الثاني: أنّ الناس يومئذ كان فيهم بقيَّة، وعندهم معرفة.
ثم جمع أبو الحسن النَّضْر بن شُمَيْل المازنى بعد كتابًا في "غريب الحديث" أكبرَ من كتاب أبي عبيدة وشرح فيه وبَسَط على صغر حجمه ولطفه.
ثم جمع عبد الملك بن قُرَيْب الأصمعي - وكان في عصر أبي عبيدة وتأخّر عنه - كتابا أحسن فيه الصنع وأجاد، ونيَّف على كتابه وزاد. وكذلك محمد بن المستنير المعروف بقطرب، وغيره من أئمة اللغة والفقه، جمعوا أحاديث تكلّموا على لغتها ومعناها في أوراق ذات عدد، ولم يكد أحدهم ينفرد عن غيره بكثير حديث لم يذكره الآخر.
واستمرت الحال إلى زمن أبي عبيد القاسم بن سلام وذلك بعد المائتين، فجمع كتابَه المشهور في "غريب الحديث والآثار" الذي صار، وإن كان أخيرًا، أَوّلًا؛ لِمَا حواه من الأحاديث والآثار الكبيرة، والمعاني اللطيفة، والفوائد الجمّة، فصار هو القدوة في هذا الشأن، فإنه أفنى فيه عمره، وأطاب به ذكره، حتى لقد قال فيما يُروى عنه: "إني جمعت كتابي هذا في أربعين سنة، وكان خلاصة عمري". تَتَبَّع أحاديث رسول الله ﷺ على كثرتها، وآثار الصحابة والتابعين حتى جمع منها ما احتاج إلى بيانه بطرق أسانيدها، وظنّ ﵀ أنه قد أتى على معظم غريب الحديث وأكثر الآثار، وبقى كتابه في أيدي الناس يرجعون إليه، ويعتمدون في غريب الحديث عليه إلى عصر أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري وصنف كتابه المشهور "في غريب الحديث والآثار" حذَا فيه حذوَ أبي عبيد، ولم يودعه شيئا من الأحاديث المودعة في كتاب أبي عبيد إلاّ ما دعت إليه حاجته من زيادة شرح وبيانٍ، أو استدراك، أو اعتراض، وجاء كتابه مثل كتاب أبي عبيد أو أكبر منه.
وقد كان في زمانه الإمام إبراهيم بن إسحاق الحربي (ت: ٢٨٥ هـ)
مقدمة / 11