وفي هذه الأثناء صارت زحلة محل تجارة الغلال التي كان الزحليون يبتاعونها من حوران وحمص وجبل القلمون (بلاد الشرق)، وكثرت فيها أسواق البيع والشراء وازدحمت فيها الأقدام. وكان سكانها يشترون الأغنام من حمص ومن العرب في البقاع وبعلبك وما إليهما. وشاعت فيها صناعة النسج حتى اشتغل بها نحو جميع سكانها، وكانوا يحملون المنسوجات إلى نواحي حوارن ونابلس وحمص وبعض الجهات ويجلبون القطن فيغزلونه وينسجونه، وأهم منسوجاتهم الخام البلدي الذي كانت النساء تطرزه بالحرير أكسية للرجال والنساء. وكان عندهم خان يسمى «خان القطن» في حارة بني غرة الآن، فضلا عن اتجارهم بالقطران وغيره، فلما كثرت فيها الحركة التجارية والصناعية راجت سوقها، فطمع بها الدروز الذين كانوا فيها وفي البقاع فاتخذوها موطنا لهم، وكان الأمراء إذ ذاك يعضدونهم؛ لأنهم لم تنتشر المسيحية بينهم انتشارا كاملا، وكان حاكم لبنان يطلب المال الأميري من الأمراء والنواطير الدروز تجمعه؛ فتضايق الزحليون من هذه المصادرة والتثقيلات، وكانت عمشاء القنطار وأنسباؤها يعيثون في هذه البلدة فسادا واستبدادا، ولن يزال الناس يتناقلون أخبارهم الهمجية إلى الآن.
ولما كانت كثرة الضغط تحدث انفجارا أخذ الزحليون يستحثون قواهم ويجمعون كلمتهم وشتاتهم للتملص من هذا الاستبداد، فكانوا يعقدون الجمعيات ويتشاورون في اتخاذ أقوم الذرائع للضرب على أيدي مناوئيهم، وكان شيوخهم ذوي تدبير وسداد رأي، فرأوا من الحكمة أن يوالوا حاكم لبنان وينالوا لديه الحظوة ليتمكنوا من نيل متمناهم، فانتهزوا فرصة غضبه على الحواطمة وبعض الدروز.
ولما كان الخلاف مستفحلا بين الأمير بشير الشهابي الكبير وأولاد عمه أبناء الأمير يوسف الشهابي، وكان الزحليون ينتمون إذ ذاك إلى هؤلاء؛ لأنهم أصدقاء الأمراء اللمعيين استاء الأمير بشير من الزحليين، وهو معروف بحزمه وشدة انتقامه؛ فاجتمع وجهاء زحلة وشيوخها مرارا لإعداد الذرائع التي تخلصهم من الجور المحدق بهم، فلما رأوا الخلاف بين الأمير بشير والحواطمة وبعض الدروز؛ اغتنموا الفرصة وأخذوا يتحفزون للقيام على الدروز الذين أرهقوهم ولا سيما بني القنطار.
وفي سنة 1795 اشتد الخلاف بين الأمير بشير الشهابي والجزار، فجاء عسكر الجزار إلى البقاع، وكان يعيث فيه فسادا فنقل الزحليون أمتعتهم إلى الجبل، لكثرة ما نابهم من التحامل والضرائب والانتقام الذي عم البلاد ومصادرة الأمير بشير للأمراء اللمعيين أصحاب زحلة، فبحث الأمير بشير عن مستودعات أمتعة الزحليين، وضبط كثيرا منها في دير النبي إلياس شويا الأرثوذكسي قرب الشوير في متن لبنان. وكذلك في دير القديس يوحنا الصابغ في الخنشارة بجواره، وفي دير سيدة النياح في بقاع توته من أعمال كسروان قرب بسكنته وهما للكاثوليك، فازداد الزحليون كرها له، وكذلك كان كثير من اللبنانيين يميلون مثلهم إلى أولاد الأمير يوسف.
وفي هذه السنة تولى أولاد الأمير يوسف حكم بلاد جبيل من خليل باشا والي طرابلس الشام، فحاربهم عسكر الجزار بإشارة الأمير بشير. فهربوا وجاءوا زحلة وأرسل والي الشام الملا إسماعيل لنجدتهم، فأرسل الأمير بشير عسكرا من لبنان مع عسكر الجزار، وشبت الحرب في أراضي قب إلياس، فانهزم الملا إسماعيل وأولاد الأمير يوسف فروا من زحلة إلى بلاد بعلبك فدمشق، وقتل في هذه الموقعة الشيخ نمر النكدي وغيره.
وفيها فرضت الشاشية على كل شخص ثلاثة غروش، وصار على أثرها ضريبة فادحة، وكان ثمن كيل الحنطة في البيادر من ستة غروش إلى سبعة، ثم تناقص فرجع إلى الخمسة. وأتى جراد من الجنوب فأتلف المزروعات ورز في الأرض، فسلط عليه السمرمر في شهر حزيران فأفناه، وتضايق الزحليون واللبنانيون.
وفي أوائل سنة 1796م سام البطريرك كيرلس سياج القس باسيليوس جبلي المخلصي من يبرود أسقفا على زحلة باسمه، واستقدم إليه شقيقه فسكن زحلة وعرفت سلالته ببني المطران، وسكنوا في الحارة السفلى (التحتا).
38
وفي سنة 1797م شاع قدوم نابليون بونابرت ملك فرنسه إلى مصر، فخاف المسيحيون ولا سيما سكان دمشق وجاء كثير منهم زحلة، ولبثوا فيها زمنا وعمر أحدهم مسكنا قرب الدار الأسقفية، ثم عادوا إلى مدينتهم لما سكنت الخواطر.
وفيها كان الزحليون مرهقين من بني القنطار وحاطوم، وكان الأمير بشير حاقدا عليهم لا يقبل لهم شكوى على مستعبديهم، فانفتح لهم مجالا؛ لأن بعض المسيحيين في زحلة وبلاد بعلبك قاموا على بني مكارم الدروز في ماسة (البقاع)، واشتد الخلاف بينهم وامتد إلى لبنان حتى انتهى بطرد المكارميين وغيرهم من قرى بعلبك والبقاع إلى لبنان كما فصلت ذلك في كتابي «دواني القطوف». وبقي الخلاف بضع سنين اضطرب فيها حبل الأمن، وانكسرت شوكة الدروز، وجاء زحلة بعض الأسر مثل بني عطا وغيرهم من جبل القلمون ولبنان ورأس بعلبك.
Unknown page