Madina Fadila
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
Genres
وبعد فماذا نحن فاعلون؟ إن العقل والمنطق يضيقان بالموقف الراهن، ولكن ما أهمية هذا؟ لقد تعلمنا منذ عهد بعيد ألا نلقي بالا للعقل والمنطق، ولم يعد المنطق شيئا قائما بنفسه منفصلا عنا، يستطيع إن أردنا أن يأخذ بيدنا ويهدينا سبيل الحق، بل إننا نشك في وجوده، ولا نستبعد ألا يكون إلا شيئا اصطنعه عقل الإنسان، ليستعين به على إخفاء تهيبه، وليستمد منه إقداما، أو ألا يكون إلا نوعا من التعازيم تكسب ما نحن على استعداد لتصديقه بالتقليد صحة صورية، مثال ذلك: إذا كان كل الرجال فانين - فرضا - وإذا كان سقراط رجلا - بالمعنى المستعمل في الفرض - فلا شك في أن سقراط كان فانيا، وأقرب الظن أننا نعرف كل هذا على نحو ما قبل أن نتحقق من صحته، بوضعه في صورة قياس، والظاهر أيضا أن المنطق ينزع إلى التعدد تبعا لتغييرات وجهة النظر، ففي أول الأمر كان لدينا منطق واحد، ثم كان لنا بعد ذلك منطقان، ثم أكثر من اثنين، والآن يحدثنا الثقة الأمين في مقاله عن المنطق في دائرة المعارف البريطانية، إن صح لكاتب من كتاب الدائرة يخلط الجد بالهزل أن يسمى ثقة أمينا، فيقول: إن حالة المنطق الراهنة شبيهة بحالة بني إسرائيل على عهد القضاة: «في تلك الأيام لم يكن ملك في إسرائيل، كل واحد عمل ما حسن في عينه»، هذا ولو سلمنا بلزوم المنطق الرياضي وموضوعه التصورات لا الحقائق ومنطق الاحتمالات (ويؤكد لنا المستر كينز أنه محتمل الصحة)،
15
فإن الدعائم الراسخة التي كانت للمنطق القياسي وللمنطق الاستقرائي قد قوضتها الحقائق المحتملة، وعلى ذلك فلا مجال للاختيار، وليس أمامنا إلا أن نتعلق بتلك الحقائق وإن أهلكتنا.
وهذا ما يفعله الفيزيقيون، وإذا ما جاوز المنطق حده واحتج عليهم باسم القانون، فإنهم يعرفون كيف يسوون هذا معه، وينتهي الأمر بالمنطق إلى التغافل عما يفعلون، ويمضون هم في مخالفته، ها هو ذا مثال لما يفعلون، يقول السير وليام براج
16
إنه يدرس لتلاميذه النظرية الموجبة للضوء في أيام الاثنين والأربعاء والجمعة، ونظرية الكوانتوم في أيام الثلاثاء والخميس والسبت، فليس هناك إذن داع لأن نندهش إذا ما علمنا أن الفيزيقيين لا يزعجهم بالمرة أن يعتبروا النواة والإلكترون إشعاعات لا مواد، إن رأوا نفعا في ذلك الاعتبار، وعلى هذا النحو الفرضي المحض يحولون عالم الماهيات الثابتة إلى كتل من سرعات تتنافر وتتجاذب، ويطلبون منا أن نصدق هذا؛ لأنهم يستطيعون رياضيا تعيينها واستعمالها، وإذن فيجوز أن يكون عالمنا كما يقترح الأستاذ جنز من وضع مشتغل بالرياضيات، ولم لا إن كانت النظريات الرياضية أسهل طريق لفهم العالم؟ ونحن نعرف أن تفاحتين وتفاحتين تكون أربع تفاحات، ومع تسليمنا بأن التفاح سيظل دائما موجودا، فإننا نستطيع أن نتصور أن اثنين + اثنين = 4، حتى لو لم يكن هناك تفاح بالمرة، والرياضي يستغني عن التفاح، بل الأفضل له ألا يشغل نفسه به، فللتفاح خواص أخرى بالإضافة إلى خاصية العدد؛ وعلى هذا إذا ما ضيق على الفيزيقي التضييق الكافي، وأراد أن يتخلص من ورطته، فما عليه إلا أن يتحول إلى رياضي، فإنه حينئذ يستطيع أن يحسب السرعات التي يلاحظ حدوثها ويقرر حينئذ أن السرعات يمكن أن تنسب إلى إلكترونات مادية، وهذا كله بشرط واحد هو أن نعثر فعلا على إلكترونات مادية لها هذه السرعات، ترون إذن أن لا داعي لليأس، فعالمنا ممكن حسابه حتى إذا لم يكن له وجود.
ولعلي قد قلت ما يكفي لأدلكم على أن أخص ما يميز الجو الفكري في زماننا هو كونه واقعيا أكثر منه عقليا، فالفكر الحديث جوه مشبع بالواقعي، فيكفيه القليل من النظري؛ ولنزد هذا بيانا: إننا بحكم الضرورة ننظر إلى عالمنا إما بعين التاريخ وإما بعين العلم، فإذا نظرنا بعين التاريخ، رأيناه في تكوين مستديم، وهو بناء على ذلك لا يمكن فهمه إلا على وجه التقريب، فهو لم يكمل تكوينه بعد، وإذا نظرنا بعين العلم، رأيناه شيئا ينبغي أن نسلم به كما هو، على أن نبدل أنفسنا لتستقيم فيه حياتنا بقدر الإمكان، وعلى أن نعالج منه ما يمكن أن نعالج، ونسخر لمنافعنا ما يمكن أن نسخر، وطالما نحسن استعمال الأشياء فإننا نستطيع أن نتجاهل الدافع الملح لسبر غورها وكشف أسرارها.
وهذا بلا شك أهم ما يفسر تلك الظاهرة العجيبة، وهي راحة العقل الحديث في هذا الكون الغامض.
3
وجميع ما سبق جاء على سبيل تقديم الموضوع، والموضوع هو الفكر السياسي والاجتماعي في القرن الثامن عشر، اخترت أن أقول شيئا عنه أو - بعبارة أخرى - عن فلاسفة ذلك العصر أو «الفلاسفة» مجردة من أي وصف على ما اصطلح القرن الثامن عشر، وماذا أستطيع أن أقول عنهم؟ لو كنت أقدر على أن أعتزلهم، فأنظر إليهم من بعيد أو من عل، ثم أصدر حكما عاما عليهم مقدرا قيمة فلسفتهم تقديرا يستحق أن يعتد به، مبينا أوجه صحتها وأوجه بطلانها، لو استطعت أن أفعل هذا كله، لكان ذلك شيئا عظيما حقا، ولكنني لا أستطيع لسوء الحظ أن أعتزل القرن الثامن عشر على هذا النحو، فأنا رجل من أبناء القرن العشرين، تقيده الأفكار الغالبة على عصره؛ لذلك لا بد لي من أن أنظر للموضوع بعين التاريخ، وإذا كنت قد بذلت جهدا كبيرا فيما سبق من هذه المحاضرة؛ لأقابل الجو الفكري في عصر دانتي بالجو الفكري الحديث، فما ذلك إلا لكي أعين مكانا تاريخيا أضع فيه آراء فلاسفة القرن الثامن عشر، وتوضيحا لهذا أقول: إن المؤرخ لا يستطيع أن يعرض آراء نيوتون وفولتير
Unknown page