هذه قصة تمثيلية على الطريقة الرمزية - إذا شئت - وليست الرمزية ها هنا بموقوفة على الرمز بشىء إلى شىء آخر، ولكنها - فوق هذا - استنباط ما وراء الحس من المحسوس، وإبراز المضمر، وتدوين اللوامع والبواده بإهمال العالم المتناسق المتواضع عليه المختلق اختلاقا بكد أذهاننا، طلبا للعالم الحقيقي الذي نضطرب فيه، رضينا أو لم نرض، تدهشنا ظواهره، وتروعنا بواطنه، وتعجزنا مبادئه، عالم الوجدان المشرق، والنشاط الكامن، والجماد المتأهب للتحرك إلى ما يجري بينها من العلاقات الغريبة، والإضافات التائهة في منعطفات الروح، ومثاني المادة، يشترك في كشفها الإحساس الدفين، والإدراك الصرف، والتخيل المنسرح.
كلنا يطوي في المكان القصي من سريرته شيئا لا بد له من أن يقال، شيئا أجنبيا عما يتصل بالمألوف أو المنتظم أو الاجتماعي، صاحبه يكتمه حتى من نفسه وربما جهله، على أنه يتكلم ويتحرك، وهذا الشىء شاغله بحيث تمسي طائفة معينة من أقواله وأفعاله مجموعة رموز، لا رموز آراء تنكشف مصادرها، وتطرد مجاريها، ولكن رموز نزعات مبهمة، وممكنات ضائعة، وممتنعات متمثلة، ومغالبات، إنما ترتقب عواصفها في الساعة التي يهتم فيها الظلام أن ينفرش فيتصور المرتقب هزيز الريح، وصفق الموج، ثم إن مثل هذا الشىء لا يفصل، ولا يعلل، ولكنه يعرض خطفا، فكأن المنشئ يتوجس كيف تجاوب نفسه جرس الأشياء الخارجية من دون أن يتحمل ترتيبها ولا تأويلها، فيعدل عن البسط والتبيين إلى إثبات البرق الذي التوى في السحاب، فغزا الظلمة لحظة كأنما البرق آية وحي.
وبعيد أن يكون الرمز لونا من التشبيه أو الكناية إلى غير ذلك من ضروب المجاز، للذهن في وضعها، ثم قبولها الحظ الأعلى، بل هو صورة، أو قل: سرب صور جزئية ينتزعها المنشئ من المبذول كما تنتزع الأشكال من هيئات الموجودات على مرقم رسام موفور الحواس، مشغول المخيلة، محدث القلب، يعد الملموس منبثق الانطلاق إلى عالم أمثل، إلى عالم روحاني يوفق بين الواقع والموهوم، فيجعل ذاته الفنانة تعكس على اللوح الموضوع المرئي بفضل عينين دربتا على لمح مشاهداته الباطنة، فيمزج الرسم لوائح الرسام بالخارجيات، فتنسجم سرا كأن الخطوط الأفقية انبساط نفسه، والخطوط العمودية انبعاثها، والدوائر انطواؤها، والمنحنيات انقباضها، وكأن الضياء من صحوها، والظلال بعض مشكلاتها، وكأن الوجوه الوضاحة أشواقها، والمناظر المغبرة من غمومها: الوجداني يحل في المادي، حتى إن الأشكال ربما تبدو ناقصة أو مختلة، أو ماثلة تتردد عند حدود المعقول لمن لم يكن موطأ الفهم لها، مرهف البصيرة.
وذلك بأن هذا الرسام لا يكاد يحفل بالمنطق؛ لأن المنطق اصطلاح آلته العقل، والعقل إنما يجرد الأشياء أو يشذبها، ثم يغفل بعضها أو يجهل بعضها، فالتوضيح الذي ينتهي إليه أقرب إلى الاختراع منه إلى التحقيق، والعرفان الجد شعور بالحقيقة لا العلم بها، وبين العقل والشعور ما بين الهضبة الصخرة والروض الرفاف.
وإن قيل: إن المنطق هو القانون بل المعيار بل ضابط التناسب، وإن قيل: إن المنطق كمثل الزخرفة العربية في أبعادها ومسافاتها، ومقاديرها، فمما لا يرتقي الشك إليه أن المنطق ينشأ عنه تدبير معقول إنما يعوزه لهب الحياة، انظر إلى صورة اتفق أهل الدراية على أنها خطافة للعين تصب في جوانبها شيئا يترجرج؛ شيئا يقول لك: «بيني وبين بصرك صلة، صلة اليقظة والإحساس بالوجود.» ثم انظر إلى رسم لا يخرج عن خطوط هندسية غاية في الدقة أفلا تقبض صدرك البرودة المنسابة فيه؟ هذا الرسم الذي دبره العقل من باب الحساب لا يعرف السبيل إلى نفسك؛ لأن النفس على فطرتها تهوى كل ما يرجع إلى الطبيعة الصادقة، والطبيعة تجهل الإحكام في التخطيط والجمود في التعبير: «الطبيعة - على قول المصورين التأثريين
les Impressionnistes - لون تخاطبنا من طريق اهتزازته الضوئية مخاطبة متقطعة ومتقلبة».
ومثل المنشئ إذن مثل راقصة تنحرف عن قواعد الرقص المضبوط فنه المتأمم اعتيادا لا اندفاعا، فتأبى أن تخط أشكالا محصورة في نظام سرعان ما يهتدى إليه بأن تحلل النغمات وتقطع الموازين؛ لكي تردهما في الفضاء وحدة متماسكة حتى التشنج، واضحة وضوحا يتفرق البصر له، وإنما تكني بالتلوي والتوتر، والنزوان والتقبض عن انفعالات إحساسها الموسيقي، السماع ينقلب حركة! فتراها تنقل قدميها على الأرض خفيفتين تتهيأ لقفزة هل تعود بعدها؟ وتسلط ذراعيها على الخلاء الذي حولها تعزف منه طرائف تهبها لمن تلحظه عيناها دون أعيننا، وتمد أصابعها وتزويها كأنها تحث وتزجر قلوبا تطوف بها، ثم تهصر الخصر وتطلق العطف، وتنفض الثدي، وتثني الرأس كأنها تنادي ربا لا يلتفت إلى عباده حتى تتأوه أجسامهم فتريد أن تنهدم، فإذا بها ترقص حسبما يخفق قلبها، وينبض عرقها إذعانا لإشراق الساعة، وانقيادا لهواجسها، فتخلص الغريزة من الكبت، وتنصر الاضطراب النفساني من الاختلاج العضوي، فترد الرقص وثبة حرة، وثبة النفس اللطيفة نحو الغبطة المضنية.
ولا يستخلص من هذا أن الإنشاء يصبح ضربا من الهذيان، أو أنه يستحيل مجموعة رؤى شوارد، وبدوات نوادر، فإنما المنشئ يعرض عن المراسيم الجامدة إرادة أن يجعل الكتابة لحنا يغلب فيه الارتجال الملهم على الصناعة الموقوفة؛ إذ يتجنب فيه النغم الحادي المعلق كالسيف الصدئ فوق المقاطع واللوازم والفواصل، ويحذف الانتقال المتواتر تارة المستدير أخرى من القرار حتى الجواب، ثم من الجواب حتى القرار في مجرى متساوي النسب منتظم التقاطيع، وينبذ تدريج الصوت من الشدة إلى اللين، أو من اللين إلى الشدة، ويهمل توطئة الخروج من طبقة إلى طبقة، ويترك تحلية القفلة لينهض التأليف على خط هش متكسر، ينحني ويستقيم مع موضوع اللحن، يمهل ويندفع به، كأنما اللحن حديث يتجاذبه فتية أنس بعضهم إلى بعض، فينقطع ويتصل ويذهب ويجيء ويصعد وينخفض، وإنما الذي يحدو اللحن طائفة من المدات والهمسات والهمزات تلائمه مرة وتنافره مرة، طائفة من الأصوات المفردة بين حادة وثقيلة، ومفخمة ومرخمة، ومن النقلات المنفصلة بين مقلقلة ومضغوطة ، ومقيمة وطافرة، كأنها من فضلات اللحن تحكي تفاصيل موضوعه، وتراسل تعاريجه، فتساوق أنفاسه حتى ينقضي.
بقي أن هذا الإنشاء الذي يعالج ما يلي المادة المباشرة لا صلة له بأنواع أخرى من التأليف، منها الخطابة التي تأكل أدبنا شعره ونثره منذ نشأته؛ لأن الخطابة حيلة ثم كذب، فإما أن تستر بمفرداتها الضخمة، وجملها الوارمة بضاعة ضاوية، وإما أن تزوق ما يكاد يكون مدركا، وتبالغ في التعبير عما يكاد يكون محسا، ومنها التحليل المطرد اطرادا الذي يفصل الآراء والميول، ويشد بعضها إلى بعض فتبدو بسيطة معقولة متلاحقة؛ لأن مباعثها لا تزال طي الضمائر، ومنها التأثير القريب الغور الذي يهز أعصابك دون أن يجعلك تتقرى العواطف البعيدة، أو تجس الرعدات الدقيقة بالتماسه الموضوعات العنيفة السهلة في آن نحو مقابلة الحب بالواجب، ومنها الوصف الواقعي الذي يقعد عن الخلوص إلى ما وراء المنظورات من خواطر وواردات لا تبرز لمشهد الحس، ومنها التلفيق الأدبي الذي يستل الأشخاص من العالم الإنساني، فتارة يعليهم فتحسبهم آلهة، وأخرى يهبطهم فتحسبهم شياطين، ثم منها الإبداع الفني؛ لأن بلوغ التمام المتناهي في الصناعة نتيجة الحذق لا نتيجة الشعور، وإنما نتيجة الشعور تطلع قلق إلى تمام لا يتناهي. •••
وبعد فإن أشخاص هذه المسرحية دمى تحركهم عواطفهم الدفينة، كما أن الناس آلات في قبضة الحياة الجائشة إذا هم استبسلوا فنزلوا إلى ساحتها، وقلما يفعلون.
Unknown page