وتذكرت عندما كانت عاصفة تهب وكان خمسة عشر أو عشرون من العائلة يهرعون لنقل القش قبل أن يصيبه المطر، وصيحات الرجال العالية في اتجاه الجرار الذي كان يسحب عربة القش، وأصوات التأوهات عندما كانوا يرفعون القش على العربة، وكنا ونحن أطفال نستقبله ونوزعه ونحشو به أركان العربة، وصوت صنادل النساء، اللاتي يسرعن خلف العربة لجمع ما يقع من القش. وكان يطغى على ذلك كله صوت الجرار المرتفع وزئير العاصفة يقترب منا، ثم الانطلاق سريعا في اتجاه غرفة التخزين. وكنا ننام على بطوننا فوق القش؛ كيلا تضرب آذاننا فروع شجر الكمثرى التي يمر تحتها الجرار. وكانت بعض حزم القش تبقى عالقة في الأفرع أياما بعدها. وأتذكر أيضا اصطدام قطرات المطر الكبيرة بعد ذلك بأرجلنا العارية التي أحدث القش بها خدوشا، وصياح أبناء وبنات الأعمام والعمات في سعادة وهم يهرولون وراء العربة، ودائما كان شخص يسبق على الدراجة لفتح باب غرفة التخزين. وأتذكر كذلك المناورة لإدخال العربة تحت السقف الأمامي للغرفة والأصوات تتعالى، بينما المطر يتساقط على السقف ومنه إلى الشارع، وذلك الهواء الساخن الخانق في غرفة التخزين.
وكنا بعد ذلك نجلس في غرفة جدينا نشرب العصير ونأكل المثلجات، ثم نستحم في البيت والأنوف يملؤها غبار القش، وبعدها نتناول عشاء سريعا أمام التليفزيون ونحن متعبون لدرجة تحول بيننا وبين متابعة الصور التي كانت تبدو لنا وكأنها أحلام مبكرة. وعند الدخول إلى الفراش كانت المفارش الكتانية الخشنة تعطي إحساسا مريحا على الأقدام المخدوشة، وكنا ننام على الفور.
وأذكر أيضا كيف كان أعمامي وأبي يتقابلون مع شروق الشمس لجز الحشائش من فوق التل، وكان ذلك يحدث كل عام مرتين أو ثلاثا في السبعينيات وبدايات الثمانينيات. وكانوا عادة خمسة: إميل وأوجوست وباول وروبيرت وإيريش، وكان كل منهم يحضر معه منجله وحجر الشحذ. باول وأبي كانا يذهبان في حذاء كرة القدم القديم؛ لأن البروز فيه كان يساعدهم على الثبات إذا داست أقدامهما على الديدان البزاقة. وكان الإخوة الخمسة يجزون حشائش التل المنحدر في صفوف متساوية. كانت الغرفة التي تقاسمتها مع فيرنر تطل بنافذتيها على التل، وكنا في الصيف نترك النافذتين مفتوحتين بطريقة مائلة طوال الليل؛ لذلك كنا نستيقظ في الخامسة صباحا على صوت أحجار الشحذ. أحيانا كان يقوم رجلان بالشحذ في نفس الوقت ويصدر عن ذلك صوت منتظم «شيت، شيت، شيت»، وفي الخلفية تصدر أصوات المناجل منتظمة أيضا وهي تجز الحشائش التي بللها الندى. وكان ذلك يستمر قرابة الساعة والنصف، ونحن ننام ونستيقظ في أثناء ذلك. وبعدها كان أبي وإخوته يعودون إلى البيت والمناجل على أكتافهم، يغتسلون ثم يذهبون إلى أعمالهم في البنك العقاري وفي الإدارة المحلية وفي الغابة وفي قراءة عدادات الكهرباء وفي المكتبة الوطنية. «أيام الإنسان مثل الحشائش.»
وبينها زهور الحرف المرجي. •••
في إحدى زياراتي لأبي هذا الأسبوع حاولت مرارا أن أقنعه بأن يلعب معي لعبة مصارعة الذراعين، في البداية كان يدفع ذراعه في الاتجاه الخاطئ، فشرحت له الطريقة السليمة للعبها، فأدرك ما قلته ولعبنا وتركته يفوز مرتين. فرح أبي بالمزاح والضحك أكثر من الفوز الذي لم يعلق عليه، ولكنه قال مبتسما: «من يفعل ما نفعله نحن هنا سيطردونه بالتأكيد.»
الشيخوخة يا أبي؟
نعم، إنها تعطي الانطباع بأني لم أعد شابا، وأني من كبار السن أو من المسنين. لا يهمني كيف نسمي ذلك.
هل تخاف من الموت؟
مع أنه من العيب ألا أعرف، فإنني لا أعرف.
الفصل الثاني عشر
Unknown page