مقدمة
الشخصيات
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
مقدمة
الشخصيات
الفصل الأول
الفصل الثاني
Unknown page
الفصل الثالث
الفصل الرابع
المهزلة الأرضية
المهزلة الأرضية
تأليف
يوسف إدريس
مقدمة
في مثل هذه الأيام أو قبلها بقليل منذ عامين، كتبت في مجلة «الكاتب» ثلاث مقالات أعطيتها اسما «نحو مسرح مصري»، كان الهدف منها زلزلة العقيدة التي كانت لدى نفر من مثقفينا زمنا، والتي لا تزال قائمة إلى الآن، وهي أن المسرح ظاهرة أوروبية محضة، كل ما علينا حياله أن نتلقاه عن الإغريق والأوروبيين المعاصرين، ونحاول أن ننسج على منواله، وكل ما نستطيع أن نفعل من أجل تمصيره أن نتناول داخل هذا «الشكل» المسرحي الأوروبي والعالمي موضوعات مصرية، باعتبار أن الشكل المسرحي الأوروبي هو الشكل العلمي الذي تواضعت وانتهت إليه البشرية، ولا سبيل إلى تغييره أو تبديله.
ولست أدري لماذا؟ ولكني منذ أول وهلة سمعت فيها هذا الافتراض وأنا بكل كياني أعارضه. ليس هناك مانع قطعا أن يستولي هذا الفرض على عقول بعض كتابنا ونقادنا، ولكن المشكلة الرئيسية أني أشك شكا كثيرا في صحته. إن هذا الإيمان الذي يعتقد باختلاف العقلية والوجدان البشري؛ حتى ليقول إن هناك عقليات بشرية درامية وعقليات غير درامية، إيمان قد ينتهي بنا إلى تصديق النظريات النازية عن تميز بعض العقول عن غيرها وتمتعها بسمو أكبر وذكاء أكبر. إني أومن، والعلم معي يؤكد وحدة العقل البشري وعالمية إمكانياته. قد تختلف القدرات الفردية، ولكن هذه القدرات إذا تجمعت على هيئة شعب؛ فإنها تتساوى بحيث لا نستطيع أن نقول إن بعض الشعوب أذكى من بعضها الآخر، أو أن عقليات بعض الشعوب أكثر قابلية للتعقيد من الشعوب الأخرى.
من أجل هذا لا أستطيع أن أصدق أن المسرح هبط على الشعب الإغريقي من قمة الأوليمب دون غيره من الشعوب، باعتبار أن السماء قد اختصته بهذه الميزة. إن المسرح خاصية من خصائص كل شعب، فكما أن لكل شعب لغته ولكل شعب رقصه ورسمه وموسيقاه وغناءه، فكل شعب لديه ميل غريزي إلى المحاكاة (أي التمثيل )، وكل شعب لديه تجمعاته الخاصة التي تتم فيها هذه المحاكاة، وتوجده في حالة «التمسرح» التي طالما أشرت إليها.
Unknown page
كل ما في الأمر أن العبادة الإغريقية اتخذت طقوسها من أفعال الجماعات البشرية، وبالذات من فن المحاكاة وحالات التمسرح، بمعنى آخر أباحت العبادة، بل وشجعت كافة فنون الإنسان المعروفة آنذاك، وأبرزها النحت والشعر وتلك الظواهر المسرحية التي كانت بدائية، ثم بالتطوير على أيدي شعراء عظام متخصصين اتخذت شكل الرواية المسرحية، وشكل حركة مسرحية نامية متطورة متجددة وصلت إلى الحد الذي وضعت فيه للمسرح تعريفات وقوانين على أيدي أرسطو وغيره، وتميز من بينها نوعان أساسيان: التراجيديا والكوميديا.
وقد ظل هذا يحدث إلى أن جاءت الديانة المسيحية، فأوقفت نمو هذه الأنواع من الفنون، بل حرمتها باعتبارها أشكالا من العبادة الوثنية، وكما حرمت الكنيسة رسم الجسم البشري عاريا فكذلك اختنق المسرح، إذ كيف في عالم مسيحي يصور الإنسان باعتباره ضحية للعنة الآلهة، أو وقد حدد مصيره ومنتهاه بأحكامها؟ ولم ينتعش المسرح إلا مع بدايات عصور النهضة حين خفت قبضة الكنيسة على الشعوب وعاداتها، وهكذا عاد المسرح من حيث انتهى عند الإغريق، وإن كان بمفهومات أخرى؛ ليكون المسرح الأوروبي الذي ظل يتطور إلى يومنا هذا.
في ذلك الوقت يقول القائلون: إن «الكوميديا ديللارتي» ظهرت في إيطاليا، والحقيقة أنها لم تنشأ وتظهر. الحقيقة أنها كانت طوال تلك العصور المسيحية قائمة وموجودة، ويزاولها الشعب في تجمعاته الصغيرة على أضيق حدود، يزاولها خلسة فهي إحدى ظواهر التمسرح الغريزية لدى كل شعب من الشعوب. كل ما في الأمر أنها أصبحت، مع بداية عصر النهضة، تؤدى في الأسواق العامة والتجمعات الكبيرة، وإن كان يقال إنها أيضا كانت تؤدى بشبه خلسة؛ إذ كان الممثلون يضعون الأقنعة على وجوههم حتى لا يتعرف عليهم أحد.
هذه التي يسمونها الكوميديا ديللارتي هي بنصها وفصها السامر الشعبي المصري. ذلك الشكل البدائي من حالات التمسرح الذي كان قائما وموجودا منذ عصور ضاربة في القدم، والذي لا يزال موجودا إلى يومنا هذا. كل ما في الأمر أن السامر لم يعن بدراسته أحد، ولم يجد له «خواجا» يعطيه اسما لاتينيا عويصا ويثبته في كتاب. أليس يضحك ما يذكره بعض من كبار الدارسين لشئون المسرح، من أن سامرنا الشعبي هذا ليس نابعا منا وإنما نحن قد اقتبسناه من إيطاليا من الكوميديا ديللارتي؟ أقول يضحك؛ لأنهم يفسرون هذا الانتقال الغريب بقولهم: إنه ربما حدث من خلال بعض الفنانين الفرنسيين الذين صاحبوا الحملة الفرنسية على مصر، الذين قلدهم بعد هذا الفنانون المصريون، وانتشر هذا الفن بعد ذلك في قرى مصر وأنحائها. إذا كان من الممكن أن تنقل الحملة الفرنسية مسرحا، فلماذا لم تنقل المسرح التقليدي؟ لماذا لم تنقل موليير وغيره، وتعمد إلى نقل هذه الكوميديا ديللارتي التي لا نصوص مكتوبة لها؛ إذ هي تعتمد على ارتجال الممثل لدوره؟ وكيف يمكن أن يحدث هذا كله في غيبة الجبرتي؛ ذلك الذي لم يفته ما جلبه الفرنسيون إلينا شيء؟ أليس الأسهل والأعقل والأكثر علمية أن نقول إن فن المحاكاة المرتجل (الكوميديا ديللارتي) ظاهرة مسرحية شعبية بدائية موجودة لدى كل شعب من الشعوب؟ كانت موجودة لدى الإغريق وظلوا يطورونها إلى أن أوصلوها للكوميديا والتراجيديا، وكانت موجودة لدى الإيطاليين ولم يكشف عنها الغطاء إلا بزوال تحريم المحاكاة، وكانت ولا تزال موجودة لدينا في مصر. كل ما في الأمر أن أحدا لم يهتم بالبحث عنها ورصدها وإعطائها اسما!
ولأني أومن بهذا؛ فإني أومن أيضا أن المسرح - مثله مثل الموسيقى وكل الفنون - لا يوجد شكل عالمي له، إنما لا بد أن يتخذ لدى كل شعب من الشعوب شكلا. كل ما في الأمر أن هذا الشكل «العالمي» - أو الذي نظنه عالميا - ليس إلا الشكل الأوروبي المتطور عن الشكل الإغريقي. ولا يمكن أن يصلح هذا الشكل لإيصالنا إلى حالات التمسرح التي نصل إليها في قمتها، لا بد لنا من البحث الشاق الدائب عن شكلنا المسرحي المستمد من بيئتنا وتاريخ وجداننا وظروفه. قال لي أحد كبار نقادنا مرة: إن هذا الشكل العالمي للمسرح هو التطور في تكنيكية المسرح، تطور علمي في الشكل لا علاقة له بمضمون العمل المسرحي. تطور في الشكل ممكن أن تضع له أنت ما شئت من مضمون ليصبح مصريا أو كينيا أو فيتناميا، بالضبط مثله مثل السيمفونية والأوبرا في الموسيقى.
ولكن المشكلة أني أرى أيضا أن السيمفونية والأوبرا ليست أشكالا عالمية، وإنما هي أشكال خاصة بالموسيقى الأوروبية، ولا يمكن أن تصلح للتعبير عن مضمون مصري. ففي الفن لا يوجد شكل ومضمون، إن الشكل مضمون فني والمضمون شكل فني، وإذا تطورت موسيقانا فإنها ستصل إلى أشكال أخرى غير السيمفونية والكونسيرت؛ إذ هذه الأشكال إنما خلقها المضمون الموسيقى الأوروبي، أشكال خلقها الوجدان الأوروبي؛ ليخاطب بها نفسه مثلما خلق اللغات الأوروبية لتتفاهم بها عقوله.
ألا ترون معي أن الموضوع جد خطير، وأننا بنقاشه إنما نضع «ألف باء» مفهومنا ليس فقط لمسرحنا، وإنما لفنوننا عامة؟
فالفنون تختلف اختلافا جذريا عن العلوم، باعتبار أن العلم عالمي في شكله ومضمونه، في حين أن الفن على الدوام محلي الموضوع والمضمون، ومن هنا تنشأ عالميته.
إني أومن إذن أن هناك ظواهر بدائية للمسرح موجودة في بلادنا أسميها ظواهر بدائية لحالات التمسرح، تلك التي ينسى فيها كل فرد قائم ذاته ويندمج في الذات الجمالية الأكبر، باعتبار أن الخاصية الأولى لأي فن هي جماعيته، مثل السامر وحفلات الذكر والاحتفالات بالموتى والأراجوز وخيال الظل، وحتى الجلوس على المقاهي، إنه حالة بليدة من حالات التمسرح. وإنه بالبدء من هنا، وبأخذ هذه الظواهر وتطويرها للوصول بها إلى المستوى الفني والموضوعي الذي وصل إليه المسرح الأوروبي، ممكن ليس فقط أن ننشئ مسرحا يقف إلى جوار المسرح الأوروبي، وإنما من الممكن أن نضيف ونسهم به في إثراء الظاهرة المسرحية في العالم كله.
يوسف إدريس
Unknown page
الشخصيات
حكيم:
طبيب مفتش الصحة (45-50 سنة).
أولاد المرحوم الطيب قارون: (أ) محمد الأول: (38 سنة). (ب) محمد الثاني: (30 سنة). (ج) محمد الثالث: (29 سنة).
صفر:
التومرجي والساعي (45 سنة).
شخصية واحدة تقوم بدور: (أ) نونو:
زوجة محمد الثالث المزعومة (30 سنة). (ب) نوال:
زوجة محمد الأول (30 سنة). (ج) الأم:
حرم الطيب قارون (55 سنة). (د ) زهرة:
Unknown page
طالبة جامعة وطليقة محمد الثالث (20 سنة).
حنيفة:
زوجة الدكتور حكيم (40 سنة).
محمد الطيب محمد قارون:
الأب (60 سنة).
محمد قارون:
الجد، على هيئة صبي (16 سنة).
كومبارس.
الفصل الأول
من المسلم به قطعا أن لأي مخرج الحق في تفهم نص هذه المسرحية بالطريقة التي يراها أفضل، ولكني أوثر شخصيا - ولجو المسرحية العام وللطريقة التي كتبت بها - أن تقدم على هيئة حلم لا واقعي، بحيث تتحرك الشخصيات حركة غير واقعية، وتتحدث بطريقة أيضا لا تمت إلى الواقع.
Unknown page
وأقترح أن تكون الموسيقى المستعملة في هذه المسرحية عبارة عن أصوات من الطبيعة، وتذاع في الوقت المناسب؛ موسيقى الافتتاح شريط مسجل للأصوات الكثيرة المتنافرة والمنسجمة المتصاعدة من فناء محطة مصر الداخلي. حين تفتح الستار الأولى نجد ستارة أخرى بيضاء مكتوبا عليها بالخط الكبير: «الدنيا مافيهاش فقر، إنما فيها قلة رأي»، والإمضاء: «فلاح مصري عجوز». ممكن أن يظهر إمضاؤه، أو تحتها صورة له كموتيف.
المنظر بعد ارتفاع الستارة الثانية، حجرة كبيرة في نسبها شذوذ، يتصدرها مكتب ضخم جدا قديم موجود بالناحية اليسرى، كرسيه عالي المسند مثل كراسي المقرئين في المآتم، الحجرة لها بابان أحدهما الرئيسي في الوسط، نصفه الأعلى من الزجاج المصنفر، مكتوب عليه كلمة مفتش الصحة بالمقلوب، والآخر إلى اليمين، اللوحة التقليدية لفحص النظر تحتل ركنا بارزا من الحجرة، حروفها مكرر كل حرف منها كظل ثلاث أو أربع مرات. الحائط الأيسر المجاور لمكتب المفتش تحتله كله لوحة ضخمة على نسق لوحات الدعاية الصحية، وفيها رجل يمسك بالجوزة يشربها ويحلم حلم المخدرات الذي لا نهاية له، والمجسد بطريقة تدل على بدائية الفنان الذي رسم الصورة، الحلم عبارة عن أن المدمن يتصور نفسه هارون الرشيد جالسا في ساعة لهو وحوله الجواري والراقصات والمغنيات، وبدلا من صواني الطعام والشراب هناك صينية عليها عدة الكيف، وجوزة تقوم بإمساكها جارية تسقي منها هارون الرشيد. أولاد الحشاش وزوجته عرايا مهلهلين متناثرين حوله، وزوجته على صدرها طفل رضيع تمد يدها إليه وكأنها تستحلفه، وهو يضرب يدها مشمئزا. هناك عسكري ضخم جدا هائل يمد يده، ويمسك الحشاش من ياقة جلبابه استعدادا لأخذه للسجن. في مكان واسع مناسب من الصورة جملة تقول: «احذروا المخدرات؛ فهي تخرب البيوت.»
بجوار المكتب هناك فتحة في الحائط فيها تليفون، بحيث يمكن استعماله للحجرتين معا. بقية أثاث الحجرة لا تتعدى كنبة إسطانبولي وكرسيين أسيوطي في حالة يرثى لها.
عند فتح الستار نجد جميع الأشخاص الموجودين بالمنظر ثابتين بلا حركة، وكأن المنظر صورة، وليس مشهدا حيا.
إلى المكتب يجلس المفتش وهو رجل صغير دقيق بالقياس إلى حجم المكتب، لا تستطيع أن تحدد له عمرا، من ملامحه تشع نظرة محبوبة ساحرة كتلك التي صنعت من جحا جحا، ومن أبي نواس أبا نواس.
على الناحية اليسرى منحنيا، مندفعا ناحية الدكتور وكأنما يهم بمحادثته، رجل طويل رفيع ذو قتب، يلبس بدلة السعادة وفوقها فوطة التمورجي.
أمام المكتب - وتكاد تملأ الحجرة - مجموعة من الأشخاص من مختلف الأعمار والمهن؛ بعضهم سيدات على درجات متفاوتة من الأناقة، وهم موجودون بشكل مستمر لا ينقطع إلا في المواقف الحادة، بحيث يخلو المسرح منهم، ويعودون إليه حين تنتهي حدة الموقف. وبالذات هناك أقرب ما يكون إلى المكتب؛ أفندي في الثانية والأربعين من عمره بادي الأناقة، وإن كنت تحس أن ملابسه الداخلية مثلا ليست في نظافة بدلته، صلعه خفيف وشاربه دوجلاس شديد السواد مصبوغ، هادئ، ناعم مقنع، بجواره أفندي آخر نامي الشعر مهوشه، لم يحلق منذ شهرين على الأقل، أو هكذا يدل منظر قفاه، رفيع الوجه مستطيله، حليق اللحية والشارب، على عينه اليمنى آثار كدمة سوداء، مكتف بقميص الكتاف، وحين يفك عنه يظل طول الوقت يعبث بحب شباب موهوم في وجهه، ويفتشه وكأنه يتخلص منه بعصبية.
سيدة رغم كل محاولاتها لإضفاء الاحترام والتقدير على نفسها وزينتها وتواليتها؛ إلا أنها لا تستطيع أن تخفي «المعلمة» الكامنة فيها، وكأنها عملت لفترة من حياتها صاحبة صالة أو ربما ناظرة مدرسة باليه أهلي، حواجبها وعيناها بالذات تنطق بهذا.
أفندي ثالث في الباكجراوند وإن كان سيظهر بعد وقت، هليهلي، مذعور في حالة «روشة» مستمرة، عسكري رفيع ذو كرش كالبطيخة، بندقيته رفيعة أيضا وطويلة ويستعملها كمسند لذراعه الذي يستعمله كمسند لرأسه، يقف أقرب ما يكون بجوار العسكري الذي في الصورة.
التومرجي (منحنيا ناحيته بلهجة لا دهشة فيها، ولا لهفة) :
Unknown page
سعادة البيه، سعادة البيه.
الدكتور (منهمكا في إمضاء كومة عالية من شهادات الميلاد) :
أيوه يا صفر؟
صفر :
مجنون يا سعادة البيه.
الدكتور (وهو لا يزال منكبا وبنفس الروتين) :
هاته خلينا نخلص.
صفر (معتدلا فقط ومبتعدا قليلا) :
أهو يا سعادة البيه.
الدكتور :
Unknown page
معاه عسكري؟
العسكري (منتفضا، وكأنما يفيق من حلم وليس تحية، منزلا يده، ضاما البندقية إليه) :
أيوه يا افندم.
الدكتور :
م القسم؟
العسكري :
م القسم يا افندم.
الدكتور (مستمرا أيضا في التوقيع دون أن يرفع بصره) :
فين الجواب؟ (العسكري يخرج الخطاب من حزامه العريض، صفر يتناوله ويضعه تحت عين الدكتور، الدكتور يضع الخطاب أمامه، وبجانب من عينيه يقرؤه بينما بالجانب الآخر لا يزال منهمكا في عملية التوقيع.)
الدكتور :
Unknown page
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام، طيب يا سيدي (يتوقف عن التوقيع، ويفتش بعينيه فوق المكتب، ويفتح الأدراج ويقلب في أوراقها)
فانهي داهية استمارات الأمراض العقلية؟ مزاجك إيه يا صفر إنك تخبيها؟ بتعمل بيها إيه بس؟ كل ما جيب شوية تلهفهم، هما ليهم سوق سودا رخرين؟
صفر (مقدما الاستمارات التي كانت أمام المفتش تماما) :
أهم يا سعادة البيه أهم.
الدكتور :
بقى دي يا مجنون استمارات الأمراض العقلية دي؟ دي بتاعة المراقبة يا جدع.
صفر :
أمراض عقلية يا سعادة البيه.
الدكتور :
دي؟ (ينظر فيها مليا)
Unknown page
أيوه يا واد صحيح باينها هي، إنما إنت برضه مزاجك إنك تخبيها (يضع الاستمارات أمامه، دون أن يرفع بصره أيضا)
الاسم (يقرأ من خطاب القسم)
التفضل بتوقيع الكشف الطبي على ... إيه ... محمد الثالث محمد الطيب محمد قارون، ده مظبوط الاسم ده؟
صفر (مرددا) :
ده مظبوط الاسم ده؟
محمد الأول (وهو الأفندي الوجيه الناعم ذو الصلعة والشارب) :
أيوه مظبوط يا افندم.
الدكتور :
محمد الثالث، محمد الطيب، محمد قارون، ده اسم ده؟ ده ولا حسبة برما؟ دا الواحد كده من غير صدمة ولا أزمة يجنن، إنما آه، دي حرية، آدي نتيجة إنك تخلي الناس حرة في تسمية نفسها، لازم يطلعوا للمسألة دي قانون، ما ينفعش كده، دي فوضى، عايزين حرية آل! وآدي نتيجة الحرية، اسم العيان لواحده إيه؟
صفر (مرددا كالمبلغ في صلاة الجمعة) :
Unknown page
اسم العيان لواحده إيه؟
محمد الأول :
محمد الثالث.
الدكتور :
واسم أبوه إيه؟
صفر :
واسم أبوه إيه؟
محمد الأول :
محمد الطيب.
الدكتور :
Unknown page
واسم جده إيه؟ اسكت انت يا جدع انت.
محمد الأول :
محمد قارون.
الدكتور :
نهايته، سكنه فين؟
صفر :
سكنه فين؟
الدكتور :
قلنا تسكت.
صفر :
Unknown page
حاضر يا سعادة البيه.
الدكتور :
سكنه فين؟
محمد الأول :
11 شارع طلعت حرب بالسيدة زينب.
الدكتور :
هو فيه طلعت حرب في السيدة؟
محمد الأول :
أيوه يا بيه فيه، كان الأول اسمه شارع طشتمر وبعدين سموه شوية أيام كده شارع علي فهمي، وبقاله كام سنة اسمه طلعت حرب، ويقولوا إنهم لسه حيغيروه.
الدكتور :
Unknown page
بيشتغل إيه؟
محمد الأول :
مدرس في كلية الزراعة.
الدكتور :
مدرس بوزارة الزراعة، حتى وزارة الزراعة رخرة عملوا لها مدارس!
محمد الأول :
كلية الزراعة يا افندم، كلية الزراعة.
الدكتور :
يادي المصيبة! مش تقول كده؟ إنت مش عارف إني باكتب الاستمارة من صورتين؟ اتفضل ... (ويصحح الاستمارة الأولى)
كلية، والصورة الثانية. إيه الأعراض اللي عنده؟
Unknown page
م. الأول :
أعراض جنون خطرة يا بيه.
الدكتور (رافعا بصره إلى المجموعة لأول مرة) :
ماهي أعراض الجنون كتير. بيعمل إيه يعني؟ بيتهيج.
محمد الأول :
أيوه بيتهيج.
الدكتور :
بيحاول الاعتداء على الغير؟
م. الأول :
كتير قوي يا بيه، مبهدلنا خالص.
Unknown page
الدكتور :
هو فين ده؟ فين يا عسكري المجنون اللي انت جايبه؟
العسكري (بثقة لا حد لها) :
دا هو يا افندم (مشيرا إلى م. الأول) .
م. الأول (ناظرا إلى العسكري بضيق وتأنيب) :
أهو يا افندم (منتحيا جانبا؛ كي يبدو محمد الثالث للطبيب في قميص كتافه) .
الدكتور :
إنت المجنون؟ (م. الأول ينظر إلى السقف، وينتف ذقنه ولا يجيب.)
الدكتور :
هيه، وغيره، (قارئا من الاستمارة)
Unknown page
هل حاول الانتحار؟
م. الأول :
كتير يا افندم.
الدكتور :
وكيف؟ هل حاول إلقاء نفسه من الشرفة، أو إشعال النار في ملابسه؟ وهل ترتبط محاولاته بالرغبة في الاعتداء على الغير؟
م. الأول :
مظبوط يا افندم.
الدكتور :
هو إيه اللي مظبوط؟
م. الأول :
Unknown page
كل اللي بتقوله سيادتك، كله حصل.
الدكتور (مسجلا) :
نعم! متى بدأت الأعراض؟ من إمته بيحصل له كده؟
م. الأول :
من حوالي خمس ست اشهر.
الدكتور :
وساكتين من ساعتها ليه؟
م. الأول :
فاكرينها حاجة حاتزول، إنما كل ماده كل ما كانت بتكتر وتزيد لغاية أول امبارح.
الدكتور :
Unknown page
حصل إيه؟
م. الأول :
اتهيج قوي وضربني وضرب كل اللي في البيت، وجبنا بوليس النجدة، وبقت فضيحة.
الدكتور :
فضيحة إزاي؟
م. الأول :
نزل فينا ضرب وحاول يدبح مراته بالسكينة واتلمت الجيران، وعملنا مذكرة في القسم (مخرجا ورقة من جيبه)
رقم: 421 أحوال، سنة 1965م. تحب سيادتك تطلع عليها؟
الدكتور :
ما فيش لزوم، دانا قدامي لسه خمسين حالة، حد في العيلة مريض بمرض عقلي؟
Unknown page
م. الأول (مفكرا) :
في العيلة؟ آه، عمته قبل ما تموت بسنة جالها حالة دروشة وسابت البيت، وراحت قعدت جنب الحسين، وكنا نجيبها تهرب تاني وتروح هناك، وتقول: أنا جاني الأمر إني ما اتحركش من جنبه.
الدكتور (قارئا بلهجة روتينية) :
هل سبق للمريض أن أصيب بمرض عقلي؟ هل تم حجزه بإحدى المصحات؟
م. الأول :
دي أول مرة يا افندم.
الدكتور (ملقيا نظرة على الاستمارة) :
آه لا مؤاخذة، نسينا السن؛ سنه كام سنة؟
م. الأول :
هو من مواليد 1937 يعني 29 سنة.
Unknown page