Madina Fadila
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
Genres
وأما عن المواسم المدنية، فقد بدأت بالاحتفال الأول بذكرى الاستيلاء على الباستيل، وكان الاحتفال في (14 يوليو سنة 1790) وبحركة إزالة الآثار المسيحية، وبالاحتفال «بالعقل» في نوفمبر 1793 - وكانت هذه خطوات تجريبية تمهيدية لاستبدال دين مدني - إن جاز لنا أن نقول - بالمسيحية، ويطلق عادة على احتفال نوفمبر الاحتفال بالعقل، وبسبب هذه التسمية لوحظ أن اختيار سيدة من سيدات المسرح لتكون رمزا لشيء تجريدي بارد كالعقل، لم يكن اختيارا موفقا تماما، ولكن في الواقع أن الاحتفال لم يكن بالعقل، وإنما كان بالحرية، وأن السيدة المشار إليها كانت في الحقيقة تمثل الحرية (فيكون إذن الاختيار في محله)، أما تمثيل معنى العقل فكان بالمشعل الذي رفعته السيدة في يدها إلى أعلى، والمقصود أن العقل نور تمشي به الحرية، ومهما يكن، فإن الأنشودة التي وضعها الشاعر ماري جوزيف شينييه للاحتفال وترنم بها المحتفلون في كنيسة نوتردام بعد تجريدها من آثار المسيحية تعبر أصدق تعبير عن المقصود.
قال الشاعر:
اهبطي أيتها الحرية، وليدة الطبيعة، فها هو ذا الشعب وقد استرد لك قوتك الخالدة، يقيم لك من جديد مذبحا على أنقاض دولة الدجل ذات المظهر الفخم، أقبلي يا محطمة الملوك، يا قدوة أوروبا بأسرها، أقبلي وأتمي تحطيم الآلهة الكاذبين، أقبلي واسكني في هذا المعبد، وكوني إلهة هذا الشعب.
47
ومع ذلك فقد عيب على احتفال نوفمبر - وهذا لأسباب ليس هناك ما يدعو لأن أقف لبحثها - أنه غلب عليه «الإلحاد»، والإلحاد كما يقول روبسبير عيب أرستقراطي لا يمكن اغتفاره، وعلى هذا رسمت الحكومة في مايو سنة 1794 بتحديد أوضاع الدين الجديد، وأطلقت عليه عبادة الكائن الأعظم كما يلي:
تشهد الأمة الفرنسية أن الكائن الأعظم موجود، وأن النفس خالدة، وتشهد أن العبادة الخليقة بالكائن الأعظم هي أن يؤدي المواطن واجبات الإنسان، وتعين في الصف الأول من هذه الواجبات بغض الخيانة والطغيان وإنزال العقاب بالطغاة والخونة وعون البائس واحترام الضعيف والذود عن المظلوم، وأن يفعل لغيره كل خير ممكن، وألا يظلم أحدا، وتقرر الأمة إنشاء مواسم لتذكر الناس بالإله وبجلالة قدره، وأن يطلق على هذه المواسم أسماء تؤخذ من حوادث ثورتنا المجيدة، ومن أحب الفضائل وأنفعها لبني الإنسان ومن نعم الطبيعة الكبرى عليهم، وتقرر الأمة الفرنسية أن تحتفل الجمهورية كل عام بذكرى 14 يوليو 1789 و10 أغسطس 1793 و21 يناير 1793 و31 مايو 1793، كما تحتفل عاشر كل عشرة أيام بالمواسم الآتي بيانها.
48
ولا حاجة بنا إلى أن ننقل هذا البيان، وقد نص كما كان ينبغي له على الاحتفال بالحرية والمساواة وحب الوطن وبغض الطغاة والتزام حد الكفاف ورباطة الجأش والزراعة والخلف؛ وهكذا إلى آخر ما يلزم جميع عشرات السنة؛ أي ستة وثلاثين موسما، وبعد أن أنفذت الثورة فورتها فقد دين الإنسانية الجديد الشيء الكثير من حرارة عاطفته وحدة غلوائه، ولكنه مع ذلك ظل قوة لها أثرها في بعض الحركات الثورية الصغيرة في أوروبا وفي العالم الجديد، وكان لدين الإنسانية صحوة أخرى قوية سبقت وتخللت ثورات سنة 1848 وما لازمها من إخفاق وجلال معا، بل إن دين الإنسانية على الرغم من كل ما أصابه، بقي له أولياء أمناء على العهد يخلب لبهم رواؤه، وتمدهم روحه باليقين والرجاء، وكان مازيني نبي هؤلاء،
49
كما كان منهم رجال مغمورون قص علينا جبريل مونو طرفا من سيرة واحد منهم، والسيرة تسترعي النظر، قال: «كنت منذ أربعين عاما أتردد على منزل امرأة فاضلة لتناول طعامي، وحدثتني عن أبيها حديثا لم أنسه، قالت: إن أباها كان عاملا بسيطا في مدينة نانت، وحينما بدأت الثورة الفرنسية كان شابا في مقتبل العمر، واعتنق مبادئها وتحمس لها وحارب في صفوف اليعاقبة ضد الخارجين على الثورة من أبناء إقليم لافانديه، وحزن كثيرا لما حطم النظام الإمبراطوري الحريات الديمقراطية التي اشترتها الأمة الفرنسية بثمن غال، وعاش الرجل بعد ذلك، وكان كلما ثارت الأمة الفرنسية كما في 1814 و1830 و1848 تحرك فيه الأمل بأن الجمهورية المثالية التي كان يحلم بها في سنة 1793 سوف تبعث من جديد، ومات في عهد الإمبراطورية الثانية، وقد نيف على التسعين، ولما حضره الموت نظر نحو السماء، وتأوه قائلا بصوت خافت: أيا شمس 1793 ها أنا ذا أموت دون أن أرى شعاعك ثانية، وقد عاش الرجل ما عاش وهو يتطلع - كما عاش المسيحيون الأوائل - إلى انبثاق فجر العهد الجديد.»
Unknown page