ولكن هل نصل مع العقل حقا إلى أعلى درجات الرؤية؟ وهل ينتهي السلم الصاعد فلا نجد درجة أخرى نصعد إليها؟ الظواهر كلها تدل على هذا؛ فالسلم قد انتهى بالفعل، ولكن الشوق إلى الصعود ما زال متقدا، واللهفة إلى الارتفاع لم تهدأ بعد.
لا بد إذن من أن نلقي بالسلم بعيدا، ماذا تفعل؟ لم يبق أمامنا إلا أن نقفز القفزة الأخيرة، لعلنا أن ندرك الواحد، غير أنها ليست قفزة الخيال الجامح، ولا طفرة العاطفة المتحمسة؛ فقد مهدت لها ودفعتنا إليها المراحل التي تركناها وراءنا.
كل رؤية تفترض وحدة الرائي والمرئي واختلافهما في آن واحد، غير أن الوحدة هي الأصل، فليس الأمر في عملية الرؤية - مهما يكن نوع وطريقة تفسيرها - أن تكون هناك ذات ترى من ناحية وأمامها الموضوع الذي تراه من ناحية أخرى، ثم تتصلان ببعضهما على وجه من الوجوه، بل الأصح أن يقال: إن فعل الرؤية يسبق كل تفرقة بين الرائي والمرئي ويمكن لهما من الالتقاء، وكلما توثقت الوحدة بين الرائي والمرئي في الوجدان الباطن؛ زاد نصيب الرؤية من «الباطنية»، وكلما نقص حظ الرؤية منها، كان ذلك دافعا إلى الارتفاع إلى رؤية أتم.
ولكن لم لا يكون العقل الذي يصفه أفلوطين بأنه هو الفكر الذي ينكر نفسه، والذي تتمثل فيه أكمل وحدة ممكنة بين الرائي والمرئي، لم لا يكون هذا العقل هو نفسه أعلى درجات الرؤية؟ الجواب ليس بعيدا؛ فالعقل وإن يكن في حالة نقية خالصة مع نفسه، ولا يفكر في شيء آخر سوى نفسه، فإنه مع ذلك لا يخلو من الثنائية الكامنة بالضرورة في كل تفكير، ونقصد بها ثنائية المفكر والموضوع الذي يفكر فيه.
ما هي إذن هذه الرؤية الكاملة التي ما زلنا في سعي دائب للوصول إليها؟ إنها كما قلنا من قبل الرؤية التي لا ترى، فإن سألنا ما هي طبيعتنا؟ أو كيف لنا أن ندركها؟ أعفانا أفلوطين نفسه من الجواب، وقال في عبارة قد لا تخلو من الغموض: «فإن أنت تركت الوجود «وراءك» لكي تستحوذ عليه (أي لكي تفهمه وتدركه) فسوف تقع في الدهشة، عندئذ عليك أن تلقي بنفسك عليه (تلقي بصرك أو تسدد سهمك إليه) وتصيبه، وأن تستريح في مملكته وتحيط به، وذلك بأن تفهمه عن طريق اللمس فهما أفضل، أما العظمة (أو العظيم) فيه فاعرفها عن طريق الموجود، الذي جبل على مثاله ومن خلاله.»
38
أفلوطين هنا يحاول - باللفظ القديم الشاحب الذي لا يستطيع أن يسعفه - أن يعبر عن الاتحاد مع الواحد، وأهم ما يلفت انتباهنا في هذه القطعة هو قوله: «ألق بنفسك عليه!»
39
على الإنسان إذن أن يترك الموجودات كلها وراءه ويلقي بنفسه على الوجود. وتركه للموجودات كلها سيشعره بالدهشة؛ هذه الدهشة هي التي ستدفعه إلى إلقاء نفسه على الوجود، على الواحد. إنه الآن لا يقف منه موقف الرائي من المرئي لكي يحاول بعد ذلك أن يتحد به، بل يهب نفسه له، يلقي بكيانه بين ذراعيه ، يلامسه من كل ناحية ويعانقه ويتحد به، لقد ترك وراء ظهره كل ما هو شيء وموجود، وتملكته رعشة الاندهاش فألقى بنفسه عليه حين أصابه وجد الراحة في الاتحاد معه اتحادا يختلف عن كل ما يمكن أن نتحد به من موجودات هذا العالم، ولكنه لا يطيل المكوث هناك، ولا يستمرئ النعيم المتاح، بل يعود ثانية إلى هذا العالم، ويرجع إلى الموجودات ليراها بعين جديدة، ويدرك سر عظمتها التي استغلقت عليه من قبل.
ونعود فنسأل كما سألنا من قبل: ولكن ما هو هذا الواحد الذي نلقي بأنفسنا عليه، ونسدد كل سهامنا إليه، ونصعد لعلنا نتملى منه؟
Unknown page