Madina Fadila
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
Genres
أو بيكون لهوا بريئا وبين إعدادها لسياسة الغد في فرنسا، وفونتنيل يعد الاعتقاد في إمكان هذا وهما من قبيل ما توهمه السذج عن الكمال الذي كان للإنسان في جنة عدن، ولكن هذا هو الذي حدث، أدى إليه سخط الناس وبرمهم بسوء أحوالهم الاجتماعية، فأصبحت فكرة السعادة الأوتوبية التي تسلى بها الناس أزمانا عن ضيق حياتهم وخيبة سعيهم وحبوط أعمالهم شأنا من شئون السياسة العملية لتحقيق ما كانوا يرجونه من بعث مجتمع جديد، وهكذا تطورت الفكرة الأوتوبية: بدأت متحدة بفكرة العصر الذهبي في جنة عدن أو بفكرة النعيم المقيم في الدار الآخرة، ثم توهمها الكتاب الضجرون بالحضارة الأوروبية إما قائمة في ديار خيالية أو في ديار غير الأوروبيين (في القمر أو في أطلانتيس أو في لا أين أو تاهيتي أو بنسلفانيا أو بيكين )، ثم انتهى بها المطاف إلى فرنسا في العصر السابق للثورة كما بينا.
ولنتبعها في طورها الأخير قبل الثورة في كتابات الفلاسفة، وينبغي ألا نقصر المراجعة على الكتابات المشهورة في موضوع التقدم المطرد بالذات - من أمثال رسائل ترجو ورسالة لسنج «تربية الجنس البشري»، وكتاب هردر «أفكار في فلسفة التاريخ البشري»، ورسالة كوندرسيه «معالم تقدم العقل البشري»
21 - ولكن ينبغي أن نرجع إلى كتب لغيرهم من الفلاسفة لا تعالج موضوع التقدم بالذات؛ إذ إن هذه لا تقل دلالة عن تلك التي ذكرنا، وهذا لأن الفلاسفة عموما كانت تشغلهم كثيرا مسألة التقدم المطرد وقابلية الإنسان للكمال ومصير الإنسان، وهذا الاهتمام يقترن اقترانا وثيقا باهتمامهم بالتاريخ، فكان الماضي والحاضر والمستقبل عندهم جوانب ثلاثة لشيء واحد هو شغلهم الشاغل ألا وهو الحاضر، ذلك الحاضر الذي يرغبون في تبديله إلى ما هو أحسن منه، ومن ثم كان التماسهم الحجج لتعليل رغبتهم وتبرير سخطهم ووجوه استنكارهم، ومن ثم كان مدهم نطاق الحاضر الكاذب فوصلوه بالعصور جميعا، وتبينوا بذلك أنه ليس إلا فترة شقاء زائل بين فترات تاريخ البشرية جمعاء.
3
ولما أخذ رجال الإصلاح على عاتقهم أن يبعثوا مجتمعهم من جديد قدروا أن الخلف من بعدهم سيقدر عملهم ويشكر فضلهم، فانتظر هؤلاء الفضلاء المستنيرون - الذين انتسبوا إلى جيل من الناس ولكن أبصارهم تشخص إلى أجيال أخرى - حكم الخلف وتقديره بدلا من انتظار حكم الله. وإن حاجة الإنسان لأن يقره غيره على ما يعمل وعلى ما يرى لظاهرة عامة، تختلف من فرد لفرد كبرا وصغرا، ولكنها مما يشعر به كل إنسان، فيحب كل واحد من الناس أن ينال رضا أحبائه أو أقاربه أو ذوي الاستقامة من عشيرته، والطريق الذي يتبعه أكثر الناس لنيل رضا غيرهم هو التزام العادات المرعية ومذاهب الرأي المشترك.
بيد أنه لم يخل زمان من رجال شواذ، وأحيانا من جماعات يضيقون صدرا بزمانهم، بناسه وبأحواله، وهؤلاء إما أن يعتزلوا قومهم ليعيشوا في عزلة روحية، أو يجهدوا لاستمالتهم إلى ملتهم، والغالب في كلا الأمرين أن قومهم ينكرونهم، ويفضي بهم هذا إلى ابتغاء الرضا من غيرهم، من سلطان أعلى وأكبر من قومهم وزمانهم، سلطان يملك الأمر كله، من قبل ومن بعد: الله أو القانون الطبيعي أو الحرب المحتومة بين الطبقات أو المصدر المفارق الذي يوجه الإنسان طريق الحق، ومن المعتزلين رجال رأوا أن لا قبل لهم بحمل الناس وهم على ما نعرف جمودا وعنادا على تعديل طريقتهم، ومثلهم مثل أركميديس
22
حينما رأى أن لا بد له من محور ارتكاز يحرك به المادة الجامدة المقاومة التي يتكون منها عالم الأشياء والبشر.
وبرم رجال الإصلاح في القرن الثامن عشر بمفاسد العصر ورغبوا في إصلاحها واحتكموا إلى سلطان غير سلطان العصر، فأما ما كان من أمر علاقتهم بحاضرهم، فإنهم لما أحسوا بعدم انسجامهم مع زمانهم أخذوا يعملون على أن ينزلوا على حكم ما هو أكبر وأدوم من زمانهم المتناهي وأهله وأحواله، فأقاموا قوانين الطبيعة ورب الطبيعة النافذة في الكون بأسره، مقابل العادات والعرف ذات النفوذ المحدود زمانا ومكانا، وحكموا الإنسانية جمعاء فيما حكم به الناس، فإن قيل لهم: وما الإنسانية جمعاء أليست إلا اسما سموه؟ أجابوا بأن الخلف خليق بأن يجلس مجلس الحكم بموجب ما توافر لديه من أصالة تنمو وتزداد على مر الأيام، وقانون التقدم المطرد كفيل بهذا الخير وأمثاله، وبأنه لما كان كل عصر يقوم مقام الخلف لجميع ما سبقه، ولما كان القرن الثامن عشر بما حصل عليه مما كسبت الإنسانية زهاء ألفي سنة قد قضى لسقراط ورجيلوس
23
Unknown page