سنحاول إذن أن نتجنب هذا كله؛ لأن احترامنا لمثل هذا القدر أكبر من أن يصرفنا عن الهبوط إلى هذا الينبوع العميق ... •••
كان الفكر هو قدر نيتشه.
ولكن ماذا نقصد بالفكر؟ وماذا نريد بالقدر؟ أمن الممكن أن يصبح الفكر - وهو نشاط العقل البشري - قدر الإنسان؟!
ألا يوضع نيتشه في تاريخ الفكر الفلسفي بين من نسميهم فلاسفة الحياة؟ أليست فلسفة الحياة هي تلك الفلسفة التي تبتعد بنفسها عن كل معرفة نظرية أو عقلية، وتتجه إلى الحياة الخصبة المباشرة؟ أليست هي التي تقدم الشعور على العقل، والتجربة على التأمل، والواقع على الفكر؟ لقد تعودنا أن ننظر إلى الفكر - والفكر المجرد بنوع خاص - على أنه بعيد عن الحياة بل غريب عليها، وتعودنا أن ننتظر من فلسفة الحياة تعبيرا شعوريا أو شاعريا عن جوهر الأشياء لا أفكارا مجردة أو تصورات ذهنية.
صحيح أنه لا ينكر أحد أن نيتشه كان شاعرا، لا بالمعنى السطحي القريب لهذه الكلمة، بحيث يقال إنه ألف القصائد الشعرية إلى جانب الكتابات النثرية، ووضع كتابا فلسفيا - «زرادشت» - في صورة شعرية، بل المقصود أنه كان شاعرا بالمعنى الأعمق لهذه الكلمة، بحيث يمكن أن نقول إن الفكر لديه قد استحال شعرا، وإن العلاقة بين الفكر والشعر، أو بين الحقيقة والفن، كانت نوعا من التناقض الأساسي الذي حرك فلسفته من أولها إلى آخرها، حتى لنجده يعترف في أواخر حياته قائلا: لقد فكرت تفكيرا جديا في وقت مبكر من حياتي عن العلاقة بين الفن والحقيقة، وما زلت أشعر بالفزع المقدس وأنا أقف الآن أمام هذا الصراع.
أنسمي نيتشه لهذا السبب شاعرا فيلسوفا؟ قد تكون التسمية جذابة، ولكنها لا تقول في الحقيقة شيئا، والأفضل أن نعفيه من هذا الشعار السخيف؛ لكيلا نحرم أنفسنا من الإحساس المقدس الذي شعر به في أواخر حياته حين أحس بالفزع من الصراع القائم بين الحقيقة والفن.
ولكن ألا نلاحظ أن نيتشه لا يكف عن مهاجمة الفلسفة التقليدية لإيمانها البشع بالتصورات واصطناعها الدائم للأفكار، ولا ينقطع عن تسديد سهامه إلى المنطق والديالكتيك والإنسان النظري أو السقراطي أو غير ذلك من تسمياته المشهورة؟ أليس هو الذي قال في الفترة التي وضع فيها أول كتبه الكبيرة «ميلاد التراجيديا من روح الموسيقى»: إنه ما من طريق يخرج من الفكرة ليؤدي إلى جوهر الأشياء؟ هل نستطيع أن نستخلص من هذا أن الفكر الحق لا بد أن يكون بالضرورة تفكيرا بالتصورات، وأن من طبيعة هذا الفكر أن يتفكر في جوهر التصور، أعني أن يكون شيئا أقرب إلى التفكير في التفكير؟ لعل الجانب الأكبر من فلسفة نيتشه ألا يخرج عن كونه تفكيرا في التفكير نفسه.
ولكن كيف يتفق هذا مع ما قلناه من أنه فيلسوف الحياة؟ أهناك أبعد من الحياة أو أكثر غرابة عليها من هذا الكلام؟ وما هي إذن حقيقة العلاقة بين الفكر والحياة عند نيتشه؟
إنه يقول في كتابه الأكبر الذي لم يقدر له أن يتمه هذه العبارة: «إن الفكر هو أقوى شيء نجده في كل مستويات الحياة.» الفكر إذن هو أقوى ما نجده على اختلاف مستويات الحياة، وأكثره تدفقا بالحياة، ألا يتبع ذلك أن يكون أكثر الموجودات حياة هو الفكر الذي يصل إلى أقصى درجات التفكير؟ وأن تتمثل أقصى درجات الفكر في ذلك التفكير الخالص الذي يتحرك في عنصره النقي، أعني التفكير المجرد، بحيث يكون هذا التفكير المجرد أكثر ألوان الفكر حياة وحيوية؟
ولكن ألا نكون بهذا قد سرنا على الطريق الخاطئ؟ لنستمع إلى ما يقوله فيلسوف الحياة في ذلك، ها هو ذا يصرح في أحد كتاباته المتأخرة: «إن التفكير المجرد لدى الكثيرين عناء وشقاء، أما عندي فهو في الأيام المواتية عيد ونشوة.» وليست النشوة التي يريدها نيتشه هنا إلا حالة من حالات السكر بمعناه الأصيل الذي يجعله مقابلا للحلم ، بمعنى الارتفاع إلى أقصى درجات القوة والحياة؛ فالتفكير المجرد إذن هو أقصى درجات الحياة.
Unknown page