Maidat Aflatun
مائدة أفلاطون: كلام في الحب
Genres
إن لنا رأيا متعلقا بالعشاق، مؤداه أنه لا يكون من الذل أو المخجل أن يقوم العاشق بأنواع الخدمة، وأن يذل لأجل المعشوق، ورأينا في ذلك كرأي من يقاسي الألم والهوان لأجل الفضيلة، كذلك نحن لا نعتبر ذلا أو هوانا خضوع الرجل ليتعلم العلم، أو ليتصف بالفضائل، كذلك نحن نعتبر مذلة العاشق مفخرة؛ لأن غايتها كغاية الذل في سبيل الفضيلة إذا كان العشق يعتبر شيئا جميلا؛ لأنه عندما يبلغ العاشق والمعشوق نقطة واحدة تتميز حال كل واحد منهما؛ فالأول يقدر أن ينمي عقل صاحبه ويساعده على كسب الفضائل، والثاني لا يزال طالبا للعلم والنور، فباجتماع هذه الشروط دون سواها ينبغي للمعشوق أن يعطي حبه للعاشق؛ ففي هذه المذلة لا يوجد عار حتى إذا خدعنا وهزمنا في الحصول على غايتنا، مع أن كل هزيمة في غير ذلك تعد عارا، سواء كنا مخدوعين أو غير مخدوعين.
وعلى هذه القاعدة إذا تطلب أحدنا صداقة آخر اعتقادا منه أنه فاضل؛ رغبة منه أن يصير بقربه كذلك فاضلا مثله، ثم يكشف له أنه كان مخدوعا ؛ لأن صاحبه لا قدر له، ومجرد عن الفضيلة فإن مثل هذه الخديعة يعد من الشرف؛ لأن هذا الطالب قد وضع نفسه موضع الذل؛ فهو يتحمل أي ألم ليكون فاضلا وحكيما، وهذه حال من حالات النفس الجميلة السامية.
هذا هو الحب الذي يعبد إله أرانيا وهو أوراني النوع، وهو أصل أنواع الخيرات للحكومة وللأفراد، وبتأثيره يصير العشاق فضلاء، وعدا هذا من أنواع الحب الأخرى فهي من عباد فينوس بانديموس، هذا هو ما أردت أن أقوله عن الحب دون استعداد يا فدريوس، ثم سكت بوسانياس.
أريسطوديمس (لرفيقه): ثم جاء دور أريستوفانوس، ولكن يظهر أنه كان مصابا بسعال يعوقه عن الكلام، فالتفت إلى أريكسماكوس الطبيب الذي كان مضطجعا بجانبه، وقال له: يا أريكسماكوس، من العدل أن تعالج سعالي، أو تتكلم مكاني إلى أن يزول. فقال أريكسماكوس: سأفعل الأمرين جميعا؛ فأتكلم في دورك حتى إذا خف سعالك وجاء دوري أتكلم، وطريق العلاج هي أن تكتم التنفس قليلا، فإذا لم يزل فتمضمض بقليل ماء، فإذا لم يزل فخذ منبها للخياشيم فتعطس، وافعل هذا مرة أو مرتين فيزول السعال مهما كان قويا. فقال أريسطوفانوس: سأتبع نصيحتك أثناء كلامك، ثم بدأ.
أريكسماكوس:
حيث إن بوسانياس بدأ خطابه ببراعة، ولكنه لم يفه حقه، ولم يحسن ختامه، فسأكمله وأملأ الفراغ الذي تركه. لقد أحسن في تعريف الحب بقوله إنه ذو طبيعتين؛ فقد علمني علم الطب الذي انقطعت له أن الحب الذي يدفعنا نحو ذوي الجمال ليس موجودا في نفوس الناس فقط، بل في سائر المخلوقات؛ فما أقوى وأعجب هذا الإله السائد على الأرباب والبشر! ولتشريف حرفتي سأبدأ بسرد أدلة من الطب؛ إن طبيعة البدن تحتوي على هذين النوعين من الحب؛ لأن السليم والمريض من أعضاء البدن لا يستويان، وحب البدن السليم غير حب السقيم، ومن الشرف تمجيد الأجزاء الطيبة السليمة في الجسم، وفي هذا مهارة الطبيب؛ وعلم الطب قائم على معرفة أماكن علاقات الحب في الجسم الإنساني، والحكيم الحاذق هو الذي يستطيع وضع الحب حيث لا يوجد، وطرده من حيث يوجد دون حاجة إليه، وعليه كذلك أن يبدل تنافر العناصر في البدن بشوق؛ فإن أشد العناصر معاداة لبعضه البعض هو ما كان مختلفا على خط مستقيم مقل الحرارة والبرد والمرارة والحلاوة واليبوسة والرطوبة. وقد روى لنا الشعراء أن إيسكاليبوس والد الأطباء الأعلى قد كون علم الطب بعد أن عرف سر التوفيق بين العناصر المختلفة.
إن الرياضة البدنية والزراعة والطب كلها سائرة تحت نفوذ الحب وبفضله، وكذلك الموسيقى، وهذا الذي أراده هيراقليطس بقوله: «واحد مخالف لذاته في الظاهر إلا أنه متفق مع ذاته كانسجام العود والوتر.» إنه من الخطأ المحض القول بأن الانسجام يختلف أو أنه يوجد بين أجسام مختلفة، ولكن ربما أراد هيراقليطس أن الأصوات التي كانت تختلف في أول الأمر مثل الحاد والثقيل، ثم اتفقت بعد ذلك فنتج الانسجام طبقا لفن الموسيقى؛ لأنه لا يمكن صدور الانسجام عن الحاد والثقيل إذا اختلفا؛ والانسجام هو التوافق، والتوافق هو الالتئام والاتحاد، والاتحاد لا يمكن أن يوجد بين الأمور المختلفة ما دامت مختلفة، فلا يوجد إذا انسجام بين الأشياء غير الملتئمة. إن الأوزان في التوقيع تنتج عن السريع والبطيء فإنهما يفترقان أولا، ثم يعارضان بعضهما، ثم يتم الاتحاد بينهما، وهكذا علم الطب والموسيقى، فإنهما يوجدان وفاقا بين الأشياء فينتج عنهما الحب والاتحاد بين الأشياء المتخالفة.
فغاية الموسيقى إذا معرفة ما يتعلق بالحب في الانسجام والنظام، وفي نظام الانسجام والوزن يسهل تمييز الحب، والحب المزدوج لا يمكن تمييزه في الموسيقى، ولكن ينبغي استعماله في خدمة البشر بواسطة النظام والانسجام، وهذا ما يسمى بالشعر وتأليف الأنغام، أو باستعمال الأغاني والأوزان والأصوات الموجودة استعمالا صحيحا، وهذا ما يسمى بالترتيب؛ فيمكن تمييز كل واحد من هذه بفضل حذق المتفنن. والحب الفاضل ينبغي تكريمه وحفظه مراعاة لجانب أهل الفضيلة، ولأجل أن تتحسن طبيعة الأشرار بروحه. هذا هو الحب الأراني الجميل العابد لوحي أران؛ أما الحب البنديمي فهو عابد بوليهمينا الذي يجوز أن نخضع له للحصول على اللذة دون الانغماس فيه، كما يجوز بناء على حرفة الطب أن نتمتع بملاذ المائدة دون أن نعرض أنفسنا للعلل؛ ففي الموسيقى والطب وفي غيرهما من شئون البشر والأرباب ينبغي تمييز هذين النوعين من الحب؛ فإن فصول السنة كذلك مؤلفة طبقا لهذه القاعدة؛ لأنه كلما امتزجت الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة بالحب الطاهر، واختلطت بانسجام بالفصول، فإنها تجلب النضج والصحة للبشر، ولسائر أنواع الحيوان والنبات، فإذا ساد الحب الخبيث على فصول السنة ساد الخراب، وعم التلف فينتشر الوباء، وتصاب الكائنات بأنواع الأمراض والسقام، ويتلف القمح، وتسقط الندوة، وتهلك الثمار، وهذا ناشئ عن الحب المضطرب الذي يجذب فصول السنة بعضها نحو بعض، وحركات هذه الفصول، وعلم الكواكب اسمها علم الهيئة. إن كل التضحيات والأشياء التي يوجد فيها التخمين (لأن هذه الأشياء هي الرابطة بين الله والناس) ليست إلا علم الاحتفاظ بالحب وتنظيمه؛ لأن الكفر يظهر إذا لم يعبد الناس الحب الطاهر، ولم يخدموه بالأعمال الصالحة؛ فغاية التخمين هي التمييز بين هذين النوعين من الحب وإصلاح آثار كل منهما؛ فالتخمين هو سبب الصداقة بين الأرباب والناس، وهكذا كل نوع من الحب يملك قوة عظيمة واسعة لا حد لها، ولكن الحب الذي يحث على اكتساب غايته بالفضيلة والحكمة يملك الملك الأوسع، ويعد لعابديه أعظم السعادات من طريق الشفقة المتبادلة بينهم، ومن طريق الخمر الذي تستمطره عليهم من الأرباب.
يجوز أنني نسيت أشياء كثيرة في ثنائي على الحب، ولكن هذا شأنك يا أريسطوفانوس، وعليك أن تملأ الفراغ الذي تركته، أو تقول قولا آخر لتكريم الرب؛ لأن سعالك قد زال.
أريسطوفانوس (بعد ممازحة وجيزة): أردت أن يكون مقالي مخالفا لما قال بوسيانوس وأريكسماكوس، يظهر لي أن البشر لم يفقهوا إلى الآن معنى قوة الحب؛ فلو فقهوا لملئوا الأرض معابد وهياكل يقدسون ذكره فيها، ويقدمون له الضحايا، ويقيمون له أجل وأفخم الرسوم والشعائر؛ لأن الحب هو أحق الأرباب بالعبادة ولما يعبد، وهو أصدق الأرباب للبشر، وهو آسي الجراح التي يكون علاجها أعظم سعادة لبني الإنسان. وسأحاول أن أشرح لكم قوة الحب الحقيقية، ويمكنكم أن تنقلوا هذا القول عني لغيركم.
Unknown page