ولكن النواطير (الشوابصة) الذين كانوا في القرى المجاورة حملوا جثة القتيل، وجاءوا بها إلى زحلة ومروا بها صباحا في وسط البلدة والناس متجمهرون، فساروا بأسلحتهم من فورهم وهم نحو ألف بينهم نحو ثلاثمائة فارس مدججين بالأسلحة يقصدون بريتان. والأرقش أعاد الرسول حالا إلى الأمير يخبره بما جرى مما جدد ثورة الأهلين، فزحفوا إلى بريتان استثآرا بقتيلهم، فكتب الأمير إلى الأرقش ما معناه: «بلغ محبينا أهل زحلة وقد خرجوا من بلدتهم للقتال أنهم إذا عادوا مكسورين أحرق بلدتهم.» فأرسل إليهم جواب الأمير وهم زاحفون على الطريق، فقرأوه وازدادوا حماسة ونزلوا على بيادر قرية «طليه» يوم الجمعة في 27 أيار سنة 1855، فقدم لهم نصارى تلك الجهات حاجاتهم من أكل وعلف للخيول، وأمر الأمير سلمان الحرفوشي حاكم بعلبك جميع المتاولة أن لا يعترضوا الزحليين ولا يقاتلوهم.
وكان الأمير محمد الحرفوشي مع ألف وخمسمائة مقاتل مسلحين ومحاصرين في بريتان. فقال لقومه: إذا جاءكم الزحليون ثلاث فرق فلا تحاربوهم؛ بل أخلوا لهم القرية، وإن جاءوا جمهورا واحدا قاتلوهم.
وكان شيوخ الزحليين قد رتبوا المقاتلين ثلاث فرق من مشاة وفرسان، ولكل فريق زعماء يديرون حركاته. فظهروا صباح السبت في 28 أيار سائرين ثلاث فرق منظمة، فلما رآهم الأمير محمد الحرفوشي فر بأنسبائه ورجاله إلى المغاور المجاورة واختبأوا فيها، فزحف الزحليون على بريتان من ثلاث جهات من جهة سرعين جنوبا ومن ناحية بعلبك شمالا والباقون من الغرب (أي من جهة زحلة)، وهؤلاء كانوا معظم فرسانهم المدربين على القتال. فدخلوا القرية من الجهات الثلاث وأحرقوها وعادوا منتصرين ولم يقتل منهم أحد.
40
فأرسلوا قبل وصولهم إلى زحلة أحدهم فارس طعمة السكاف يحمل إلى الأمير بشير بشائر انتصارهم فخلع عليه ووهبه كيسا «خمسمائة غرش» وبعث يهنئهم.
وسنة 1856م شرع المطران متوديوس صليبا الأرثوذكسي المذكور آنفا ببناء الدار الأسقفية قرب كنيسة القديس نيقولاوس. وجرى بينه وبين الطائفة الكاثوليكية خلاف شديد حل بواسطة عقلاء الطائفتين، ولا سيما أبو عساف الحاج شاهين، وأبو علي المعلوف. وصارت زحلة من هذا الحين مقر كرسي أسقفية أرثوذكسية، واتفق أسقفها هذا مع السيد باسيليوس شاهيات الكاثوليكي على ترقي أبنائها والسعي بعمرانها وتقدمها، فكانا يدا واحدة في العمل وكان أبناء الطائفتين متعاهدين على الموالاة والمصافاة.
وفي تلك الأثناء كان الأمير بشير أحمد مستاء من الزحليين لما حدث له في بلدتهم، فصار يصادرهم وكان شيوخ زحلة وزعماؤها يودون إدارة شئون بلدتهم بنفسهم كما اعتادوا، فعقدوا مجلسا قرروا فيه طرد نقولا الأرقش الذي أرسله الأمير شيخا عليهم واستعادة المشيخة لهم. وكان الأرقش قد وضع عنده نحو ثمانية محافظين (نواطير) يستخدمهم في إدارة شئون البلدة وحفظ عقاراتها، فبدأ الزحليون يناوئونهم، ويصدونهم عن إنجاز ما ينتدبهم الأرقش إليه حتى أغاروا على جهات عين الدوق وبحوشه ، وامتلكوا أراضي الأمراء اللمعيين في زحلة وجوارها، ولا سيما في الصرود (الجرود) ورفعوا يد النواطير عنها، ثم هجموا على نقولا الأرقش وطروده واستعادوا المشيخة، فتكدر منهم الأمير بشير وبعض أنسبائه اللمعيون الذين كان لهم السيطرة على الزحليين، ولهم في بلدتهم عقارات وأبنية كثيرة. فصار الزحليون في ذلك الحين مبغوضين من الدروز والمتاولة وقنصل إنكلترة والأمراء للأسباب التي مر تفصيلها، فضويقوا من ذلك، واعتمدوا على أنفسهم بجميع أعمالهم، وأقاموا قاضيا منهم وكل شيخ عين رجلين من قبله سميا ضابطين، كانوا يدفعون رواتبهم من جيوبهم الخاصة، واتخذوا لهم ختما مركبا من قطع على عددهم يأخذ كل منهم قطعة، فلا يختمون به إلا عند اجتماعهم، وفي مكتبتي أوراق ممهورة باسم «وكلاء عموم زحلة» تتضمن وصاة. وهكذا كانت زحلة في تلك الأثناء يحكمها مجلس بلدي من زعمائها، وكانت منحازة إلى الأمير بشير عساف مناظر الأمير بشير أحمد في الولاية ، فسعى هذا لدى خورشيد باشا والي صيداء وبيروت بمصادرة الزحليين، فأرسل يتهددهم بالاحتلال العسكري إذا بقوا مخالفين لقائم المقام.
41
وفي أوائل أيار سنة 1858م جاء زحلة المستر «ر. ج. ددس
R. J. Dodds » المرسل البروتستاني مع أسرته لتأسيس رسالة إنجيلية فيها، فقام سكانها وطردوه، ولولا نعمان المعلوف الذي كان مستأجرا بيته لحدث ما لا يحمد، فغادر المرسل زحلة مستاء من معاملة سكانها، وشكا أمره إلى قنصل إنكلترة فتغير هذا على الزحليين.
Unknown page