Madina Fadila
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
Genres
والآن، وفي أيامنا، أقيم المشهد الأول من الانقلاب الجديد، فبدأت الثورة الروسية في سنة 1917.
وبين الثورة الفرنسية والثورة الروسية فروق، ولكن الفروق تتضاءل إذا ما نظر إليها من بعيد، والاتفاق بين الثورتين على الأساسيات أهم من الاختلاف بينهما، ونحن ورثة الثورة الفرنسية، نغفل عن الاتفاق؛ أولا لأن الثورتين تسميان الأشياء بأسماء مختلفة، وثانيا لأننا ورثة الثورة الفرنسية سنكون المجني عليهم إن قدر للثورة الروسية التغلب على العالم الغربي.
ولننظر إلى بعض وجوه الاتفاق؛ اتخذت الثورة الروسية ما اتخذته الثورة الفرنسية بحكم الاضطرار، فأقامت ديكتاتورية «الأمناء» على الثورة. والثورة الروسية دعت المحرومين للاتحاد، والثورة الفرنسية دعت الشعوب للعمل ضد الحكومات، والثورة الروسية لا ترمي إلى الإصلاح فقط، ولكن إلى إنشاء حياة كاملة جديدة صالحة لكل زمان ومكان، والثورة الفرنسية كانت ترجو أن تحقق هذا. والثورة الروسية يعتبرها خصومها أداة الهدم والإنكار، أداة الإلحاد في الدين والفوضى في المجتمع، وقديما قال خصوم الثورة الفرنسية فيها مثل هذا.
ولو رأى في سنة 1815 أولئك الخصوم - خصوم الثورة الفرنسية، قادة الحركة الرجعية في أوروبا - مقدار ما تحقق في خلال القرن التالي مما كرهوا، لهالهم ما يرون هولا شديدا، ترى ماذا يضمر القرن التالي لسنة 1917 لخلفنا؟ ترى أتكون كلمة الدين الجديد هي العليا؟ وهذا بغض النظر عما إذا كان هذا سيتحقق تدريجا، وبغض النظر عمن يتولى مقاومته، وعن مقدار ترخيص الشيوعيين بالنسبة لمبادئهم وتخفيفهم من غلوائهم وبطشهم بأعدائهم.
وليس هذا بالشيء المستحيل، فقد بدأنا نسمع في معاقل الرأسمالية في الغرب كلاما جديدا، بدأ الناس يقولون: إن المجتمع الغربي وقد أصاب ما أصاب من تقدم في استعمال الآلات، وملك ما ملك من موارد القوة، قد أصبح أحوج إلى الإشراف والتوجيه منه إلى الحرية، ومهما يكن فلا يزال في الوقت فسحة، وقرن من الزمان ليس بالشيء القليل، ومن الجائز أن يعم في أثنائه النظام الاقتصادي الموجه - ولنسمه كذلك أو لنسمه الشيوعية - إلى العالم الغربي بأسره، زعما من الشعوب بأنه النظام الوحيد الذي يحقق للإنسان العدالة الاجتماعية والأمن والرخاء، إن كان هذا هو الذي سيحدث فليس بمستبعد أن الخلف في سنة 2032 سيحيي ذكرى نوفمبر 1917 على اعتبار أنها كانت مبدأ التحول السعيد في تاريخ الحرية الإنسانية، كما نحتفل الآن سنويا بيوليو 1789.
وبعد فما الرأي الذي يجب أن ننتهي إليه بالنسبة ليوليو 1789 ونوفمبر 1917 وما إليهما من أيام الإنسانية الكبرى، هل هي بوادر الاقتراب من الأوتوبيا؟ وهل يصح أن نرى في الثورة الروسية مرحلة جديدة من مراحل التقدم الإنساني نحو الكمال كما كانت الثورة الفرنسية في دورها مرحلة من مراحله؟ أو أن الأصح هو أن نقول ما قاله ماركس أوليوس: «إن الرجل في سن الأربعين، إن كانت له حبة من الفطنة يكون قد رأى - بموجب ما بين الأشياء من مماثلة - كل ما كان وكل ما سيكون.» (3) نقد الكتاب
اخترت كتاب كارل بيكر من بين الكتب الكثيرة جدا التي عالجت موضوع الفكرة السياسية والاجتماعية في القرن الثامن عشر للنقل إلى اللغة العربية، وعلي أن أشرح أولا وجه الاهتمام بالقرن الثامن عشر، وثانيا أسباب اختياري لهذا الكتاب بالذات.
فأما وجه الاهتمام بالقرن الثامن عشر فهو راجع لاعتقادي أن من مبادئ ذلك العصر السياسية والاجتماعية ما لا يستطيع جيل من أجيال الإنسانية أن يعاديه أو أن يغفله أو يزدريه إلا وهو مجازف - على الأقل - بما هو أثمن ما في الذخيرة الروحية لبني الإنسان، وقد يكون القرن الثامن عشر قد أسرف في الاطمئنان إلى حكم «العقل» أو إلى قابلية الإنسان للكمال المطلق، أو إلى اطراد التقدم من أدنى إلى أعلى ومن حسن إلى أحسن، أو إلى أن هداية الإنسان بالنصيحة والإغراء أسهل من قيادته بالقسر، أو إلى أن إطلاق العقول من ضلال الجهل والخرافة والأجساد من قهر السلطات الاجتماعية وجورها، يكفي تماما لتحقيق الحياة الطيبة، قد يكون القرن الثامن عشر قد أسرف في إيمانه بالإنسان وعقل الإنسان، وقد يكون أسرف في الإيمان بما سماه الطبيعة أو نظام الطبيعة، وقد يكون أغفل «حرب المصالح» أو حرب الطوائف والطبقات، أو قرأ في التاريخ ما أحب أن يقرأ في التاريخ، وقد يكون العلم الحديث أثبت - أو لم يثبت، لا أدري - أن العوامل الخفية المحدثة للأشياء لا يمكن إدراك كنهها، أو أن الحق هو الواقع أو النافع أو ما إلى ذلك، أو أن فرويد - أو غير فرويد، لا أدري - قد كشف عن قرار مظلم مهول في أعماق النفس أو ما إلى ذلك، قد يكون هذا كله أو بعضه صحيحا، ولكن لا يزال هناك بعد محل للإيمان بنعمة العقل وبالحرية وبالإخاء وبالمساواة، وبأن الصلاح قد يكون ثمرة الجهد المبذول للإتيان به عن قصد وتدبير.
وفلسفة القرن الثامن عشر كانت الفلسفة الأوروبية التي اتصلنا بها حينما عاد الاتصال بيننا وبين أوروبا منذ أوائل القرن التاسع عشر، وأعتقد أنها كان لها تأثير عميق في حياتنا الفكرية، وفي تطورنا السياسي على حد سواء، وهذا في نظري مبرر آخر لدراستها في موطنها الأصلي.
وكتاب كارل بيكر بالذات وجدته من أجود الكتب لهذه الدراسة، أولا؛ لأنه يفي بما أعتقده شرطين أساسيين لأية دراسة حقة للفكرة السياسية والاجتماعية لعصر من العصور، فالشرط الأول: أن يوضح المؤلف العلاقة القائمة بين الفكرة في ذاتها وبين فكرة العصر عن الطبيعة الإنسانية، وبين الفكرة أيضا وبين فكرة العصر عن مكان الإنسانية في الكون، أو بعبارة أخرى، فكرة العصر العلمية والتاريخية. والشرط الثاني: أن يوضح المؤلف العلاقة بين الفكرة في العصر الذي يدرس والفكرة في العصور التي سبقتها، وفي العصور التي لحقتها، وقد أجاد بيكر كل الإجادة في الوفاء بالشرطين على وجه ممتع طريف، وإلى حد مبتكر، فالمحاضرة الأولى تصور «الجو الفكري» الذي ساد العصور الوسطى والقرن الثامن عشر والعصر الحديث، والمحاضرة الثانية تصور عنصرا أساسيا في فكرة القرن الثامن عشر، ألا وهي تصور ذلك القرن للطبيعة ونسق الطبيعة، والمحاضرة الثالثة تصور فكرة القرن الثامن عشر عن التاريخ، والمحاضرة الرابعة تصور فكرة القرن الثامن عشر عن الاتصال بين الحاضر والماضي والمستقبل.
Unknown page