليه وأخبره بأن الملك «أفراسياب» تخلص من السجن، وهرب فذعر الملك من هذا الخبر، وغضب غضبا شديدا، وأمر أن يفتشوا عليه في كافة أنحاء المدينة، وقامت الجواسيس من كل صوب، وكان «روبير» من ضمن من خرج، وبعد مدة، وجيزة رجع الكل بدون جدوى، وقالوا لم نجد له خبرا ولا أثرا، فاغتاظ الملك، وقال: أين «روبير»؟ ائتوني به!
فقالوا له: لم يأت بعد.
قال «فانيس»: فلننتظره أيها الملك، ولا بد أن يأتينا بخبر أكيد.
أما «روبير» فإنه صار من مكان إلى آخر يتجسس الأمور إلى أن بلغ شاطئ البحر، فوجد هناك سفينة تجارية، فطلب من ربانها أن يخبره إلى أين وجهته فقال: إلى جزيرة صقلية.
فقال: هل تقبلون معكم ركابا؟
قال: نعم، نحن مستعدون لقبول كل من يريد السفر.
قال: أريد أن أبحث عن سيدي؛ لأنه خرج فارا من وجه ملك الفرس، ولم أعلم له مكانا، وقد تخلصت أنا من السجن ولحقت بسيدي أبحث عنه إلى أين سار.
قال: لا أعلم «أفراسياب»، ولكني وجدت رجلين صفتهما كذا. وأعطاه أوصافهما، فعرفهما بالصفة أنهما «أفراسياب» وعياره، قال: وإلى أين ذهبا؟
قال: نزلوا معنا في هذه السفينة، وطلعوا على جزيرة صقلية.
قال: والآن أين تقصدون؟
قال: إليها أيضا.
قال: ومتى يكون قيامكم؟
قال: بعد قليل من الأيام. ففرح «روبير» لهذا النبأ، وصار يشغل معهم، ويتحبب إليهم، ويحنو على صغيرهم، ويوقر كبيرهم إلى أن فرغوا من وثق السفينة، وقلعت بهم تقصد تلك الجزيرة، وبعد قليل من الأيام وصلوا إليها بسلام، فطلع «روبير» يشم رائحة الأخبار، وإذا به يرى عساكر تجتمع وألات حرب تلمع، واضطراب شديد في تلك المدينة، فسأل عن ذلك، فقيل له: أن ملك «بابل» جاء يستجير بملكنا فأجاره؛ لأن ملك فارس دخل عليه بالحيلة، وأسره فتخلص من سجنه، وأتى وقد أمر الملك بتحضير الجنود، وتحصين القلع، وعما قليل سيقلع إلى بابل، فرجع «روبير» إلى المركب لما سمع ذلك، وقال: سأرجع معكم؛ لأن سيدي أرسلني بأمر مهم.
قالوا: على الرحب والسعة. ثم بعد مضي بضعة أيام تمكن فيهم «روبير» من اكتشاف مواقع المدينة وأسوارها، ومقدار القوة التي فيها من عدد وعدد، وبعد ذلك أقلعت بهم السفينة وساروا و«روبير» معهم إلى أن وصلوا إلى البر، فخرج «روبير»، وأطلق لرجليه العنان يسابق الرياح قاصدا مدينة بابل.
الفصل الخامس عشر
في فتح جزيرة صقلية واجتماع مندان بولدها كورش
كنا تركنا «مندان» في تلك القبة تقاسي عذاب الوحدة والقطيعة، لولا أن الله سهل لها تلك الجمعية التي كانت لها تسلية عظيمة، وهي تتمتع بعبادة الرحمن - سبحانه وتعالى - فتجد لها لذة تغنيها عن مجالسة الناس.
وكان ابن الملك يتردد عليها، ويسليها، فتجد لكلامه تأثيرا عظيما إلى يوم دخول ملك «بابل» على والده، فدخل عليها وأخبرها بالقصة كما هي، وقال: ها نحن نستعد لحرب الملك «كورش».
فلما سمعت «مندان» هذا الكلام برقت أسرتها، وقالت: ومتى جاء هذا الملك؟ ومتى كانت الحرب بينه وبين ملك فارس؟
قال: منذ بضعة أشهر، أما مجيئه فلم يتجاوز الأربعين يوما؛ لأنه كان أسيرا تحت قبضة الملك «كورش» فتحايل وهرب من ...
فبكت «مندان» فاندهش «ألفونك»، وقال: ما يبكيك يا سيدتي، وأنا لم أقل إلا خيرا؟!
فنظرت إليه وقالت: ألم تعلم من هو كورش؟
قال: كلا، ولكني أعلم أنه ملك فارس.
فزادت «مندان» في النحيب حتى تحير «ألفونك»، وندم على ما فرط منه، وظن أنه فكرها ببلادها وأيام عزها، فقال: يا مولاتي أطلب عفوك؛ لأني أسأت لك بذكرى هذا الخبر.
قالت: لا والله بل أحسنت إلي، وإني أخبرك ما سبب هذا الإحسان، وهو أنك تبشرني بظهور ولدي وجلوسه على سرير أبيه .
قال: هل هو بلغ سن الرشد حتى يملك مكان أبيه؟
قالت: «أنا صار لي في هذا المكان عشرين سنة، وهذا سن ولدي «كورش»، وأن الله أرسل ملك «بابل» إلى هنا ليكون بشيرا لي بقرب اللقاء.» ثم بكت بكاء مستمرا، وقالت: ليت شعري ما فعل الدهر بأبي!
قال: الملك «أستياج؟»
قالت: نعم.
قال: تواترت الأخبار أن الملك «كورش» هجم على بلاده وفتحها عنوة، وأخذ الملك، ولكنه لم يمت بل هو باق عنده في قصره.
قالت: الحمد لله الذي جعل الرأفة في قلب ولدي حتى أبقى على جده.
ثم بكت فأخذ ألفونك في تسليتها، وقال لها: كوني في راحة، واعلمي أني أول من يكون تحت راية «كورش» وقت الحرب.
ثم ودعها وقام قصد الوزير، وأخبره بكل ما سمعه من «مندان»، وقال له: لا بد أن نعضده حتى نجعل كل هذه البلاد تعبد الله، وتعمل على توحيد الدين الحق.
قال الوزير: وهذا الذي كنا نرجوه منذ سنين، وعلى الله الاعتماد.
فلنترك هؤلاء في تحضيرهم، و«مندان» بفرحها، ونرجع إلى «روبير» فإنه لم يزل سائرا إلى أن دخل على الملك «كورش»، وكان في غاية القلق لغيابه، ولما دخل عليه سلم ووقف، فقال له: أين كنت إلى هذا الوقت يا روبير؟
قال: كنت في جزيرة صقلية.
قال: وماذا فعلت؟
قال: جئتك بالخبر الأكيد. ثم أخبره بكل ما حصل، وكيف أنه وجد ملكها يستعد لأن يباغتهم على حين غفلة، فلما سمع ذلك نهض قائما وقال: سأباغتهم أنا. ثم أمر القواد والوزراء أن يستعدوا، وقال لهم: إن ملك صقلية على وشك الهجوم على بابل، وإني أريد أن أهجم على جزيرته قبل أن يخطو منها خطوة، وأرمي كيده في نحره.
قالوا جميعا: نحن طوع أمرك أيها الملك.
قال: كونوا على أهبة في أسرع وقت. ثم إنهم رتبوا العساكر وباتوا على نية السفر، وبعد مضي ثلاثة أيام كانوا على شاطئ البحر والسفن في انتظارهم فركبوا جميعا، وساروا إلى أن أشرفوا على أطراف الجزيرة، وربطت السفن في محل يبعد عن المدينة مسافة نصف يوم، وخرجت العساكر قاصدين المدينة وعسكروا حولها. ولما رأت أهل المدينة ذلك أغلقوا الأبواب، وهرعوا إلى الملك يخبرونه بما رأوا. فقالوا: إنا نرى عساكر لا تحصى وفرسان شاكين السلاح، وقد عسكروا حول المدينة، وقد ارتجت المدينة من كل جهة.
ولما سمع الملك ذلك أمر بجمع الوزراء والقواد فحضروا جميعا، وعقدوا الرأي بأن يرسل الملك من يكشف له الخبر، فالتفت الملك إلى وزيره، وقال له: اذهب أنت أيها الوزير، وائتنا بالخبر. واسأل هذا الملك أن يخبرنا ماذا يريد منا.
قال: سمعا وطاعة. ثم مضى ومعه أحد خدمه وعليه علائم الوزارة، وقد فتحوا له الباب فخرج، ولم يزل سائرا إلى معسكر الملك «كورش»، ولما رأوه أخبروا الملك بأن رسولا آت من جهة المدينة، قال: علي به فأدخلوه على سرادق الملك، فوجده جالسا على سرير ملكه، تحفه العساكر والأمراء والوزراء والقواد والحجاب وأكابر الدولة فسلم، وقد عظم في عينه، وأخذته هيبة هذا الملك فرد عليه السلام، وأمر له بالجلوس فجلس، ثم قال: ما جاء بك أيها الوزير؟ وكان قد رأى عليه علامة الوزراء.
قال: أنا رسول يا مولاي من قبل مليكي؛ لأستخبر عن سبب مجيء الملك بهذا الجيش العرمرم.
قال: أخبر مولاك أني آت لأخذ «أفراسياب»، فإن سلمه لي فأنا أرحل عن بلاده بمن معي وإلا فالسيف بيننا حكم.
قال: يا مولاي «أفراسياب» استجار به ولا يمكن أن يسلمه.
قال: فليستعد للقتال إذن.
قال الوزير: عندي لك سر أريد أن ألقيه على مسامع الملك.
فالتفت لمن حوله وأشار لهم أن يخلوا المكان، فقام الجميع إلا «روبير» فإنه بقي مكانه خوفا على سيده من الغدر، ووقف على رأس الملك شاهرا حسامه، فقال «كورش»: تكلم أيها الوزير، ولا تخش من هذا فإنه كاتم أسراري. قال الوزير: إني أسأل الملك عن شيء فهل هو مجيبني على سؤالي؟
قال: نعم، سل عما تريد.
قال: ما اسم والدتك يا مولاي؟
قال: «مندان» وقد توفيت من وقت ولادتي، ولم أعلم أين توفيت، وأيضا هذا السؤال ليس له دخل في موضوعنا!
قال: لا، بل له دخل عظيم.
فتعجب الملك من ذلك، وقال: أخبرني بالحقيقة أيها الوزير!
قال: يا ملك، أمك عندنا منذ عشرين سنة، وهي «مندان» بنت الملك «أستياج» ملك «مادي»، وإنك أشبه الناس بها.
فارتاب الملك بهذا الأمر، فقص عليه الوزير كل ما سمعه من «مندان» من أول خروجها من قصر أبيها إلى ذلك الوقت الذي هم فيه. وكيف اجتمع لديها تلك الجمعية من المؤمنين، وكيف وضعت لهم قانونا ليدبروا به شئون الجمعية - بما منحها الله من المعارف والعلوم.
ولما سمع «كورش» ذلك كاد الفرح أن يذهب بحياته، فقال له «روبير»: خذني معك أيها الوزير لعلي أرى سيدتي.
قال: كيف نكون قد خرجنا اثنين، وندخل ثلاثا؟
قال: فلنترك خادمك هنا، وأنا ألبس ثيابه، وأذهب صحبتك.
قال الملك: هذا رأي سديد! ولكن فلنتكلم بخصوص فتح المدينة، فإني في شدة التشوق إلى فتحها الآن أكثر من قبل لشوقي إلى رؤية والدتي.
قال الوزير: هذا أمر سهل فإن ابن الملك قائد الجيوش، وهو من حزب الملكة «مندان»، وقد عاهدها بأن يكون تحت رايتك، وهو الآن في انتظاري، وذلك لأجل إظهار الدين الحق، وإبطال عبادة الأصنام والحيوان.
قال: أوعلمت والدتي بحضوري حتى عاهدت ابن الملك؟
قال: نعم، فإنها تعلم بذلك قبل حضورك، أخبرها ابن الملك عن سبب تحضير العساكر، ففهمت أنك ولدها.
قال الملك: فليكن الهجوم في هذه الليلة؛ لأني تاقت نفسي لرؤية والدتي! قال: نعم، ستجد الأبواب مفتحة، ولا تجد من يقيم في وجهك سلاحا إلا أمام قصر الملك. فلما سمع ذلك زاد فرحه، وأمر «روبير» أن يستحضر للذهاب مع الوزير، فأمر هذا خادمه أن يخلع ما عليه من الثياب، ويسلمها «لروبير» ففعل، فأخذها بعد أن أخرج له غيرها فلبسها «روبير»، وصارا قاصدين المدينة. وكان «ألفونك» في انتظاره فوق السور، ولما قرب من الباب فتح له فدخل ومعه «روبير»، ولما رآه قال: ما وراؤك أيها الوزير؟
قال: طعن تذوب منه الجبال إن لم يسلم له «أفراسياب».
قال: دونك والملك ، فأخبره بما سمعت. فقصد قصر الملك، ولما دخل عليه وجد عنده أكابر الدولة، فسأله الملك عما حصل بينه وبين ملك فارس فأخبره بما سمع، وكان «أفراسياب» جالسا عن يمين الملك.
فقال له: إن الملك «أفراسياب» استجار بي، وأنا لا أسلم جاري أبدا، وهذا السيف بيني وبينه حكم. ثم استحضر ولده «ألفونك» وأعطاه التعليمات اللازمة، وقال له: في الغد تخرجوا لهذا الملك وتجلوه عن بلادنا.
قال: سمعا وطاعة.
ثم خرج واجتمع بالوزير، وقال: أخبرني عما فعلت!
فشرح له كل ما حصل، وأنهم في الليلة سيدخلون المدينة. وقال: أخبرته بما بينك وبين «مندان» من العهود، وأنك ستفتح لهم المدينة.
قال: خيرا فعلت!
ثم التفت إلى «روبير»، وقال: هذا رئيس عيارين الملك، قد أحضرته معي ليجتمع بسيدته، فكيف العمل بوصوله إليها الآن؟
قال «ألفونك»: سأدخل على الإله أستجير به لينصرنا على الأعداء وأصحبه معي.
قال: رأي حسن!
ثم أخذه معه، وسار حتى دخل على «مندان»، واستأذن «ألفونك» ودخل، وبقي «روبير» خارج الحجرة يسرح الطرف فيما حوله من التحف البديعة، وقد أراد «ألفونك» أن يخبر «مندان» بلطف خوفا عليها من تأثير الفرح. فلما دخل على «مندان» قابلته بكل سرور وانشراح، وبعد أن أدى فروض التحية قال لها: إني آتيك بهدية ما أظن شيئا في هذه الحياة يفرح مولاتي أكثر منها.
قالت: فما هي - ليت شعري - التي تفرحني، وأنا قد ختم على فؤادي بخاتم اليأس، ونسجت عليه عناكب الحزن؟
قال: وهذه الهدية حل لذاك الطلسم الذي ختم به على فؤادك.
قالت: فما هو؟! أوضح لي لعلي أجد فيه راحة!
قال: ادخل يا «روبير!»
فلما سمعت هذا الاسم - الذي صار لها عدة سنين لم تسمعه - صرخت، وسقطت على كرسي وراءها وبكت. ثم قالت: روبير! روبير! فمن لي أن أراه؟!
فقال لها: ليس هذا وقت البكاء، فإننا في شغل أقوى منه وأعظم. وكان «روبير» في هذه المسافة قد دار في أنحاء تلك القبة، واطلع على ما فيها من العجائب والأشياء الثمينة، ولما سمع النداء دخل على سيدته ، فوجدها خاوية القوى، تذرف الدمع المدرار، فتقدم إليها وقبل أياديها، وبكى هو أيضا، وقال لها: الحمد لله الذي من علينا باللقاء بعد هذا البعاد.
ثم قالت: يا «روبير»، وأين ولدي الآن؟ ومتى أراه؟
قال: هو خارج المدينة، وفي هذه الليلة سترينه - إن شاء الله.
ثم أخبرها بما عزموا عليه من فتح الأبواب، ودخول «كورش» بدون حرب ولا طعان، ففرحت لذلك، فجلس «روبير» يقص عليها كل ما حصل في غيابها، وكيف انتشلوه من سجن جده، وكيف رباه الوزير، وكيف عشق بنت ملك أشور، ثم خلصها من يد «أفراسياب»، وفتح مدينة «بابل» لأجلها، وقد تزوج بها الآن، وصار يحكم على جميع مملكة «مادي» وبلاد فارس وعاصمة مملكة «بابل» الشهيرة، قالت: وما فعل بأبي؟
قال: هو عنده في قصره في غاية الإكرام يعبد الله في خلوته، وقد آمن بالله، وترك عبادة النار، وكل أهل المدينة آمنوا، وهدمت معابد النار، وأقاموا شعائر الله، وبنيت فيها المساجد لله - سبحانه وتعالى.
ولما سمعت «مندان» سجدت لله شكرا، وحمدت الله وأثنت عليه، وكان الوقت قريب الغروب، ثم قام «ألفونك» و«روبير» وودعاها وذهبا بغاية السرعة بعد أن وعداها، وقالا: إن الملك يكون في الغد عندها بإذن الله.
ثم إن «ألفونك» جمع قواده الذين يثق بهم، وأعطاهم التعليمات بغاية الدقة، ثم أخرجوا «روبير» بغاية الاحتراص إلى الخارج بعد أن حددوا له الموعد في وقت الهجوم.
فهرع إلى مولاه وأخبره بكل ما رأى وسمع من سيدته «مندان»، ففرح «كورش» وود لو أنه يهدم أسوار المدينة، ويدخل منها ويرى والدته التي قضى معظم أيامه، وهو بحسرتها وغاية مناه أن يسمع عنها خبرا، أحية هي أم ميتة؟!
وقد قال «روبير»: في منتصف الليل تكون أبواب المدينة مفتحة، وهم في انتظاركم.
فأمر الملك أن يكونوا على أهبة الهجوم، قالوا: نحن في غاية الاستعداد أيها الملك. ثم انتظروا الساعة المعلومة، ولما أزفت قاموا ودخلوا المدينة بغاية الانتظام، فوجدوا أبوابها مفتحة، وفي أقل من القليل استلموا المعالم العسكرية والأسوار، واحتاطوا بقصر الملك، ولم يطلع الفجر إلا والمدينة أصبحت فارسية تخفق عليها الأعلام الإيرانية، وقبض على الملك «ملتياد»، وعلى الملك «أفراسياب».
وجلس «كورش» على سرير المملكة، واصطفت من حوله القواد الوزراء، وحضرت الملكة «مندان» إلى قصر الملك.
وأمر بهدم تلك القبة، وذبح ذلك الكبش أمام الملأ من الذين يعبدونه، ونادى مناد من المؤمنين بأمر الملك: إن من آمن بالله واليوم الآخر وكتبه ورسله، فقد سلم من سيف الملك «كورش»، وفي الآخرة من عذاب النار، ومن كفر فجزاؤه الذبح كما ذبح إلهه، وقد أحضر الملك «ملتياد» والملك «أفراسياب» أيضا، وقد عرض عليهما وهما تحت الأغلال الإيمان بالله وترك عبادة غيره من الحيوانات والأصنام، أما الملك «ملتياد» فقد آمن بالله، ولما رأت الأهالي ذلك وأن ملكهم الذي كان متمسكا في دينه تركه وآمن بالله؛ آمنوا جمعا كبيرا وصغيرا، رفيعا ووضيعا.
وقد أقره على ملكه بشرط أن يدفع له الخراج في كل عام، أما «أفراسياب» فلم يؤمن، فأمر الملك بقتله وصلبه على باب المدينة؛ ليعتبر به غيره ففعلوا، ودخل الملك على والدته «مندان» - وقد ألقت الحوادث أوزارها - فضمته إلى صدرها بعد أن سجدت لله شكرا على ما منحها من نعمة التلاقي بعد طول الفراق، وعلى تلك المنة العظيمة من نصر ولدها على الأعداء، وتأييد ملكه.
وقد أولمت الولائم، وأقيمت الأفراح، وبنيت المعابد الإلهية، ورتب الملك «كورش» كافة أحوال المملكة. وبعد مضي شهر من الزمن أمر الملك بالرحيل فحملت الحمول، ونصبت محفة ملوكية لأجل الملكة «مندان» تحفها الحراس والجنود من كل صوب، وساروا بكل أبهة وعظمة. أما «ألفونك» فإنه تقدم للملك، وقال له: إني على أهبة السفر معكم أيها الملك.
قال: على الرحب والسعة، ولكن هل برضا أبيك أم بغير إذن منه؟
قال: قد أذن لي بالسفر، وقد استحضرت كل ما يلزم، وها هي أحمالي أمام الركب. وهكذا ساروا قاصدين مدينة بابل، ولما قربوا منها سارت المبشرون إلى المدينة يبشرون بقدوم الملك مؤيدا منصورا وبصحبته أمه «مندان». فزينوا المدينة، وأقيمت الأفراح، وضربت آلات الطرب، وهرعت الجموع، وأكابر الدولة إلى ملاقاتهم على مسافة ثلاثة أيام، ودخل الملك على المدينة بتلك العظمة والجلال، وقد دخلت الملكة «مندان» إلى القصر، فقابلتها «شاهزنان»، وقبلت يديها وضمتها «مندان» إلى صدرها، وبكت من شدة فرحها ولسان حالها يقول:
هجم السرور علي حتى إنه
من عظم ما قد سرني أبكاني
ثم دخلت «سباكو» مرضعة الملك، وقبلت يديها، فشكرتها «مندان» على اعتنائها بولدها قبل أن تعلم من هي. وكان الملك قد ولى الراعي على مقاطعة من مقاطعات المملكة، وزاد في إكرامه.
أما «سباكو»، فكان يعتني بها كوالدة حقيقية، وقد دخلت «مندان» على والدها فقبلت يديه، وبكت فضمها إلى صدره، واعتذر لها على ما فرط منه، وهكذا عاشوا في هناء وسرور. (تمت)
Unknown page