المدخلُ
إلى علمِ السُّنَنِ
للإمام أبي بكرٍ أحمدَ بن الحُسَين البيهقيّ
(٣٨٤ هـ - ٤٥٨ هـ).
رحمه الله تعالى
النَّصُّ الكامل
اعتنى به وخرَّجَ نقُولَه
محمّد عوّامة
المجلد الأوَّل
دارُ اليُسر
دار المنهاج
مقدمة / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة / 3
المدخلُ
إلى علمِ السُنَنِ
(١)
مقدمة / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين الموفق لكل خير، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين الداعي إلى كل خير، وعلى آله وأصحابه وأتباعه منارات كل خير، وعلينا معهم بفضل منك وكرم يا أكرم الأكرمين.
وبعد: فهذا هو كتاب "المدخل إلى علم السنن" للإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي الشافعي (٣٨٤ - ٤٥٨) رحمه الله تعالى، أحد أعلام السنة النبوية في الشرق الأقصى، كما كان الإمام أبو بكر أحمد ابن علي الخطيب البغدادي (٣٩٢ - ٤٦٣) رحمه الله تعالى في الشرق الأوسط، وكما كان الإمام أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النَّمَري القرطبي في الأندلس (٣٦٨ - ٤٦٣) رحمه الله تعالى.
ولكل واحد من هؤلاء الثلاثة، ومن سواهم من علماء الأمة الإسلامية، جهود مشكورة في خدمة العلم والدين، تغمدهم الله برحماته، فمنهم من توجّه لخدمة الدين من علم واحد، ومنهم من توجّه لخدمة الدين من علم واحد بفنونه وأبوابه، ومنهم من توجّه إلى علوم وفنون متعدّدة، وكان الإمام البيهقي واحدًا من رجال هذا الصنف الثالث، فقد كتب في الحديث الشريف رواية: الأربعون حديثًا الكبرى، والصغرى، وفي الحديث الشريف (أحاديث الأحكام): السنن الكبرى،
مقدمة / 5
والوسطى (معرفة السنن والآثار)، والصغرى، وصنف في أبواب من الآداب والأخلاق: الزهد الكبير، والصغير، والدعوات الكبير، والصغير، وصنف في أبواب من العقيدة: الأسماء والصفات - وهو أهمها -، والاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد، وهو أجمعها، على صغر حجمه، والقدر، وإثبات الرؤية، وإثبات عذاب القبر، وألف في المناقب والفضائل، أولها وأجلها: دلائل النبوة، وفضائل الصحابة، ومناقب الشافعي، ومناقب أحمد، وغيرها وغيرها.
* * *
أما كتابه "المدخل": فهذه كلمات عنه، وعن الأصلين المعتمدين في إخراجه، ثم كلمات أخرى عن طريقة إخراجه.
أما عن كتاب "المدخل": فينبغي الوقوف عند اسمه العَلَمي الدقيق، وأول ما يجب الاعتماد عليه: اعتماد تسمية المؤلف لكتابه في المقدمة - إن كان-، ومن وجه النسخة الخطية، وإلا فمما يكتب على وجه النسخ الخطية الأصلية، وعندي نسختان منه، الأولى تامة، والثانية قطعة منه تعدل ثلثه الأخير.
أما الأصل الأول: فقد أفادنا تسمية الكتاب من الطرفين، من كلام الإمام المصنف في المقدمة، ومن وجه النسخة الخطية.
فقد قال المصنف ﵀ بعد مقدمة طويلة في اللوحة العاشرة: "سميته: كتاب المدخل إلى علم السنن"، وجاء هذا على وجه النسخة: "الجزء الأول من كتاب المدخل إلى علم السنن، للبيهقي، إلى ثمانية أجزاء، كلها موجودة في هذا الكتاب، وبها يتم الكتاب إلى آخره". وتكرر
مقدمة / 6
هذا القول أول كل جزء: "الجزء الثاني من كتاب المدخل إلى علم السنن"، "الجزء الثالث .. "، وهكذا.
أما الأصل الثاني: فهو قطعة منه، تعدل ثلثه الأخير، وليس في أولها تسمية الكتاب، إنما جاء في خاتمتها تسميته: "آخر كتاب المدخل إلى كتاب السنن للإمام أبي بكر البيهقي ﵁ وأرضاه".
وقال الحافظ ابن كثير ﵀ في مقدمة كتابه "اختصار علوم الحديث" لابن الصلاح: "اختصرت ما بَسَطه، ونظمت ما فَرَطه ..، وأُضيفُ إليه من الفوائد الملتقطة من كتاب الحافظ الكبير أبي بكر البيهقي المسمَّى بـ "المدخل إلى كتاب السنن"، وقد اختصرته أيضًا" (١).
فهذا تأييد للاسم الذي جاء آخر الأصل الثاني، وتأييد آخر له: قال الإمام البيهقي نفسه في أوائل كتابه "معرفة السنن والآثار" ١: ٢١٥، وهو يتحدث عن كتابه المشتهر باسم "السنن الكبرى"، وسماه هو هناك: "سنن المصطفى ﷺ"، فقال: "وجعلت له مدخلًا في اثني عشر جزءًا"، فهو - إذًا -: المدخل إلى كتاب السنن الكبرى، أو: المدخل إلى كتاب سنن المصطفى ﷺ، وأشار إليه في مواطن أخرى في هذا الكتاب وغيره، وكان يذكره باسم "المدخل" فقط.
وواقع الكتاب - كما سيأتي إن شاء الله - لا يخالف أن يقال عنه: المدخل إلى علم السنن، أو: إلى كتاب السنن، أو: إلى كتاب السنن
_________
(١) ولم أقف على عمل علمي، أو خدمة علمية أخرى لهذ الكتاب سوى عمل الحافظ ابن كثير هذا. والله أعلم.
مقدمة / 7
الكبرى، لكن من المعلوم بداهة في فن تحقيق التراث التزام ما بين يدي محقق الكتاب من تسمية أو تسميات للكتاب مثبتةٍ على الأصل أو الأصول الخطية، ولا يحسن بحالٍ تجاوزها، مهما كانت مسوغات ذلك.
فالكتاب: كتاب المدخل إلى علم السنن، كما جاء أول الأصل الأصيل له، وبيْن صاحبِ النسخة ومالكها، وبين مؤلفه واسطة واحدة، فمالك النسخة هو الإمام أبو القاسم ابن عساكر، يرويه عن أبي المعالي الفارسي، عن مؤلفه الإمام البيهقي، وتكرر هذا الاسم ثماني مرات، أول كل جزء، كما قدمته قبل قليل، وكذلك سُمي مرة تاسعة وعاشرة في أحد سماعات الجزء الثاني، والثامن.
والمراد بكلمة (المدخل): أن دراسة هذا الكتاب - أيِّ مدخلٍ كان - ضرورية لأنها تمهيد وتأصيل للعلوم التي يتضمنها ذلك الكتاب، وإن شئتَ قلتَ: إعطاء فكرة عامة عن الكتاب وعن مصطلحاته، ودراسة لموضوعاته.
فـ "المدخل" الذي كتبه الإمام البيهقي لكتابه "دلائل النبوة": موضوعه: دراسة موجزة للكتاب ومنهجه فيه، و"المدخل" الذي كتبه شيخه الحاكم لكتابه "الإكليل": هذا موضوعه: دراسة موجزة، وبيان لمصطلحاته فيه. وهكذا وهكذا.
وكذلك "المدخل إلى علم السنن": فيه دراسة ومعارف لمن أراد الدخول على علم السنة النبوية والحديث الشريف، فهو بهذا يتفق مع كتاب "الكفاية في علم الرواية" للخطيب البغدادي، أي: من أراد الدخول على دراسة وقراءة كتب السنة النبوية فعليه أن يقرأ هذا الكتاب، ليتعرف
مقدمة / 8
على مناهج ومصطلحات علماء الرواية، ففيه "الكفاية" لطالب ذلك العلم.
و"المدخل" بهذا المعنى والدراسة يشابه كثيرًا ما صار يسمى عند علمائنا المتأخرين بـ "الختم"، وذلك حين يفرغ الشيخ من قراءة كتاب يعمل "ختمًا" لقراءته، ويدوِّن ذلك في كتاب، فيعرف- مثلًا- بـ "ختم صحيح البخاري"، وغيره، وقد يكون كتابًا من غير كتب السنة، مثل "ختم كتاب الشفا"، وهكذا، ويكون في هذا الختم دراسة عن الكتاب، لكن الفرق الجوهري بين (المدخل) و(الختم): أن المدخل دراسة بقلم مؤلف الكتاب الأصل، فهذا الكتاب الذي بين أيدينا كتبه البيهقي مدخلًا إلى كتاب آخر له، هو "السنن الكبرى"، أما ختم كتاب "صحيح" البخاري: فهو بقلم عالم قرأه أو قرئ على غير الإمام البخاري.
وفرق آخر: أن مما يكتبه كاتب (الختم) ثناء الأئمة على الكتاب ومزاياه، أما كاتب (المدخل) فلا يكتب ثناء على كتابه. والله أعلم.
وهذا "المدخل" هو مدخل إلى علم السنن، لكن كان الإمام البيهقي يلاحظ ملحظًا آخر زائدًا على ملحظ الخطيب، هو صلة كتابه هذا بكتابه الآخر "سنن المصطفى ﷺ"، وفيه أدلة الأحكام الشرعية، أو بمصطلحنا المعاصر: أحاديث الأحكام، وفيه (الفقه المقارن) خاصة مع الحنفية، فلا بدّ للقارئ فيه، أو: لا بد لقارئه من دراسةٍ ومدخلٍ على علم أصول الفقه، فجمع الإمام البيهقي بين الأبواب الضرورية لقارئ كتب الرواية عامة، وأحاديث الأحكام خاصة، مع الفقه المقارن، جمع بينهما في هذا (المدخل)، فجاء مدخلًا إلى علم أصول الحديث، وعلم أصول الفقه.
مقدمة / 9
وبما أنه كان يلاحظ صلة كتابه هذا بكتابه "السنن"، وهو كتاب جامع لأدلة مذهبه الشافعي، فإنه - لا ريب - كتاب في (المصطلح الشافعي) و(الأصول الشافعي)، وقد صرح بهذا المعنى في كلام له يطول نقله هنا، فينظر في كتابه "مناقب الشافعي" ١: ٦٩، ٧٠.
وبهذ الاعتبار كان هذا (المدخل) حجر أساسٍ في كتب المصطلح الشافعي لمن جاء بعده، إلى جانب كتاب شيخه أبي عبد الله الحاكم: "معرفة علوم الحديث"، وكتاب عصريه الخطيب "الكفاية"، لكن لهذين الكتابين الآخرين ذكرٌ أكثرٌ في كتب علوم الحديث، بسبب تناولهما أنواعًا وأبوابًا من علوم الحديث، أكثرَ من تناول البيهقي لها في هذا الكتاب.
* * *
ويمكن جعل أبواب هذا (المدخل) ثلاث زمر: اصطلاحية حديثية، وأصولية فقهية، وآداب العالم والمتعلم
وأول ذلك: حجية السنة، وتثبيت خبر الواحد، وأكّد على صحة رواية أربعة من الصحابة ﵃ جميعًا: ابن عمر، وأبي هريرة، وسمرة بن جندب، ومعاوية بن أبي سفيان، للبدعة التي كانت قائمة ظاهرة في بلده بيهق، ودخل بعد ذلك على أبواب خاصة في علوم الحديث: من يقبل خبره ومن يردّ، والرواية بالمعنى وبعض فروعها، والتدليس، والكذب، والتمييز بين الصحيح والسقيم، والمراسيل، ومن حدث ونسي، واستوعبت منه هذه المباحث ثلاث مئة صفحة، من صفحة ٧٥ إلى صفحة ٤٠٦.
ثم دخل على المباحث الأصولية: فتكلم عن الإجماع، والاجتهاد،
مقدمة / 10
والقياس، والعام والخاص، والأمر والنهي، ومفهوم المخالفة، والناسخ والمنسوخ، ومختلِف الحديث، وإبطال الاستحسان، والتقليد، واستوعبت هذه المباحث منه من صفحة ٤٠٧، إلى صفحة ٦٦٩.
ثم تناول الزمرة الثالثة: فضل العلم والعلماء، وآداب العالم والطالب، وعرض فيها لمسألة: كراهية كتابة العلم، ثم الرخصة فيه، وأخذ منه هذا الفصل الثالث من صفحة ٦٧٠ إلى صفحة ٨٨٦.
فهذه جملة مباحث الكتاب.
وهو بهذا الإجمال لأبوابه يشبه كثيرًا ثلاثة كتب معاصرة له: "جامع بيان العلم" لابن عبد البر، و"آداب الفقيه والمتفقه" و"الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" كلاهما للخطيب البغدادي.
* * *
أما موارده فيه: فأهمها وجلُّها في الزمرة الأولى والثانية هي كتب الإمام الشافعي: "الرسالة"، و"الأم"، و"المسند"، و"اختلاف الحديث"، و"أحكام القرآن".
ومنها الكتب في مناقب الإمام الشافعي: لشيخه الحاكم، والآبري، وابن أبي حاتم.
ومنها كتب الرواية: "المستدرك"، و"سنن" أبي داود، اعتمدها كثيرًا، فهو يروي الحديث من طريقها، وكثيرًا ما يعزوه بعده إلى الصحيحين أو أحدهما، وكثيرًا ما يروي الحديث من طريق الطيالسي، أو الحميدي، وغيرهما.
مقدمة / 11
ومن كتب التاريخ: اعتمد كثيرًا على "المعرفة والتاريخ" ليعقوب بن سفيان، وجاء عنده نقول عنه ليست في القسم المطبوع الأصلي منه، ولا في الزوائد الكثيرة التي استدركها محققه الفاضل الأستاذ الدكتور أكرم العمري حفظه الله وجزاه خيرًا.
وهذه أرقامها لتستفاد: (١٤٧، ٤١٧، ٤١٨، ٤٤٧، ٥٩١، ٧١٩، ١٢١١، ١٤٨٢، ١٦٢٨، ١٧١٨).
ووقفت عَرَضًا على خبر آخر في "الكفاية" ص ٣٧٧ تحت: باب القول في الرجل يروي الحديث يتقن سماعه إلا أنه لا يدري ممن سمعه.
وفي "شعب الإيمان" (١٠٧٣) روى البيهقي حديثًا من طريق يعقوب، ونقل عنه إعلاله إياه برواية يوسف بن السَّفْر.
* * * * *
مقدمة / 12
الأصل الخطيّ للكتاب، ومنهج إخراجه
اعتمدت في إخراج الكتاب على مخطوطتين، إحداهما تامة، وثانيتهما قطعة من آخره تعدل ثلثه الأخير، وكلتاهما أصل أصيل، معتمد بذاته، مقروء موثَّق، ويتفقان في أمر آخر، وهو أن أصل كلّ منهما نيسابوريّ البلد، ثم انتقل إلى دمشق، وتداولهما أئمة الحديث في دمشق: ابن عساكر وأسرته، وابن الصلاح ومدرسته.
أما الأصل الأول الخطي التام فهو: أصل وحيد- والله أعلم-، ومقرُّه في مكتبة آل البساطي بالمدينة المنورة.
وقد كنت قبل نحو سنتين سَعِدت بزيارة الأخوين الكريمين الشقيقين الأستاذ بكر البساطي، والأستاذ عمر البساطي حفظهما الله، وجزاهما خيرًا، قاصدًا زيارة مكتبتهم العامرة، وكنت أسمع بها وباحتفاظها بأصول خطية لكتب نادرة، ورأيت فيها كما كنت أسمع، ومما لفت نظري "المدخل" للإمام البيهقي، ومكتوب عليه ما يفيد أن النسخة كاملة، فرأيت أني حظيت بدرَّة نفيسة، فرجوتهما أكرمهما الله تصوير نسخة منه، فكان ذلك والحمد لله.
لكن عاقني عن المبادرة إلى إخراجه ثِقَل عملي بخدمة "تدريب الراوي" للإمام السيوطي ﵀، ولما قاربت الفراغ منه، رأيت الوقت مناسبًا للتوجه إلى إخراجه، وأسأل الله العون والتوفيق.
وهذه النسخة أصل أصيل عريق، تامّ مؤلَّف من ثمانية أجزاء حديثية،
مقدمة / 13
كل جزء ٤٠ صفحة، عدد لوحاته ١٥٩ لوحة، وصفحة واحدة ١٦٠/ أ، وبلدها الأول: نيسابور، بلدة أبي المعالي الفارسي، ثم انتقلت إلى دمشق حرسها الله وحفظها من هذه الفتنة العمياء، وسائرَ بلاد الإسلام، نقلها الإمام ابن عساكر، فقرئت في المسجد الأموي، وفي المدرسة الظاهرية، والرواحية، وغيرهما من دور العلم والحديث.
كتب على الصفحة اليمنى من اللوحة الأولى فهرس أبوابه بخط قديم سريع غير منقوط، ثم كتب على الصفحة اليسرى:
"الجزء الأول من كتاب المدخل إلى علم السنن، تصنيف الشيخ الإمام أبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي ﵀، مما أخبرنا به الشيخ أبو المعالي محمد بن إسماعيل بن محمد بن الحسين الفارسي، عنه، سماع علي بن الحسن بن هبة الله الشافعي، نفعه الله بالعلم منه".
وتحته بخط مغاير: "وهو بخط ولده الحافظ بهاء الدين أبي محمد القاسم ابن أبي القاسم علي بن الحسن بن عساكر"، وعمدة هذه الإفادة ما جاء في آخر الكتاب: "تم الكتاب بحمد الله ومنّه، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وآله وأصحابه أجمعين، ووقع الفراغ منه في العشرين من رجب سنة إحدى وأربعين وخمس مئة، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وكَتَب: القاسم بن علي بن الحسن بن هبة الله الشافعي".
وكان والده الإمام ابن عساكر يكتب بقلمه آخر كل جزء سماعه له بقراءة الإمام السمعاني، على أبي المعالي الفارسي، على مؤلفه البيهقي.
ومما يحسن ذكره: أن الإمام ابن عساكر رحل إلى نيسابور مرتين، كما قاله في ترجمة شيخه أبي عبد الله محمد بن الفضل بن أحمد الفَراوي، من
مقدمة / 14
كتابه "تبيين كذب المفتري" ص ٣٢٤ - ٣٢٥، وقال: "صحبته سنة كاملة، وغنمت من مسموعاته فوائد حسنة طائلة"، ومما تحمّله منه كتابا البيهقي: "الدعوات الكبير"، و"القضاء والقدر".
وغير هذا وذاك، التراث العظيم للإمام البيهقي: "سننه الكبرى"، و"معرفة السنن والآثار"، فقد تحمَّلَهما الإمام ابن عساكر ورجع بهما إلى دمشق، تحمّل "السنن الكبرى" عن زاهر بن طاهر الشحامي (٤٤٦ - ٥٣٣)، كما هو ظاهر فيما أُثْبتَ في ١٠: ٣٥١ من "السنن" من كلام ابن الصلاح، وتحمل "المعرفة" عن أبي محمد عبد الجبار بن محمد الخُوَاري البيهقي (٤٤٥ - ٥٣٦)، كما هو في مقدمة النسخة المطبوعة منه.
ومما يُنَوَّه به: أن هذا الكتاب تسلسل سماعه في هذه الأسرة الكريمة، فأولهم الإمام أبو القاسم، ثم ابنه أبو محمد القاسم، ثم ابنه علي (الثاني)، ئم ابنه (النجيب أبو محمد القاسم) الثاني، كما جاء في سماعات الجزء الأول ص ٥، ورحم الله تسلسل خدمة العلم والدين في الأُسَر والعائلات الإسلامية.
ثم كُتب عدّة تملكات، أحدها للعلامة أحمد ابن العجمي (١٠١٤ - ١٠٨٦) ﵀، صاحب الحواشي التي كتبها على نسخته من "تدريب الراوي"، وقد جرَّدتها بتمامها وطبعتها في التعليق على "التدريب"، وهو صاحب "الثبَت" الذي طبعته أيضًا مع مقدمات "التدريب".
وكأن هذه النسخة الأصيلة كانت ضمن مجموع كبير، أو هي في مجلد واحد مع كتب أخرى، يدل عليه: ما كُتب على هذا الوجه:
مقدمة / 15
فيه: المدخل، كامل، وفيه: [؟؟] (١)، وصحيح إمام الأئمة أبي بكر ابن خزيمة، ولم يكتب معه ما يفيد أن الموجود منه قطعة أو أبواب خاصة منه، فهل كانت النسخة تامة؟ .
وكان يُكتب في خاتمة كل جزء سماعاتٌ طويلة، ويهمني هنا أولها، ونصه: "بلغتُ من أول هذا الجزء سماعًا بقراءة الشيخ الإمام أبي سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني، على الشيخ أبي المعالي الفارسي، وسمع محمود بن ميمون الدبوسي، في جمادى الأولى سنة ثلاثين وخمس مئة بنيسابور، في مسجد بقرب مدرسة أبي علي الصَّنْدلي، وكَتَب: علي بن الحسن بن هبة الله الشافعي، بخطه، وصحّ، والحمد لله".
ونحو هذا في خاتمة كل جزء، إلا أنه أرّخ سماع الجزء الثالث بشهر جمادى فقط، وترك بياضًا بعده، ولم يقيده بالأولى أو الثانية، وهكذا إلى سماع الجزء السابع، أما الثامن فقيَّده بجمادى الآخرة، ويستفاد من "السير" ٢٠: ٤٥٧ أن هذا كان أوائل رحلة السمعاني إلى نيسابور.
ويلاحظ أن القارئ هو الإمام أبو سعد السمعاني (٥٠٦ - ٥٦٢) ﵀، وتاريخ هذا السماع سنة ٥٣٠، فيكون عمر السمعاني حينئذ أربعة وعشرين عامًا، ومع ذلك يصفه ابن عساكر في السماعات الثمانية بالشيخ الإمام، ويصف أبا المعالي الفارسي فيها كلِّها أيضًا بالشيخ فقط، وكان تاريخ ولادته ووفاته (٤٤٨ - ٥٣٩) ﵀، فعمره وقت السماع ثنتان وثمانون سنة، وترجمه الذهبي في "السير" ٢٠: ٩٣ ووصفه بقوله:
_________
(١) كلمات غير واضحة في المخطوط.
مقدمة / 16
الشيخ الثقة الجليل المسند، ولما ترجم للسمعاني ٢٠: ٤٥٦ وصفه بقوله: الإمام الحافظ الكبير الأوحد الثقة محدث خراسان، فرضي الله عن علمائنا الأمناء على منحهم الألقاب العلمية بدقة.
ومع هذا السماع سماعات متعددة قصيرة، أو بلاغات كُتبت على الحواشي، لكن هناك سماعات كثيرة طويلة، جمعتها وأثبتُّها آخر الكتاب.
ومما ينبغي التنبيه إليه أمران، أولهما: أنه وجد في هذا الأصل الحفيل عدد يسير جدًا من الأوراق فيه تقديم وتأخير، لم يؤثر ولم يضرّ، وتم ترتيبها بكل دقة، والحمد لله.
ثانيهما: أنني قدمت قول الإمام البيهقي في أوائل كتابه "معرفة السنن والآثار" ١: ٢١٥، وهو يتحدث عن كتاب "السنن الكبرى": "جعلت له مدخلًا في اثني عشر جزءًا"، وقدمت معه أيضًا ما كتب على وجه الجزء الأول، قبل الورقة الأولى حسب ترقيمها في الأصل، وبخط قديم: "الجزء الأول من كتاب المدخل إلى علم السنن للبيهقي، إلى ثمانية أجزاء، كلها موجودة في هذ الكتاب، وبها يتم الكتاب إلى آخره".
وسببه: اختلاف تجزئة الفرع، عن تجزئة الأصل، وقد جاء على حاشية الأصل الأول عند الحديث (٣٠٠) ما نصه: "آخر الثالث من الأصل" أي: أصل المصنف، لكن جاء هذا في الورقة ٣٥/ أ، أي: عند ما يعادل ثلاثة أرباع الجزء الثاني من هذا الفرع أ، فهذا يشير إلى اختلاف تجزئة الفرع عن تجزئة الأصل، وانظر التعليق على (٧٤٥).
ومن المهم معرفته في أمر هذا الأصل: ترجمة خمسة رجال: المصنف: الإمام البيهقي، والراوي المباشر عنه: أبو المعالي الفارسي،
مقدمة / 17
والراوي عنه: الإمام ابن عساكر، والقارئ للكتاب على أبي المعالي: الإمام أبو سعد السمعاني، وصاحب النسخة: أبو محمد القاسم ابن الإمام ابن عساكر، ومما يذكر لأبي محمد هذا: أنه سمع "المدخل" على أبيه، وحصلت له الإجازة به من أبي المعالي، وكان عمره يوم السماع ثلاث سنين، أما حين وفاة أبي المعالي فكان عمره اثنتي عشرة سنة.
أما البيهقي وابن عساكر وأبو سعد السمعاني: فالتعريف بهم - إن لم يأتِ بجديد-: منكر من القول وفضول.
وأما أبو المعالي: فترجمه الذهبي في "السير" ٢٠: ٩٣، وحلّاه بما قدمته: الشيخ الثقة الجليل المسند، وترجمه في "تاريخ الإسلام" ١١: ٧١٧ وما حلّاه بشيء إلا أنه نقل قول السمعاني فيه: ثقة مكثر، وهو في "السير" أيضًا، وذكر بعض شيوخه، ومنهم البيهقي قرأ عليه "السنن الكبرى"، و"المدخل"، وبعض تلامذته، ولم يترجمه مع الحفاظ في "التذكرة"، ولهذا ملحظ علميّ.
وأما القاسم ابن الإمام ابن عساكر: فترجمه الذهبي في كتبه الثلاثة: "التذكرة" ٤: ١٣٦٧ وقال: فيه: الحافظ المحدث الفاضل، و"السير" ٢١: ٤٠٥ وقال فيه: الإمام المحدث الحافظ العالم الرئيس، و"تاريخ الإسلام" ١٢: ١٢٢٤، وحلّاه فيه: الحافظ المفيد المسند الورع، وأرخ ولادته ووفاته (٥٢٧ - ٦٠٠) ﵀، لكن ذكره في جزئه "ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل" (٦٣٥) وقال فيه: "ما هو بحافظ، بل له مشاركة قوية".
ويهمني من سيرته ما حكاه في "التذكرة" - وبنحوه في الكتابين
مقدمة / 18
الآخرين - قال: "كان محدثًا صدوقًا متوسط المعرفة، مكرمًا للغرباء، له أُنْسة بالحديث، وخطه ضعيف ردئ، قال الحافظ المنذري: قلت لشيخنا ابن المفضَّل: أقول: حدثنا القاسم بن عليٍّ الحافظِ- بالكسر- صفة لأبيه؟ فقال: قل بالضم، اجتمعت به بالمدينة فأملى عليَّ أحاديث من حفظه، ثم بعث إليَّ أصوله فقابلتها فوجدتها سواءً".
وفي "التذكرة": ذَكَر عبد الرحمن بن مقرَّب، المتوفى سنة ٦٤٣، عن نَدَى الرضيّ- رضي الدين الحنفي المتوفى سنة ٦٠٤ - قال: قرأت على بهاء الدين القاسم ابن عساكر، فقلت: عن ابن لَهيعة، فردَّ عليّ بالضم، فراجعته، فلم يرجع. قلت- هو الذهبي-: من ضَمّ مثل هذا ضُمَّه إلى الشيوخ لا إلى الحفاظ.
وعلّق الذهبي أيضًا في "السير" على قصة المنذري مع شيخه ابن المفضل بقوله: وبمثل هذا يوصف المحدث في زماننا بالحفظ، وعلق عليه في "تاريخ الإسلام" فقال: ليس هذا هو الحفظَ العرفي.
قلت: قول الذهبي: ضُمّه إلى الشيوخ، يريد: ضمّه إلى الرواة، لا إلى علماء الحديث ذوي الدراية، وأيضًا: فينبغي القول فيه: إن من يغلط في ضبط (لَهيعة) ويصرّ فلا يرجع، ينبغي أن يقال فيه: هو في أول الطريق، لا في نهايته، بحيث إنه يقرأ عليه! ! أو أن يُحمل الخبر على محمل مقبول، بأنْ كان ﵀ في حال نُعاس، أو إرهاق شديد، ونحو هذا.
ومما يتصل بالكلام عن خطه ﵀: ما نقله الذهبي أيضًا عن "التقييد" لابن نقطة ٢: ٧٧٤، قال: "كَتَب الكثير، إلا أن خطه لا يشبه خط أهل الضبط والإتقان"، وقال الذهبي من عنده في "السير": خطّه نادر
مقدمة / 19
النقط والشكل.
قلت: أما الشكل والضبط والتقييد: فنعم، وأما النَّقْط: فأقول: عما رأيته في هذا الأصل: إن النقط في الكتاب مناسب لتاريخه: (٥٤١)، والله أعلم، ومعلوم أنه كلما تقدم تاريخ الخطّ، قلّ النَّقْط.
وأيضًا: وصفُ الذهبي لخطه بأنه ضعيف رديء: قد يكون هذا الوصف لخطه المتأخر قليلًا عن هذا الخط، فخطّه هنا جيد متمكّن فيه، لأنه في سنّ اليَفَاعة، وفي أول - أو: أوائل - توجهه لكتابة الكتب ونسخها، وقد وصفه الذهبي نفسه - وغيره ممن سبقه - بأنه كتب الكثير، ومَن كَتَب كثيرًا تعجّل في الكتابة حتى تصير له العجلة عادة وديدنًا، أما في مرحلة البداية فيجوِّد الخط ويتقنه.
وفي هذه النسخة - وهي كما تقدم بخطه - تحريفات، وبعضها على قلَّته، فاحش، لكن قد يشفع له فيها كونه كان في سنّ مبكرة: له من العمر أربع عشرة سنة، كالذي يجده القارئ في التعليق على (٧٧، ٥٣٧، ٥٩٤، ٥٩٧، ٦٧١، ١٠١١، ١٠٢٤).
مع ما فيها من معالم الجودة والضبط على قواعد المحدثين.
ومن المستحسن تلخيص ما تقدم:
النسخة أصل أصيل قديم، مالكها: الإمام أبو القاسم ابن عساكر (ت ٥٧١) بقراءة ابن السمعاني (ت ٥٦٢)، سماعًا على أبي المعالي الفارسي (ت ٥٣٩)، وتاريخ السماع سنة ٤٥٦، عن مؤلفه الإمام البيهقي (ت ٤٥٨)، وناسخها: القاسم ابن الإمام ابن عساكر (ت ٦٠٠)، وكان عمره سنة نسخه إياها أربع عشرة سنة.
مقدمة / 20
والنسخة: صرّح ناسخها أنها تامة، لكنها في ثمانية أجزاء، مع تصريح مؤلفها الإمام البيهقي أنها في اثني عشر جزءًا.
وفي خاتمة كل جزء سماع الإمام ابن عساكر له على الفارسي بقراءة السمعاني، ثم بعده سماعات كثيرة وطويلة، تأتي إن شاء الله مجموعة آخر الكتاب، وعليها بلاغات كثيرة، وسماعات قصيرة، أثبتُّها في مواضعها.
وعدد لوحاتها ١٦٠ لوحة إلا نصف لوحة، وهي تعدل ٣١٩ صفحة.
وكُتب فوق عنوان كل جزء: "مفروغ حسن بن إسماعيل بن الحسن الإسكندراني، نسخًا وسماعًا وعرضًا"، أي: فرغ من نسخه وسماعه وعَرَضه فلان. وبجانبه- إلا الجزء الأول-: "فرغه وما قبله سماعًا وعرضًا إسماعيل بن عبد الله ابن الأنماطي، بدمشق".
هذا، وكثيرًا ما أذكر هذه النسخة في التعليق باسم: الأصل، أو برمزها: أ.
* * *
أما الأصل الثاني: فكان مقرُّه أيضًا في عاصمة العلم والعلماء: دمشق، لكنه الآن في مدينة كلكتا من مدن الهند، بين مخطوطات الجمعية الآسيوية، والموجود المحفوظ منه نحو ثلثه الأخير: سبع وخمسون ورقة، يبدأ من أثناء الخبر ذي الرقم (١٠٨٦)، وينتهي بآخر الكتاب.
قرئ على الأخ الأكبر للإمام ابن عساكر، وهو- كما وصفه الذهبي في "السير" ٢٠: ٤٩٥ -: الشيخ الإمام العالم الفقيه المفتي المحدث صائن الدين أبو الحسين- أو: أبو الحسن- هبة الله بن الحسن بن هبة الله بن
مقدمة / 21