كان المكاري يتفوه بهذه الكلمات والحرارة كالحمى تورد وجنتيه، وتعقد العرق على جبينه، فيبدو وجهه حينا كوجه المصروع، وحينا كمن يسيطر عليه الوحي الأعلى؛ هو وميض برق إلهي ينير القصد الذي قصده أبو طنوس ساعة صعد إلى العربة، وهي ذي الساعة التي يرتفع فيها مثل هذا الرجل إلى أقصى درجة من الكمال البشري، هي الساعة التي يستحيل الإنسان فيها إلها، هي ساعة الأنبياء عندما جاءوا بالمعجزات، هي ساعة المسيح في أبي طنوس. أجل، منذ صلب الناصري إلى هذه الساعة لم يدر إنسان خده الأيسر بنية أسلم من نية أبي طنوس، وبقصد أشرف من قصده.
وماذا فعل الكاهن؟ لا حاجة أن نقول إن سلوك أبي طنوس أدهشه، أذهله، بل رماه في بحر من الهواجس والتحير. وما هي الطريقة التي يتخذها؟ ما هو الجواب الذي يؤديه؟ ما هي الحيلة في الخلاص من هذه الورطة العظيمة؟
أطل القمر بدرا من وراء الجبال، فتلألأت أشعته بين الأشجار، وبسطت الصخور ظلالها في فيض من نوره الفضي، وأنارت الطريق، طريق المسافرين المتخاصمين. جاء القمر، بما فيه من بهاء وجمال، يوفق بين الأخوين، ويضيء بنوره الهادئ طريق السلام والمحبة؛ فهل أفلح عمله؟ ليجاوب الكاهن. ليجاوب أبو طنوس. ليجاوب الحوذي.
ولو تلفت الحوذي في هذه الساعة، وشاهد وجه الكاهن، لكان ينزله في أول بيت يصل إليه، ويسأل أهل البيت الاعتناء به. إن وجهه لوجه منكسر، مغلوب، بل وجه مريض يغالبه الموت، وجه من أغمي عليه.
أما أبو طنوس فلبث ساكتا ساكنا إلى أن أفاق الكاهن من سباته، وأمر الحوذي بأن يقف.
وقفت الخيل، فنزل الكاهن من العربة دون أن ينظر إلى أبي طنوس، ودون أن يفوه بكلمة واحدة. وبعد ذلك صفر سوط الحوذي، وصوت على ظهر الخيل، فجرت دواليب العربة مسرعة، وتنهد أبو طنوس تنهدات يعسر تفسيرها إذا استعنا بالكاهن.
أطل القمر من وراء الجبال، فأنارت أشعته الطريق، طريق المتخاصمين.
لنتأثره. ها هو ذا في الطريق، يتوكأ على عصاه، مطأطئ الرأس، هو يمشي وفي صدره تتزاحم الهواجس، فتشعل رجليه، وفي صدره تلتهب نار ثورة روحية. وكأنه، وهو يمشي في أحلامه، أحس بيد تقرص أذنه، فصاح مذعورا صيحة المتألم، وشرع ينادي أبا طنوس - يا أبا طنوس! يا عربجي! يا عربجي! وقف! ولكن العربة كانت قد توارت بين أشجار التوت، ووراء البيوت. نحن الآن في قرية ... أما الكاهن فظل يعدو وهو ينادي أبا طنوس حتى خارت قواه، فوقع في الطريق كالمصروع.
هل رآه أحد غير القمر؟ نعم، إن أكثر البيوت في الجبل تشرف على طريق العربات. تمر الطريق تحت شرفاتهم، فيراقبون العربات في ذهابها وإيابها. فلما دخلت عربة أبي طنوس القرية ... خرجت امرأة إلى شرفة بيتها، فسمعت الصوت الذي عرفه القارئ، فحولت نظرها إلى الناحية التي صدر عنها، فرأت شبحا أسود يرسف رسفا إلى القرية. وما هي إلا برهة حتى وقع الشيخ في الطريق، فهرولت إليه وبيدها إبريق الماء.
ولشد ما كانت دهشتها عندما رأت وجه الصريع، فرفعته عن الأرض وهي تنادي الكاهن باسمه.
Unknown page