وبعدما أخبراها بالمبادلة التي حدثت عقب ولادة السيدتين قالا لها: «أسرع الكونت في الانطلاق سرا إلى بريسيغلا حيث عرف أمره وقبض عليه. أما الكونتس فبقيت حتى أكملت أيام نفاسها ثم برحت القرية ومعها طفلها - ابن كيابيني - ولم نرها بعد ذلك. وكانت الكونتس بورغي قد اطلعت على سر هذه المقايضة فرثت لحالة الطفلة سليلة المجد والشرف، وظلت تخصها بعطفها وحنوها وتشملها بعنايتها حتى انتقل بها كيابيني من القرية إلى فلورنس.»
فبعدما سمعت اللادي نيوبورو رواية هذين الخادمين وهي تؤيد اعتراف كيابيني وإقرار أحد الكاهنين، لم يبق عندها أقل شك في كونها ابنة الكونت جوانفيل. وكان عليها أول كل شيء أن تبحث عن هذا الكونت لتعلم من هو. ومن فورها ذهبت إلى جوانفيل في إقليم شمبانيا، وهناك اتضح لها أن لقب دي جوانفيل مختص بأسرة دوق دي أورليان.
ثم شخصت إلى باريس لظنها أنها خير مكان لمواصلة البحث عن هذا الرجل الشريف الذي لم يبق شيء من الريب في كونه أباها. فأقامت في أحد الفنادق الكبيرة، ونشرت الإعلان الآتي في أهم الصحف: «في سنة 1773 سافر الكونت دي جوانفيل إلى إيطاليا وأقام فيها برهة يسيرة، فإذا رام وارثه الاطلاع على شيء يهمه جدا أن يعرف عنه فليأت إلى فندق ... في شارع ...»
وما انتشر هذا الإعلان في الصحف حتى جاءها رجل سمين ضخم الجثة يتوكأ على عكازتين مدعيا أنه موفد من قبل الدوق أورليان، وقال لها: «إن سمو الدوق أعار إعلانك جانب الاهتمام؛ لأنه وارث الكونت دي جوانفيل.» فسألته: «وكيف ذلك؟» فأجابها: «لا يخفى على سيدتي أن أبا سموه المرحوم دوق دي أورليان كان يلقب أيضا بالكونت دي جوانفيل. وهذا اللقب كان يطلقه على نفسه في رحلته إلى إيطاليا قبل ولادة ابنه الدوق الذي أنا آت من قبله.» ثم سألها عن التركة المزمعة أن تئول إلى سموه، فقالت له إن الأمر لا يتعلق بتركة ما على الإطلاق، بل بالبحث عن سر ولادة له ارتباط بزيارة الكونت دي جوانفيل إلى إيطاليا سنة 1773. فلاحت على وجه الرسول لوائح الخيبة، وما أبطأ أن ودعها وانصرف. وبعد ذهابه سألت عنه، فعلمت أنه أخ غير شرعي لدوق دي أورليان المتوفى وعم دوق دي أورليان الحالي الذي عرف فيما بعد باسم الملك لويس فليب. وبعد أيام ذهبت اللادي نيوبورو إلى رواق الصور في القصر الملكي، ومعها ابنها الصغير من زوجها الروسي. وفيما هما واقفان يشاهدان الصور صاح بها ابنها قائلا وهو يشير إلى إحدى الصور: «انظري يا أماه! انظري هذه الصورة! ما أشد مشابهتها للسنيور كيابيني!» فنظرت اللادي إلى الصورة، فإذا هي تشبه من كانت تظنه أباها في كل لمحة من ملامحه، وسألت عنها أحد الحجاب، فقال إنها صورة سمو الدوق دي أورليان. وحينئذ وضحت لها الحقيقة وضوحا لم يبق معه أقل أثر للشك والارتياب، وتحققت أن أباها إنما هو الدوق أورليان المتوفى (المعروف سابقا باسم الكونت جوانفيل)، فهي والحالة هذه أميرة من الأسرة المالكة، والدوق أورليان الحالي والمزمع أن يصير ملك فرنسا إنما هو ابن الشرطي كيابيني المتخذ بدلا منها.
وهذه الحقيقة الناصعة أحدثت في أفكارها انقلابا رائعا، وولدت فيها ثورة عنيفة. فقد كانت حتى الآن واثقة بأنها من أصل شريف، ولكن لم يدر قط في خلدها أن شرف أصلها يسمو بها إلى هذه الدرجة، فتكون وليدة البيت الملكي وأشرف سيدة في فرنسا. وعلى الفور قفلت راجعة إلى إيطاليا لتواصل التحري والبحث عما يزيدها تمكنا من الأخذ بناصية هذه الحقيقة، ولم تعتم أن ظفرت بضالتها المنشودة.
ففي بريسيغلا لقيت بعض الطاعنين في السن الذين تذكروا صدور أمر نائب الكردينال في رافنا بالقبض على كونت فرنسوي تطابق أوصافه ملامح البادية على صور الدوق دي أورليان. ومما قاله لها أحد المحامين في رافنا أنه لما جيء بالكونت المعتقل إلى الكردينال وخلا به وعلم من هو، أطلقه لساعته. وشهد لها رجل آخر بأنها ابنة هذا الكونت؛ أي الدوق دي أورليان المتوفى.
ثم ذهبت إلى فلورنس وطلبت إلى محكمة مطرانها أن تحقق هذه المسألة، وتنقح شهادة ميلادها المدرجة في سجل كنيسة مودغليانا. وبعد البحث المدقق أصدرت اللجنة التي تألفت للنظر في هذا الأمر القرار الآتي: «اتضح بعد البحث المدقق أن الكونت لويس دي جوانفيل استبدل بابنته ابن لورانزو كيابيني، وأن الآنسة جوانفيل عمدت باسم ماري، وقيل عنها زورا أو كذبا إنها ابنة هذا الرجل.»
وكان هذا القرار الأسقفي الشاهد بأنها ابنة الكونت جوانفيل من أفعل الوسائل لتأييد صحة نسبها. ولكن بقي عليها أن تبرهن أن الكونت لم يكن إلا الدوق دي أورليان الذي هي بكره.
والمساعي التي بذلتها في هذا السبيل آلت لسوء الحظ إلى تكدير صفوها وتنغيص عيشها في بقية حياتها. وكان خيرا لها وأبقى ألف مرة أن تعيش وتموت كابنة كيابيني التوسكاني ولا تعنى بإثبات صحة نسبها، وتلاقي ما لاقت في سبيله من العناء والعذاب.
ولم يخف على كثيرين من أهل المكر والاحتيال أن اللادي نيوبورو في حاجة شديدة إلى رجال يضافرونها على إثبات حقها ورفع دعواها إلى الملك لويس الثامن عشر. فتسابقوا إليها من كل حدب وصوب يعرضون عليها مساعدتهم لها وسعيهم في تحقيق مقصدها. وقد نجحوا كلهم في اقتناصها بحبائل خداعهم وابتزاز ما لها من غير أن تنتفع بأقل معونة أو تظفر بأصغر فائدة. فكان كل واحد منهم يقبض المبلغ الذي يطلبه أجرة سعيه، ويعللها بالأماني الكاذبة والمواعيد الباطلة، وهي لسلامة نيتها تصدقه وتتكل عليه، ثم يذهب فلا يعود إليها، ولا تتمكن من معرفة شيء عنه على الإطلاق.
Unknown page