الجماعات التي تتكلم هذه اللغات ودرس هجرتها ومواطنها وما قام بينها من صلات اجتماعية واقتصادية، فدرس العربية العامية المحكية في أواسط إفريقيا مثلًا يظهر، إذا جرى فيه التتبع والاستقراء جريًا أصوليًا، كثيرًا من شؤون المتكلمين بهذه اللغة وشؤون مواطنهم والبلاد التي جاءوا منها، وكذلك فإن في درس ما تركته اللغة التركية من آثار كثيرة في اللغة العربية العامية في سوريا ما يظهر شيئًا كثيرًا من التأثير الذي خلفه الأتراك في الحياة السورية وهو تأثير عظمت قيمته المادية والإدارية وصغرت الوجهة الفكرية فيه.
ثالثًا: فائدتها في تاريخ الآداب: إن دراسة اللغة العامية تساعد على جمع وتحليل مؤلفات الأدب العامي ونعني بالمؤلفات هنا الحكايات والأغاني والنكات والأمثال العامية التي لا يمكن العثور عليها ف طيات الكتب ولكن روايتها وتداولها بين الناس يجعلها قريبة من الثبات في شكلها مما يمكن أن نسميها معه مؤلفات أدبية، على أن أدب الخاصة يعتمد على أدب العامة، شعر أو لم يشعر، فأسمى مؤلفات الأدب الغربي وأشهرها كالأوديسه ومكبث وفاوست مدينة بأصولها إلى الخرافات العامية. والأدب العربي مستمد من حياة الأعراب اليومية قبل الإسلام ومن المعلوم أيضًا بأن أسمى أنواع الأدب العربي وأرفعها هو نوع المقامات الذي يرجع بأصوله لحكايات كانت تقصها طائفة من الوعاظ ضربوا في مجاهل الأرض على عدد من أفراد الشعب يلتفون حولهم في زاوية من زوايا الطرقات. فكيف يمكن بعد ذلك أن يدرس بصورة قيّمة أدب علمي له ما له من صلات كثيرة بالأدب العامي إذا أهمل تمامًا درس هذا الأدب العامي؟ وكثيرًا ما يكون في الأدب العامي ذي الطابع المحلي الخاص من العبقريات ما ربما لا يظهر في الأدب العلمي الذي قل أن تبرز الطبيعة الخاصة المحلية فيه، ففي فصول قره كوز مثلًا يظهر الفرق جليًاّ بين المزاج التركي والمزاج العربي فلقد نقل السوريون هذه الفصول عن الترك وبنقلها حلت مظاهر الطبيعة السورية محل مظاهر الطبية التركية، ففي الأغاني والأناشيد التي تتخلل هذه الفصول مثلًا قامت العاطفة العربية الحزينة الوالهة مقام العاطفة التركية الهفافة.
هذه هي بعض الخدم التي يمكن أن يؤديها إلى العلم درس اللغة العامية: وهي فوائد لا تدعو لأهتمام المستشرقين فقط بل تجدر باهتمام أهل الشرق أنفسهم أيضًا ونحن على ثقة بأن هذا الأهتمام سوف يعظم مع الأيام حتى يبلغ ما هو جدير به.
1 / 51