فزعم بعضهم أن جوهان اشتغل عاملا مأجورا اقتداء ببطرس الأكبر، وادعى البعض الآخر أنهم شاهدوه في أحد مطاعم برلين. وآخرون قالوا إنه مخبر إحدى الصحف الأميركية. ومهما يكن من صحة هذه الأقوال وكذبها، فالمعروف أن الأرشديوق وزوجته كانا سنة 1890 في لندن حيث أعادا اقترانهما رسميا. وقدم جوهان أورث امتحانا في فن الملاحة (سلك البحار) ونال رخصة في تعاطيه. ثم شخص إلى همبورغ وابتاع سفينة شراعية متينة مصفحة بالحديد يبلغ محمولها نحو ثلاثة عشر ألف طن واسمها «سانتا مرغريتا»، وأقلع عليها مع قرينته إلى أمريكا الجنوبية، وكانت مشحونة ملاطا (أسمنت). ومن هناك كتب إلى صديق له في فينا يقول: «ربان سفينتي مريض جدا، وإني مضطر أن أعزل أحد ضباط السفينة؛ لأنه غير صالح للعمل. وأن أرخص لضابط آخر في الانقطاع عن العمل (إجازة) لأسباب كثيرة. فأنا والحالة هذه كل شيء للسفينة - ربانها وضباطها - وسأقلع إلى فلباريزو بلا ربان ولا ضباط.»
ويقال إنه لم يفقد الضباط فقط، بل فقد البحارة أيضا، واعتاض عنهم غيرهم من هناك، وأقدم على سفرته المحفوفة بالمخاطر والأهوال. ومنذ خرجت سانتا مرغريتا لطيتها هذه غابت عن الأبصار كأن اللجج ابتلعتها، فلم يظهر أثر لها ولا لأحد من ركبها من ذلك الحين إلى الآن. وظل الأرشديوق إلى هذا الوقت يكتب إلى والدته غراندوقة توسكانيا. ومنذ أقلعت سانتا مرغريتا من مرساها إلى فلباريزو لم تقف والدته قط على كلمة منه، ولم يسمع أحد خبرا، ولا رأى أثرا لواحد من البحارة. وقد شاعت عنها إشاعات كثيرة أجدرها بالقبول والتصديق أنها غرقت في عاصفة شديدة وهبطت بجميع من فيها إلى قعر البحر، حيث يبقى سر جوهان أورث مكتوما إلى ذلك اليوم الذي فيه تبلى السرائر وتظهر الضمائر.
وأرسل الإمبراطور جوزيف بعثة على دارعة حربية للبحث عن السفينة المفقودة في شواطئ أميركا الجنوبية، وكان بين المبعوثين الأرشديوق فرنسيس فردينند
1
وارث تاج النمسا. ولكن لسوء الحظ لم يستطيعوا الوقوف على أقل أثر للسفينة ولا لأحد من ركبها.
ولم يسع العالم التسليم بأن مصير ذلك الأمير الخطير الشهير كان على هذا الوجه، ولا قامت قط بينة تدل دلالة صريحة على غرق سانتا مرغريتا. والذين كانوا لا يجهلون شدة إقدام صاحبها على المغامرة واستخفافه بالمخاطر ذهبوا إلى أنه غير اسمها ولونه وقذف بها في غمار بحار مجهولة. وفي أحد كتب إملي ستوبل الأخيرة إلى والديها تشير إلى ما يتعللان به من أمل كشف «جزيرة لا مالك لها» يعيشان فيها برغد وهناء.
وكان جوهان أورث قبلما غادر النمسا أودع ماله بنكا سويسريا وبواسطة وكيله الدكتور فون هبرلر كان يحول عليه من وقت إلى آخر. وبعدما مضى سنتان على غرق سانتا مرغريتا طلب الدكتور هبرلر المال بموجب صك الوكالة الذي في يده، فأبى البنك أن يدفع، ولكن المحاكم حكمت بأن الوكالة صحيحة؛ لأن وفاة الموكل لم تتحقق. وحينئذ قبض الوكيل المال، ولكن هذا الوكيل من جهة أخرى طالب أربع عشرة شركة لضمان الحياة في همبورغ بمبلغ ثلاثة عشر ألف جنيه كان جوهان أورث مضمونا عليها. وكانت هذه الشركات كلها قد أبت الدفع، ولكن المحاكم أرغمتها عليه؛ إذ عدت غرق السفينة ومن فيها أمرا لا ريب فيه.
وعلى رغم هذا القرار لا يزال كثيرون مصرين على اعتقادهم أن الأرشديوق باق حيا، ولا بد أن يسترد يوما ما حقه المسلوب، ويسترجع ما كان له من رفعة الشأن وسمو المنزلة ومعه زوجته الأمينة. وقلما تمضي سنة لا يجد فيها نبأ عنه يؤيد صحة هذا الاعتقاد. ففي جهة من جهات العالم يروى عنه أنه كان موجودا، وقد شاهده هذا أو ذاك أو ذلك، ادعى بعضهم أنه رآه يحارب في صفوف اليابانيين ضد الروسيين، وقد أبلى بلاء الأبطال الصناديد. وادعى بعضهم أنه هو المارشال ياما غاتا المشهور! وقال غيره إنه كان في شيلي يقود جيشها الزاحف على بلاما سيدا. ويقول جورج لاكور المؤلف الفرنسوي المشهور في كتابه المطبوع حديثا في باريس إن جوهان أورث يقيم الآن في الأرجنتين منتحلا اسم دون رامون.
ويقول غيرهم إنه هو وقرينته يعيشان برفاء وصفاء في إحدى جزائر الباسفيك. ويدعي آخرون أنه شوهد مؤخرا مع نسيبه الأرشديوق لويس سلفاتور في مالوركا. وبالأمس قالت عنه الصحف إنه كان أحد القادمين على باخرة من أميركا إلى إنكلترة، وقد عرفه واحد من الركاب وسأله عن نفسه، فاعترف بأنه جوهان أورث الذي كان سابقا أرشديوق النمسا، ثم رأوه بعد ذلك سائرا في أحد شوارع لندن.
هذه بعض الإشاعات الكثيرة التي ذاعت وظلت مدة عشرين سنة تعين على إحياء ذكر جوهان في أذهان الجمهور. وستظل هذه الإشاعات ملء الألسنة والأفواه حتى يعود ظاهرا في الجسد لعيني كل إنسان، أو يصبح خبر موته حقيقة لا يختلف فيها اثنان.
Unknown page