ولكن ما هو هذا التعالي الذي وصفناه بأنه مشكلة المشكلات، وبأنه عمل فريد في بابه يجب على الإنسان أن يحققه ليجد إنسانيته؟ وصفنا التعالي بأنه «الارتفاع فوق كل شيء على وجه الإطلاق»، فماذا يفهم عادة من فعل التعالي أو من كلمة المتعالي حين نستخدمها في الفلسفة أو في غير الفلسفة؟
قد تفهم على أنها التعالي فوق التجربة، بوصفها التجربة الحسية قبل كل شيء، وذلك هو الرأي الميتافيزيقي (بالمعنى الحرفي للكلمة)، أي الذي يتصور المتعالي على كل ما تجاوز عالم الطبيعة وجاء بعده، وإن بقي لهذا السبب نفسه متعلقا به مضافا إليه، وقد يفهم التعالي على أنه الارتفاع فوق الذات، أو صعود الذات فوق نفسها متجهة نحو الموضوع، وهو ما نستطيع أن نسميه بالفهم الذاتي للتعالي، وسنجد في سياق حديثنا أننا لا نستطيع أن نأخذ به أو نوافق عليه؛ لأننا نفهم من التعالي ما يرتفع فوق كل شيء، وبالتالي فوق الموضوعات والذات جميعا.
ونعود فنسأل : «وما هو المتعالي؟» لا بد لنا قبل الإجابة على هذا السؤال أن نعرف أن المتعالي لا يمكن التفكير فيه من ناحية الإنسان أو العالم، بل يجب أن نفكر في الإنسان والعالم من ناحيته، وعلينا أن نذكر دائما أنه ليس مشكلة يضعها الإنسان، بل هو مشكلة يوضع فيها الإنسان فتستأثر به وتملك عليه كيانه، ولن يتم هذا قبل أن نعاني التحول الكبير الذي لا يمكن أن ننتظره من إنسان أو شيء سوانا، بل لا بد أن يكون ميدانه في الذات ومن أجل الذات، وأخيرا لا بد أن ننقي كلمة المتعالي «الترانسندنس» من كل ما يخالطها، وأن نفرق فيها بين فعل التعالي نفسه وبين القائم بهذا الفعل أو «الترانسندنت»، كما نميز عنها ما نسميه بالكمون أو «الأماننس»، فهذا الكمون ليس عكس التعالي؛ لأنه صلة انعكاسية به، وقد تكون هذه الصلة بين القائم بفعل التعالي وبين المتعالي نفسه، كما تكون على العكس من ذلك بين المتعالي وبين من يتعالى إليه، أما المتعالي فليس من ذلك في شيء، إنه يعبر عن علاقة لا يمكن عكسها؛ إذ إنها لا تبدأ من الذات التي تحاول أن تعلو إليه ولا يكون الإنسان هو أصلها، بل تبدأ من المتعالي الذي نحاول أن نرتفع إليه، والتعالي يختلف أيضا عن ذلك الذي نعلو إليه ونسميه بالمتعالي؛ ذلك أننا بفعل التعالي نرتفع درجة درجة فوق الأشياء حتى نصل إلى الارتفاع فوق كل شيء، ولو كان المتعالي نفسه شيئا لكان علينا أن نعلو عليه كذلك، فلا يبقى أمامنا إلا أن نقول عنه: إنه مطلق - بالمعنى الحرفي الأصيل لهذه الكلمة - من قيد كل شيء، مستقل غير مشروط بغيره، كامل وتام في ذاته، ومكتف بذاته.
يبدو أن أفلاطون هو أول من اقترب من المتعالي في جمهوريته، فكلما ذكر الخير تبادر إلى الذهن ما نفهمه اليوم من العلو والتعالي؛ فالخير مثال، لا بل هو مثال المثل الذي يعلو عليها ويزيد عنها قوة وصفاء ، وقد يختلف في ماهية وجوده عن سائر المثل، كما تختلف هذه عن سائر المحسوسات، ونظرة عابرة إلى رمز الكهف المشهور (الجمهورية من 514 إلى 517) تدلنا على أن الخير هو أعظم الموجودات شأنا، وأشبهها بالشمس التي تغشي بنورها عيون الذين يحاولون أن يتطلعوا إليها بعد خروجهم من الكهف. غير أن أفلاطون لا يستقر في تعبيره عن الخير؛ فهو تارة كالمتعالي وتارة أخرى شيء آخر يختلف عنه، وقد لا نكون مبالغين إذا قلنا: إن هذا القلق في التعبير عن المتعالي يسري في تاريخ الفلسفة كلها من أفلاطون إلى اليوم، فالفلسفة اليونانية القديمة لا تكاد تعرفه، وحين اقتربت منه واستطاعت أخيرا أن تسميه بالواحد كان يقع على أطراف حدودها ويتوج تطورها. والحق أن ما نفهمه اليوم - بوجه عام - من كلمة المتعالي إنما جاء عن أفلوطين والأفلاطونية المحدثة، بحيث نستطيع أن نقول: إنه كان أول من عانى من تجربة العلو على وجهها الأصيل، وجعل من المتعالي مشكلة تفكيره الوحيدة (راجع رسالته عن الخير).
وفكرة المتعالي تشغل مكان الصدارة من فلسفة الوجود الحديثة، حتى لتذهب في بعض الأحيان إلى حد القول بأنها اكتشفتها اكتشافا، وليس الارتفاع فوق الموجود إلى «الوجود» نفسه عند هيدجر، ولا ارتفاع الإنسان إلى «الشامل المحيط» عند ياسبرز - وإن تعذر عليه أن يدرك كنهه أو يدرك حقيقته - أقول: ليسا إلا تعبيرا آخر عن العلو والمتعالي، وليس الوجود - كما قد يبدو لأول وهلة من تسمية الفلسفة المعاصرة نفسها بهذا الاسم - مبحثا جديدا على الإنسان، لقد شغل بارمنيدز في فجر الفلسفة، فكان هو الموجود الذي ينبغي أن يتجه إليه القول والفكر؛ لأن العدم هو ما ليس له وجود، ولأن السؤال عن الوجود كان ولا يزال - كما يقول أرسطو - هو السؤال الرئيسي الأول الذي ينبغي على الإنسان أن يسأله الآن وعلى الدوام، والحق أن كلمة الوجود - كما أوضح هيدجر في بداية كتابه المشهور «الوجود والزمان» - ذات معان كثيرة متشابكة، فليس الوجود شيئا من جملة أشياء يوضع إلى جانبها ويعد واحدا من بينها، له جملة خواص: إحداها ما نسميه بالوجود. إنه يختلف عن الموجود اختلافا رئيسيا، سماه هيدجر «بالاختلاف الأنطولوجي»، وليس من همنا أن نفصل القول في هذه الناحية، فكل ما نريد أن نؤكده هو أننا بمجرد أن نتصور المتعالي على أنه الوجود أو الموجود فإنما نفقده إلى غير رجعة؛ فليس المتعالي شيئا يمكننني أن أتحدث إليه أو عنه أو حتى أن أفكر فيه، ليس شيئا لأنه علو فوق كل ما هو شيء وما له شكل الشيء، وليس مما يمكن الحديث إليه أو عنه؛ لأنني سأجد في نهاية المطاف أن لغتي عاجزة عن التعبير عنه، وأن علي إما أن أبحث عن لغة جديدة - وهو ما لا أقدر عليه - أو أن ألزم الصمت المطلق (وهو ما لا يقدر عليه إلا الأموات!) والقول بأن المتعالي لا يستطاع التفكير فيه، ليس معناه أن أتخلى عن الفكر؛ فبالفكر وحده أعرف أن هناك مشكلة هي مشكلة التعالي، وبالفكر وحده أستطيع أن أفكر فيما لا سبيل إلى التفكير فيه بوسائلنا المألوفة وأشكالنا المنطقية المتواضع عليها، وليس المقصود بالعبارة الأخيرة إلا أنني مطالب إزاء مشكلة المتعالي بتحمل أقصى ما يستطيع الفكر أن يتحمل من عناء، وبذل أقصى ما يمكن أن أبذل من جهد وحركة وتوتر.
علينا إذن أن نوسع آفاق نظرتنا إلى المتعالي، وأول ما نفعله في هذا السبيل هو أن نتغلب على العقبات التي تعترض سبيل هذه النظرة، ونكشف عن قصور تفكيرنا فيه حين نظن أننا نتحدث عنه، بينما نحن في الحقيقة نتحدث ضده ونتجاوز محدودية التصورات الميتافيزيقية والدينية والوجودية للعلو والتعالي، مهتدين في ذلك بالتعريف الذي وضعناه في صدر هذا الكلام من أنه الارتفاع فوق كل شيء على وجه الإطلاق، علينا أيضا أن نكشف عن العقبات الباطنية التي تعترض سبيلنا إلى المتعالي، وأن نواجه نزعتنا الطبيعية الدفينة إلى الهروب منه أيا كانت أشكال هذا الهروب، فنحن نهرب منه، لا بل نتمرد عليه بما طبع فينا من ميل إلى التفكير العملي أو التفكير السليم كما نسميه عادة، مع أن هذا التفكير السليم يقف بطبعه موقف المعاند لكل تفكير فلسفي أو ميتافيزيقي على وجه العموم، ونحن ندير له ظهورنا حين نضعه في عالم «آخر»، ونحسب بذلك أننا نعلو بأنفسنا على هذا العالم بإعراضنا عنه وزهدنا فيه، كل هذا بغير أن يخطر ببالنا أننا في كل الأحوال نهرب من المتعالي ونوفر على أنفسنا مشقة التفكير الجاد فيه ونؤثر الطمأنينة على عذاب الصعود إليه.
إن أسباب الاعتراض على المتعالي كثيرة كثرة أسباب الهروب منه، فقد يسأل سائل فيقول: إلى أين نرتفع فوق كل شيء؟ أليس ذلك ارتفاعا إلى الفراغ والعدم؟ والجواب على هذا الاعتراض بسيط؛ فنحن حين نرتفع فوق كل شيء فإنما نرتفع أيضا فوق الفراغ والعدم، والارتفاع والعلو بمعناهما الأصيل ارتفاع وعلو على الشيء وضده، أي على الكل والعدم على السواء.
وقد يعترض آخر فيقول: ما لنا نحن وللمتعالي وهو غير معقول ولا سبيل إلى التفكير فيه أو التعبير عنه؟ وهذا الاعتراض قديم قدم أفلاطون، وحديث حداثة المذهب الوضعي، إنه يقوم في أساسه على نزعة كامنة فينا، تجعلنا ننكر المتعالي أو بالأحرى نتنكر له، وربما كان خير اسم نطلقه على هذه النزعة التي تشتد لدى إنسان العصر الحديث هو «زوال المتعالي» أو اختفاؤه من وجدانه.
لنحاول إذن أن نفهم فكرة المتعالي بمعناها الميتافيزيقي الأعم. التعالي فعل شخصي (بكل ما في كلمة الشخصية من وحدة وذاتية وتفرد) يفرد الإنسان ويزيد من فردانيته، هذه الفردانية (وهي بعيدة عن الانعزالية بعد السماء عن الأرض) شيء يكرهه الفهم السليم أو «الكمون سنس» وينفر منه. والتعالي في جوهره انفتاح للفكر واتساع لآفاقه وتجاوز لكل الحدود، والفهم السليم يحب الانحباس بطبيعته، ويستريح للتجمد والقيود. إن العناد من طبعه، وتوكيد الذات دأبه وغايته، فإذا انحبس بين جدران ذاته فلكيلا يعلو عليها، وإذا تجمد في عالمه فلكي يحمي نفسه من المتعالي ويؤكد شعوره بنفسه وسيطرته على الطبيعة. إن من طبيعته أن يقول: كل شيء هو كل شيء ولا شيء هو لا شيء، أو يقول: الكل كل والعدم عدم، وإذا كان كل ما هو عظيم يبهره، فليس ذلك لميله للعظمة، بل لأنه يحب الكثرة ولا يعرف إلا الكم.
هذا الموقف الميتافيزيقي (وهو يظل كذلك وإن أنكر الميتافيزيقا) من جانب الفكر السليم هو في صميمه موقف عدمي (لنذكر تعريف نيتشه للعدمية في كتابه الرئيسي الذي لم يتم «إرادة القوة» بأنها تجريد القيم العليا من قيمتها، أو بأنها موت الإله كما عبر عن ذلك زرادشت)، والعدمية بهذا المعنى هي ضد التعالي ونقيضه، وهي عدمية في تعبيرنا هذا؛ لأنها تنكر كل ما يعلو على الحس وتنفي كل ما يجاوز الطبيعة، وتنفر من كل ما لا تستطيع أن تلمسه وتقبض عليه بيديها.
Unknown page