وفي منتصف الساعة الحادية عشرة ليلا سير بها في عربة مغلقة حملتها تحت ستر الظلام إلى مدخل القصر السري، حيث لقيها حاجب أدخلها إلى غرفة وأجلسها على كرسي في حضرة نبوليون.
ومن خلال الدموع الغزيرة المنهلة من سحب أجفانها رأت نبوليون جاثما عند قدميها، يسكن اضطرابها بكلمات الاستعطاف التي أبت أذناها أن تصغيا إليها. ولما أشار في أثناء كلامه إلى بعلها ووصفه بكونه شيخا هرما، تنبهت أفكارها الشاردة ووثبت عن كرسيها وثبة الغيظ والحنق محاولة الفرار، ولكنه أمسكها بعزم ولطف وأرجعها إلى مكانها، وأخذ يحاول إقناعها بالميل إليه، قائلا لها إنه يتعذر عليها أن تحب رجلا طاعنا في السن كهذا، وأن اقترانها به غير طبيعي وهي غير مقيدة به شرعا، وإنه مستعد بأن يعوضها منه محبة لم تحلم قط بمثلها، ويمنحها جاها وشرفا، ويبوئها أسمى منزلة بين نساء العالم، ولأجلها يعيد إلى بولونيا استقلالها السابق ومجدها الغابر.
على أنها ظلت مصرة على الرفض والامتناع، ولم تجبه بشيء سوى سكب الدموع الغزيرة. وإذ ذاك قال لها نبوليون: «اذهبي يا حمامتي الوديعة واستريحي، ولا تخافي النسر، فلن يكون له عليك أقل سلطان بسوى الحب. وهذا الحب لا يرضيه منك إن لم يكن خارجا من صميم فؤادك. ولسوف تحبينه وتتسلطين عليه في كل شيء؛ في كل شيء، هل سمعت؟» ثم سار بها نحو الباب ولم يفتحه لها إلا بعدما وعدته بزيارة أخرى في الليلة التالية. وهذا الوعد اضطرت لتعليله به ثمنا لنجاتها منه.
وفي صباح اليوم التالي جاءتها الخادمة بكتاب ومعه طاقة أزهار جميلة وعتائد نفيسة، فتحتها الخادمة فإذا هي تتضمن شيئا كثيرا من الحلى الغالية المرصعة بالألماس. فلما وقعت عينا عقيلة والسكا على هذه الجواهر المتلألئة بضياء شمس الصباح، خطفتها من يد الخادمة وألقتها في أرض الغرفة آمرة بردها إليه على الفور. وأما الكتاب فهذه ترجمته:
ماري، يا عزيزتي ماري الجميلة، إني مشتاق جدا إليك وأتوقع زيارتك بذاهب الصبر. أفلا تأتين؟ فقد وعدتني أن تزوريني. وما أظنك تخلفين وعدك هذا. وإن أخلفت فالنسر يطير إليك. بشرني أصدقائي بأني سأراك على العشاء. أرجو أن تقبلي طاقة الأزهار. ولتكن علامة سرية تربطنا أحدنا بالآخر أمام الحضور، وسوف نتمكن بواسطتها من التخاطب على مرأى منهم وهم لا يشعرون. وعندما أضع يدي على صدري تعلمين أني غارق في لج الافتكار بك، وعليك حينئذ أن تضعي يدك على طاقة الأزهار. ليكن قلبك مشغولا بمحبتي يا ماري العزيزة. واجعلي يدك دائما على طاقة الأزهار.
ولم تر عقيلة والسكا بدا من حضور العشاء، فذهبت ولكنها أبت أن تأخذ معها طاقة الأزهار التي اقترح نبوليون أن تكون علامة سرية بينهما. ولما أبصرها قادمة بدونها حياها بفتور وجفاء، وأعرض عنها ولم يعن بمحادثتها. وبعد الفراغ من تناول العشاء بعث إليها المارشال دوروك، ولم ينصرف من عندها حتى وعدت أن تزور الإمبراطور في تلك الليلة.
على أنها في هذه المرة ذهبت غير موجسة سوى شيء قليل من الخوف والجزع اللذين أوجستهما في المرة الأولى، فاستقبلها مبالغا في الرفق بها والعطف عليها، وهي كانت ساكنة الجأش مطمئنة النفس واثقة بشرفه. ولكنه لم ينس مجيئها إلى العشاء على غير ما أراد، فقال لها بالجهد: «كنت أؤمل أن أراك مرة ثانية.» ثم سألها لماذا لم تحضر العشاء على الوجه الذي وصفه لها، ولماذا رفضت قبول جواهره وأزهاره. فظلت ساكتة لا تحير جوابا، فاستاء من هذا السكوت أشد الاستياء، وعده إهانة لا يسعه الصبر عليها.
فقال لها بلهجة الغيظ والحنق: «أروم أن تعلمي أني أقصد التغلب عليك. فعليك، نعم عليك، أن تحبيني؛ فقد أعدت اسم بلادك وهي مديونة لي بوجودها، وسأفعل أكثر من هذا لها. انظري هذه الساعة في يدي، فكما أني أحطمها أمامك هكذا أمزق بولونيا وجميع أمانيك إن خيبت أملي وأبيت قبول قلبي وبخلت علي بقلبك.» ثم رمى الحائط مقابله بالساعة التي في يده فتحطمت.
فلما شاهدت بركان غيظه ينفجر هذا الانفجار الهائل الذي يطير أمامه قلب أعظم رجل في أوروبا شعاعا سقطت مغشيا عليها، وعندما أفاقت وجدت نبوليون المخيف يمسح دموعها بيد العطف واللطف.
فانتهت المعركة منجلية عن فوز نبوليون، ولم تر عقيلة والسكا مندوحة عن التسليم بما قضاه القدر، متعزية بأنها بذلت نفسها في سبيل خلاص بولونيا. وجعلت تزوره يوما بعد يوم، ولم يكن فتورها إلا ليزيد نار غرامه استعارا واضطراما. وحينئذ هجرها زوجها، ولكنها تعوضت منه بأنها أصبحت بطلة بولونيا.
Unknown page