فصمت القوم جميعا، وقد شعروا أنه إنما يحدث عن نفسه، ويرسل في حديثه بعض الزفرات التي تعتلج في صدره.
وإنهم لكذلك إذ نهض من مكانه بغتة ومشى بقدم هادئة مطمئنة حتى وصل إلى كرسي «البيانو» فجلس عليه، ثم التفت إلى القوم وقال لهم: هل تأذنون لي أيها الأصدقاء وقد قصصت عليكم تاريخ حياة «بيتهوفن» أن أسمعكم لحنه الأخير الذي وقعه في آخر ساعات حياته؟ فتهللت وجوههم فرحا، وقد ظنوا أنه إنما يريد أن يسري عن نفوسهم تلك الكآبة التي غشيتها منذ الساعة، فقالوا جميعا: نعم!
فبدأ يوقع ذلك اللحن «رب لم أشقيتني وما أشقيت أحدا من عبادك» ويغنيه بصوت ضعيف خافت، ثم أخذت عواطفه تشتعل شيئا فشيئا، فعلا صوته، وأنشأت نغماته تنتشر في أجواز الفضاء، فسمع القوم تلك الموسيقى السماوية العالية التي لم يخلق الله لها مثيلا، والتي هي غاية ما أنتجه العقل البشري، فأطرقوا برءوسهم إجلالا لهذه العظمة المشرقة عليها من سمائها، وخيل إليهم أنهم لا يرون بينهم مغنيا يوقع على أوتاره، بل ثاكلا متفجعا يذرف مدامعه، ويصعد زفراته، حتى الموسيقي «موزات» همس في أذن أحد الجالسين بجانبه قائلا: «إن الرجل لا يغني بل يموت، وإني أشم من أنفاسه رائحة الكبد المحترقة.» وكان كلما استمر في غنائه اشتد تأثره، والتهبت عواطفه، وتلون صوته بلون الأنين المحزن، حتى فني عن نفسه وعما حوله، واستولت عليه حالة غريبة من الذهول والاستغراق.
وما أتى على النغمة الأخيرة - وكانت أعلى النغمات وأطولها وأذهبها في أجواز الفضاء - حتى نهض القوم جميعا على أقدامهم وأخذوا يصفقون تصفيقا شديدا ويهتفون «ليحيا استيفن.»
وإنهم ليصفقون هذا التصفيق الشديد ويدعون له بالحياة الطويلة، ويتدافعون إلى مكانه لتهنئته وتمجيده، إذا بهم ينظرون إليه فيرونه مائلا برأسه على ظهر كرسيه، وقد اقشعر وجهه، وتغيرت سحنته، وأمسك بكفه على أحشائه، فطارت ألبابهم، وطاشت عقولهم، ومرت بخواطرهم جميعا مرور البرق تلك الصورة التي مات عليها «بيتهوفن» في قصته التي قصها عليهم منذ الساعة، فتشاءموا وانقبضت نفوسهم، وأحاط به جماعة منهم فاحتملوه إلى سريره، وحضر الطبيب ففحصه ثم نظر إليه نظرة اليأس، فأطرقوا واجمين مكتئبين واحتاطوا بسريره ينتظرون قضاء الله فيه، ففتح عينيه بعد ساعة ودار بها حوله ونطق باسم «فرتز» - وكان حاضرا - فلباه، فنظر إليه طويلا ثم نطق باسم «ماجدولين الصغيرة»، فما لبث أن جاءه بها، فضمها إلى صدره وقبلها قبلة امتزجت فيها عاطفة الرحمة بعاطفة الذكرى، وظل ينظر بعينيه إلى السماء مرة وإلى «فرتز» أخرى، كأنما يوصيه بالطفلة ويستشهد الله على ذلك، ثم التفت إلى القوم وقال بصوت ضعيف متهافت: «أشهدكم أيها الأصدقاء أن جميع ما تملك يدي قسمة بين هذين.» وأشار إلى «فرتز» و«الطفلة»، ثم عاد إلى ذهوله واستغراقه، وأخذ يجود بنفسه، وظل على ذلك ساعة ثم فتح عينيه مرة أخرى فرأى القوم يبكون من حوله ويتفجعون له، فمرت بشفتيه ابتسامة خفيفة، كأنما اغتبط بمنظر تلك العظمة التي تجلت له في دموع هؤلاء العظماء، وأخذ يقلب عينيه فيهم، فتقدم نحوه الموسيقي «فردريك» - وكان أعظم القوم شأنا وأكبرهم سنا - وقال له: هل توصي بشيء يا مولاي؟ فحاول النطق فلم يستطعه، فظل يعالجه حينا حتى استقاد له، فأنشأ يقول: أوصيك يا «فردريك» أن تجمع ألحاني جميعها في كتاب واحد، وأوصيك يا «فرتز» أن تدفنني مع ماجدولين في قبرها، وأن تتولى شأن هذه الطفلة الصغيرة وتحميها مما تحمي منه أهلك وولدك، حتى إذا يفعت زوجتها من الزوج الذي تختاره لنفسها، وأوصيكم جميعا ألا تحزنوا على موتي، فإنني وإن قضيت حياتي شقيا فها أنتم أولاء ترون الآن أنني أموت بينكم سعيدا، وكان هذا آخر ما نطق به، ثم أسلم روحه.
وكذلك انتهت حياة هذا الرجل العظيم الذي قتل الحب جسمه، ولكنه أحيا نفسه وسجلها في سجل النفوس الخالدات. (99) النهاية
أما أسرة «فرتز» فقد سعد حالها، وأصبحت في نعمة واسعة من العيش، لا ينغصها عليها إلا ذكرى ذلك المحسن الكريم، وأما ماجدولين الصغيرة فقد تولى «فرتز» شأنها ورباها مع ولده «برنار» - الذي رضعت معه في صغره - تربية قروية ساذجة بعيدة عن مفاسد المدينة وآفاتها، حتى شبا فتحابا حبا شريفا طاهرا، فانتهى بهما الأمر إلى الزواج، فعاشا أسعد عيشة وأهنأها، وأما المنزل فقد اشترته جمعية الموسيقى الملوكية في برلين وحفظته تذكارا لاستيفن، ولا يزال حتى اليوم مزارا يزوره الناس ويشاهدون فيه آثار ذلك التاريخ الذي دونه الشاعر «سيدروف» ويرون حديقته، وأزهار البنفسج المنتشرة في أنحائها، والحوض المقام في وسطها، والسياج الدائر من حوله، والمقعد الذي جلس عليه «استيفن» وماجدولين ليلة عاتبها وغاضبها، والغرفة الزرقاء التي كانت غرفة عرس ماجدولين أولا، ولحدها أخيرا، ومكتبة استيفن، وقيثارته، والبيانو الذي وقع عليه في ساعته الأخيرة «لحن الموت.»
فإذا فرغوا من زيارة المنزل ذهبوا إلى المقبرة فزاروا ذلك القبر الذي دفن فيه هذان الشقيان البائسان، فيبلل تربته بالدمع منهم من نكب في حياته بمثل نكبتها، أو عاش فيها شقيا كعيشهما .
Unknown page