هنا يضع «رلكه» المكان الذي تتفتح فيه الورود في مقابل المكان الذي يحيط بالعالم، فهو مكان لا يعدم النور أبدا، تستقبل الورود فيه الشعاع؛ فتتفتح وتزدهر وتشرئب نحوه.
علينا أن نفهم المكان بمعناه الأوسع، ظاهرة أولية تظهر نفسها بنفسها، أو ظاهرة أصلية كما قد يقول شاعر آخر مثل جوته؛ فالمكان هنا تفتح وحرية، لا فراغ أو خلاء، وفهمنا له على هذا النحو ينبع من فهمنا للمتعالي كما يصب فيه.
ولكن ما هو هذا المكان الحر الخالص المنفتح المنير؟
سيقول الشاعر: إنه لا حدود له حيث لا يوجد النور، بعكس العالم أو المكان الكوني الذي قد يوجد حيث يسود الظلام وينعدم النور، وقد نزيد على ذلك فنقول: إنه المكان الذي لا تحده الحدود؛ لأنه يعلو على كل ما هو معدوم وموجود. إنه بعبارة أخرى: مكان بلا مكان، هو الانفتاح الخالص الذي تتحدث عنه المرثية الثامنة لتقول: بكل العيون ترى الخليقة الانفتاح، ونحن لا نستطيع أن نعطي هذا الانفتاح الذي يتحدث عنه الشاعر اسما وإلا حددناه بالقول ووضعناه هو نفسه في مكان. «فما نسميه تسمية عاجزة بالانفتاح لا يعرف النوافذ والجدران، إنه لا يوجد «في» وليس له عالم ولا صلة له بما يوجد في العالم»، بل الحقيقة أننا لا نستطيع أن نتحدث عنه على الإطلاق، وكل ما نملكه هو أن نترك الانفتاح ينفتح، إن صح هذا التعبير، أعني أن نجربه تجربة باطنية لا أن نطلق عليه اسما من الأسماء.
ليس من الصعب أن نخلص مما تقدم إلى هذه النتيجة: إن المكان هو راموز المتعالي أو شفرته، وقد كان علينا - لنصل إلى هذه العبارة - أن نبين أن ما نقصده من المكان لا يقتصر معناه على عالم الأجسام ولا على الخلاء المحيط به من كل جانب؛ فاستبعدنا المكان بمعنى صورة عالم المادة والأجسام أو صورة العيان الأولية كما سماه كانط، وبمعنى الوعاء الذي تتلامس فيه الأشياء وتتم فيه علاقات الحركة من موضع إلى موضع؛ ذلك أن تصورنا للمكان جاء من فعل «التمكين» نفسه - إن جازت هذه الكلمة - أي من إعطاء المكان لا من الإحاطة به وتطويقه.
وهنا يواجهنا سؤال بعد سؤال، وبخاصة إذا عرفنا أن المكان لا يذكر بمعزل عن الزمان، فما هو أصل المكان والزمان؟ هل هناك جذع شجرة مشتركة يتفرعان منها؟ وأين نجد هذه الشجرة؟ وفي أي أرض؟ ومن أين نفهم إحساس الإنسان بالتناهي؟ أمن شعوره بأن المكان غير محدود في حين أنه هو نفسه محدود؟ أم من شعوره بأن الزمن الذي يفنيه هو نفسه لا يفنى؟ وإذا كانت فكرة اللاتناهي لا تزال تشغله وتؤرقه ولن تزال كذلك ما بقي على الأرض إنسان، فهل يأتي تصوره للاتناهي من رهبته أمام المكان الأبدي الصامت كما يعبر باسكال؟ أم من خوفه من الزمان والدهر الذي يفني كل ما فيه؟
من الخير عند الإجابة على مثل هذه الأسئلة أو محاولة الجواب أن يعود المرء إلى أول من سألوها على الإطلاق؛ فقد سألت الفلسفة اليونانية وهي في مهدها الأول: ما هو الوجود «وهو السؤال المشهور: تي تو أون»، وعبرت الفلسفة الحديثة على لسان ليبنتز عن نفس السؤال في هذه العبارة: لم كان وجود ولم يكن بالأولى عدم؟ في كلا السؤالين استفسار عن الموجود، ينبعث عما سماه اليونان ال «لتاومازين» أو الدهشة، والدهشة التي دفعت إليهما كانت دهشة من وجود الموجود على الإطلاق، لا من كيفية وجوده أو علته، ولا من قصر عمره أو تناهيه، إنهما لا يسألان عن الزمان أو الأبدية، لا يقولان مثلا: لم كان زمان ولم تكن بالأولى أبدية؟ ولا يقولان: ما هو التناهي وما أصله على الإطلاق؟ وليس معنى هذا أن هذه الأسئلة هينة الجواب أو غير جديرة بالسؤال، وليس معناه أننا نجد الحل الحاسم لها حين نفر منها بوجه أو بآخر، حتى ولو كان هذا الفرار عبقريا «فما زال التعبير اليوناني القديم عن دائرة الزمن التي لا تبدأ ولا تنتهي، ولا تكون ولا تفسد، والذي أخذه نيتشه في العصر الحديث فزاده عمقا وزادنا حيرة في تفسيره، وأعني به تعبيره المشهور عن عودة الشبيه الأبدية، أقول: إن هذا التعبير ما زال يحيرنا ويبعدنا عن الجواب أكثر مما يقربنا منه»، بل معناه أننا نقدم المكان على الزمان، كما نعترف له بالأسبقية عند مناقشتنا لمشكلة المتعالي.
وهنا نعود للكلام عن «المكان الخالص».
فما معنى هذه الكلمة الأخيرة؟ هل معناها المكان الخالي من كل شيء المجرد عن كل جسم؟ لا شيء من ذلك، وإلا فهمنا المكان بمعنى الخلاء، الأمر الذي نفيناه من قبل. إن كلمة «خالص» تفيد من دلالتها اللغوية معنى النقاء وعدم الامتزاج بعنصر غريب، والمكان الخالص ليس شيئا غير ما سميناه بالانفتاح.
وكلاهما يكون وحدة جوهرية بسيطة، إنه يختلف عن المكان الذي «تكمن» فيه الأشياء، ولكن مكان الأشياء أو العالم أو الكون لا يمكن تصوره بغير المكان الخالص، فما الفرق بينهما إذن؟ «المكان الخالص» هو الذي تجرد عن «أين»، ولم يعرف «هنا» أو «هناك»، بعكس المكان الذي يحوي الأشياء ولا يمكن تصوره بغير «أين»، أي بغير أن يكون هو نفسه محتوى في مكان سواه.
Unknown page