مقدمة المترجم
كلمة المؤلف
الجو الفكري في مختلف العصور
قوانين الطبيعة وقوانين رب الطبيعة
التاريخ الجديد: تعليم الفلسفة
فوائد الخلف أو أطوار العلاقة بين الحاضر والماضي والمستقبل
مقدمة المترجم
كلمة المؤلف
الجو الفكري في مختلف العصور
قوانين الطبيعة وقوانين رب الطبيعة
التاريخ الجديد: تعليم الفلسفة
فوائد الخلف أو أطوار العلاقة بين الحاضر والماضي والمستقبل
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
تأليف
كارل بيكر
ترجمة
محمد شفيق غربال
مقدمة المترجم
(1) مؤلف الكتاب
1
ولد مؤلف هذا الكتاب، كارل لوتس بيكر، في ريف ولاية آيوا من الولايات المتحدة الأمريكية في سنة 1873، لأبوين ينتسبان لأصول مختلفة، ألمانية وهولندية وإرلندية وإنجليزية، وحدث لأجداده ما حدث لأمثالهم في تاريخ الولايات المتحدة، فتطور الغرباء المستوطنون مواطنين أمريكيين، ونشأ كارل بيكر لا يعرف في حداثته إلا أمريكا والأمريكيين، ويحكي عن نفسه كيف نزل قريته - وهو في الخامسة من عمره - مهاجرون من الألمان لا يعرفون إلا لغتهم، وكيف استغرب هيئتهم ولسانهم، ولم يدر إذ ذاك أن جد أبيه كان أيضا غريبا كهؤلاء، لا يعرف من الإنجليزية كلمة واحدة!
وتلقى بيكر دراسته الجامعية في جامعة ويسكنسين، وتتلمذ فيها على الأستاذ فردريك جاكسون ترنر، وكان للأستاذ ترنر أثر كبير في بيكر، وترنر صاحب النظرية المشهورة في تأويل خصائص التاريخ الأمريكي، بما سماه «أثر الحدود»، ويقصد بذلك أن ذلك التاريخ كان تاريخ شعب في تكوين مستمر بموجب الهجرة، وفي حركة مستمرة بموجب الهجرة الداخلية من أرض عامرة قديمة إلى أرض جديدة تستعمر، فكأن الشعب يقيم أبدا على الهامش، على حافة رقعة من الأرض، في اتساع متواصل على «الحدود»، واكتسب الشعب بذلك خصائص المستعمرين والمغامرين، خيرها وشرها.
2
تأثر التلميذ بأستاذه تأثرا عميقا، فتبعه في سعة أفقه، وتبعه في البساطة، وكره المظاهر، ونزاهة القصد، وصراحة القول، والاعتدال. ولا أجد للتعبير عن رأي بيكر في أثر ترنر فيه خيرا من قوله: «إني لا أطلب من المؤرخ أكثر من أن يكون قد عمل في تكوين شخصية المشتغلين بالدراسات الإنسانية.»
3
وأضاف بيكر إلى دراسة التاريخ دراسة القانون الدستوري في جامعة كولومبيا، ويرجع ذلك إلى أنه اتجه في أول ما اتجه للفصول الأولى من الثورة الأمريكية، فاختار لرسالته للدكتوراه موضوع «الأحزاب السياسية في ولاية نيويورك من 1766 إلى 1775»، ونشر في مستوى هذه الرسالة كتابه القيم في «وثيقة إعلان الاستقلال»، درس فيه المبادئ السياسية التي استند إليها الإعلان، هذا إلى مقالات قصيرة متنوعة حول ذلك العهد من التاريخ، من أبدعها مقالته التي سماها «خصائص سنة 1776»
4
وإلى دراسات أخرى لا داعي لذكرها.
والمؤرخ الذي يتجه نحو مبادئ الثورة الأمريكية لا بد له أن يتعمق في فلسفة القرن الثامن عشر، فما الثورة الأمريكية - مع ما كان لها من الظروف الخاصة بها - إلا جزء من حركة القرن الثامن عشر، أو من حركة الاستنارة، فاتجه بيكر للقرن الثامن عشر، وأخلص للقرن الثامن عشر مدى حياته، ولكن لا ينبغي أن يفهم من هذا ما يفهمه الناس عادة من التخصص الضيق على النحو الذي يؤثر في وقتنا الحاضر، لا عن دراسات العلم الطبيعي فحسب، بل عن الدراسات الإنسانية أيضا، فإن بيكر حينما اتجه لعصر الاستنارة، وأحب أن يعين للعصر مكانا في تاريخ الفكر الإنساني، تعمق درس ما سبقه وما لحقه، وآثار هذا التعمق جلية في الكتاب الذي نقدمه للقراء.
وقد ألحق بيكر منذ إتمامه الدراسة بوظائف التعليم في الجامعات، وعانى الكثير في أول الأمر، قال تلميذه جرشوي: إن التدريس في مستهل عمله في الجامعة كان شاقا قاسيا عليه، وبلغ منه التهيب أن مجرد التفكير في مواجهة طلابه كان يشقيه،
5
إلا أنه تغلب شيئا فشيئا على ذلك، إلى أن أصبح الاجتماع بتلاميذه بالنسبة له، وبالنسبة لهم من أسعد أوقاتهم.
درس بيكر في عدة جامعات، وكان أول عهده بكرسي الأستاذية، حينما عين أستاذا للتاريخ في جامعة كنساس، ومن كنساس انتقل لكرسي التاريخ في جامعة كورنل في سنة 1917، وبقي فيها أستاذا، ثم أستاذا فخريا حتى وفاته في سنة 1945.
والمتتبع لمذهب بيكر في التاريخ - كما طبقه في اختيار موضوعاته وفي طريقة تأليفها وتصنيفها - يلاحظ عليه تماسك أجزائه وانسجامها وائتلافها، تماسكا وانسجاما وائتلافا يبلغ أقصى الحدود، والمذهب تام النمو، مكتمل التكوين من مبدأ حياته العملية، والمذهب أيضا مذهب صنعه صاحب أدق صناعة، فلم يطرأ إلهاما أو توفيقا أو عفو الخاطر، بل كان مذهبا عقليا، دقيقا من الطراز الأول، والمذهب يقتضي أن يكون المؤرخ عنصرا فعالا في عملية التفكير التاريخي والتأليف، وليس ذلك على اعتبار أن المؤرخ يفكر ويكتب، أو يؤلف فحسب، بل على اعتبار أنه متضمن هو نفسه فيما يفكر فيه أو يؤلف فيه.
والمؤرخ - عند بيكر - حينما يدرس حدثا أو أحداثا أو ما إلى ذلك، يدرس في الواقع حالة من حالات الشعور أو العقل، ترتب وجودها واكتسبت شكلها من عوامل طارئة على حالة عقلية أو شعورية سابقة، فأينما يبدأ المؤلف فإن مادته تتركب من قديم متطور تحت تأثير طارئ عليه، وينبغي ألا يفوتنا أن هذا التطور أو التحول ليس عملا آليا أو تلقائيا، بل إنه يحدث في الغالب استجابة لمقتضيات اجتماعية جديدة، ولكن الأمر ليس بهذه البساطة، فهناك المؤرخ، حينما يختار الموضوع، وحينما يحاول التفكير والتأليف فيه، لا يستطيع بالمرة أن يعتزل عصره أو - بعبارة أدق - جوه الفكري، لينتقل إلى الجو الفكري لما اختاره؛ ولذا تعين على المؤرخ أن يعرف نفسه قبل أن يعرف غيره، وأن يعرف زمانه قبل أن يعرف زمان غيره، فإن نفسه وزمانه جزآن لا يتجزآن من مادة التفكير والتأليف. وعالم التاريخ - عند بيكر - أشبه ما يكون ببهو من المرايا، الخيال فيها يعكس خيالا آخر، بحيث يصعب الاهتداء إلى الأصل، وجو المؤرخ الفكري - عند بيكر - هو المرآة العاكسة التي لا يرى الماضي إلا بواسطتها.
هذا مذهب بيكر إجمالا، فماذا نقول فيه؟ نقول فيه: إنه يمثل الواقع، وإن كان لا يمثل المثل الأعلى. والفرق بين بيكر وزملائه في أمريكا وفي غير أمريكا، أنه سجل هذا الواقع، وأنه رأى أن التسجيل هو الأجدى والأخلق بالمؤرخ، إن أراد أن يعمل عملا خالصا لغاية، بينما هم رفضوا التنكر للعرف الأكاديمي أو - إن جاز لنا أن نقول - «لسر المهنة».
وعلينا أن نتبع بيكر قليلا فيما ذهب إليه من أثر نفس المؤرخ وزمان المؤرخ في عمل المؤرخ؛ لكي نرى ما كان لنفس بيكر وزمان بيكر في عمل بيكر، وقد جاء في «المدينة الفاضلة» قوله:
إن فلاسفة القرن الثامن عشر حين كتبوا عن أثينا وروما، أو الصين والهند، كانوا لم يغادروا فرنسا أو أوروبا، ولا القرن الثامن عشر إطلاقا. وبيكر كذلك حين كتب عن القرن الثامن عشر، لم يغادر القرن العشرين أو أميركا القرن العشرين، فالقرن العشرون وبصفة خاصة الفترة بين الحربين العالميتين، كان المرآة العاكسة التي رأى بها القرن الثامن عشر.
وقد شهد أصدقاء بيكر، وتشهد الكتب، أن الرجل على تلهيه بما يلهو به الناس، وعلى رصانة الأسلوب واتزان العبارة وبراءة الدعابة ولين النقد، كان ذا نفس حيرى، وأكاد ألمس في كلامه عن بسكال كلاما صادرا عن القلب، وخصوصا حين يقول: إن الكون لا يكترث إطلاقا لهذا الإنسان، كما أكاد ألمس ذلك أيضا في مقاله المؤثر «حيرة ديدرو»،
6
ألمس فيه النزاع بين نداء العقل ونداء القلب، بين السكون والحركة، والوفاق والتنافر، الظاهر والباطن، في مشاهد التاريخ الإنساني، بين نظر العلم ونظر التاريخ إلى مشاهد الكون، وقد ذكر تلميذه جرشوي أن الرجل تأثر كثيرا بما أصاب الآمال العظيمة التي عقدها الأحرار على عالم ما بعد الحرب الكبرى الأولى في الفترة التي توسطتها سنة 1930، فالعلاقات بين الشعوب تسير إذ ذاك من سيئ إلى أسوأ، وقضية الحرية بائرة في أكثر البلاد، والأزمة الاقتصادية قد عمت العالم بأسره، فكانت سنوات خوف وجوع، هذا إلى ما عاناه هو شخصيا إذا ذاك من علل الجسم والأعصاب.
7
ولكن كان للرجل من قوة اليقين وعمق الفكرة وسعة الاطلاع على غابر الإنسانية، ما مكنه من التغلب على قنوطه، فتمالك على نفسه، وكان من بين آخر ما كتب «السبيل إلى عالم أفضل».
8 «والمدينة الفاضلة» بين كتب بيكر واسطة العقد، فيه مذهبه في التاريخ أكمل ما يكون مذهب تطبيقا، وفيه أسلوبه أكمل ما كان، وفيه الحيرة والتساؤل كما فيه أسس اليقين والرجاء، وفيه القرن الثامن عشر مستقرا أتم ما يكون الاستقرار بين الماضي والمستقبل، فيه - في الواقع - شيء من كل ما كتب فيه بيكر.
وقد خصص بيكر لمذهبه في التاريخ خطبة الرياسة التي ألقاها في الاجتماع السنوي للجمعية التاريخية الأمريكية (يناير سنة 1932)، واتخذ لخطبته العنوان: «كل إنسان مؤرخ»، بين فيها أن ما يفعله المؤرخ هو ما يفعله الإنسان في تصريف شئونه العادية، فالرجل حين يهم بعمل ما، يستحضر شيئا من الماضي يدمجه في حاضره ليسترشد به، وفي نفس الوقت يدمج أيضا شيئا من المستقبل المتوقع في حاضره، فالحاضر - وهو ما سماه الحاضر الكاذب - يتكون دائما من ماض وحاضر ومستقبل، ونفى في خطبته هذه وجود «معايير» مطلقة، وأكد أن الأحكام دائما إضافية إلى زمانها ومكانها، وقد عاد بيكر للموضوع في نقده لكتاب ويلز المشهور في معالم تاريخ الإنسانية.
9
وكانت أشد مؤلفاته سوادا «حريات جديدة بدلا من حريات قديمة»، «وحرية القول»، «ومبادئ الأحرار، أهي مرحلة جاوزتها الإنسانية» (سنة 1932)،
10
تساءل فيها: أحق أن الحرية انتهى زمانها؟ أحق أن ليس أمام الإنسانية إلا الاختيار بين الحرية والمساواة؟ أحق أننا إن آثرنا المساواة فلا مناص من التسليم بما يجري في بعض البلاد من كبت للحرية في سبيل تحقيق المساواة؟ أحق أن الإنسان لا يأبه - في الواقع - للحرية إن ضمن العيش وترك له أن يتصرف في جده ولهوه طبقا لسنن آبائه ومجتمعه وعشيرته؟
وكأني ببيكر ينصت دائما إلى صوتين، يدعوه أحدهما إلى وجوب استعمال العقل مهما تضاءل أثره في توجيه أعمال الإنسان، ولكن بشرط ألا يسرف فيما يرجو من وراء استعماله، ويدعوه ألا يقنط، وألا ينبذ الحلم الرائع الذي تصوره كوندرسيه للعصر العاشر من عصور تقدم العقل الإنساني،
11
ولكن بشرط أن «يعدل» ما تصوره كوندرسيه في القرن الثامن عشر ليفي بمطالب القرن العشرين، وأما الصوت الآخر، فكان يدعوه للتأمل في مستقبل الآلة، وإلى أن مصير الإنسانية سائر حتما إلى أيدي «الصفوة» من الفنيين، وأن هؤلاء لا يفهمون إلا التنظيم والقيادة، ولا يعنون بالحرية والهداية.
وتساءل بيكر: هل من سبيل كي يأتلف الصوتان؟ أما هو فكان على استعداد لأن يقبل الائتلاف، وأن يدلي بنصيبه المتواضع لتحقيقه، فمبادئ الحياة الديمقراطية الحقة أقدم من الأنظمة الديمقراطية، ولا تتوقف عليها، بل هي تعتمد على قيم كانت قوام الثقافات والحضارات، ومهما تنوعت الأساليب وتجددت الوسائل طبقا لمقتضيات التغيير والتطور، فإن المحافظة على تلك القيم الكبرى هو الأمر الأساسي، وكان هذا شرط بيكر للأمل في حصول الإنسانية على ثقافة أعمق وديمقراطية اجتماعية حقة في عالم أفضل.
12 (2) عرض الكتاب
المحاضرة الأولى: الجو الفكري في مختلف العصور
لدراسة الفكرة السياسية أو الاجتماعية لعصر من العصور، يجب أن نتذكر دائما أنها لا تفهم على وجهها الحق إلا بفهم الجو الفكري الذي عاشت فيه، وقد تصور الأوروبيون في العصور الوسطى الحياة الإنسانية «دراما» كاملة التأليف، تامة السبك، صدرت عن عقل مهيمن محيط، وتدور حول فكرة رئيسية واحدة، ولا يملك الإنسان أن يتفادى واقعة من وقائعها، ولذا كان واجبه أن يسلم بأحكام القضاء، وأن يقوم بما قسم له أن يقوم به في هذه «الدراما»، ومهمة السلطتين الشرعيتين «الكنيسة والدولة» أن تلقناه ما يلزمه، وأن تلينا قلبه لأداء نصيبه، وقد منح الله الناس العقل، وأوجب عليهم أن يستعملوه، ومهمة العقل أن يبين للناس العلم الذي شاء الله أن يطلعهم عليه بما أوحاه، وأن يوفق بالقدر الذي يستطيع بين الأحداث المعلومة بالخبرة العملية، والنسق العقلي للعالم المصدق بالإيمان.
والتفكير في العصور الوسطى منطبع بطابع عقلي تام، فهي عصور إيمان، كما كانت أيضا عصور عقل، والقرن الثامن عشر كان عصر عقل كما كان أيضا عصر إيمان.
وكان «الجدل» منهج البحث في العصور الوسطى، وشرح تاريخ الإنسان تولاه رجال اللاهوت، والتوفيق بين الطبيعة والتاريخ في نسق عقلي من شأن الفلسفة، وما يلزم اللاهوت والفلسفة من أساليب وطرائق يقدمه المنطق.
هذا بالنسبة للعصور الوسطى، وأما بالنسبة للزمن الحاضر، فالعلم يعتبر الحياة عملية تغير مستديم يحدث لطاقة في انحلال مطرد، ولعل أهم ما ترتب على ذلك النظر الجديد أننا نبتغي فيما حولنا مبدأ مطلقا نثبت به أقدامنا، ولا نجده، وقصارى جهدنا اليوم أن نلاحظ، وأن نقيس، وأن نختبر، وهذا كله لكي نسيطر على الطبيعة لا لكي نفهمها، وبناء على هذا فالشأن الآن للتاريخ والعلم الطبيعي ومناهج الملاحظة والاختبار والحساب، وما تولاه اللاهوت في العصور الوسطى يتولاه الآن التاريخ، لا الفلسفة.
ومرت فلسفة التاريخ في أدوار؛ كان التاريخ في العصور الوسطى في أيدي اللاهوتيين صورة لتاريخ العالم والإنسان تتفق مع التأليف الإلهي، فلم يحتج اللاهوتيون كثيرا إلى الاطلاع على تجارب الأمم بالفعل، وهو في القرن الثامن عشر أداة لأغراض الفلاسفة، وهو من أوائل القرن التاسع عشر المثال المتعالي يتحقق، وهو في عهدنا الحاضر ما هو إلا التاريخ، تعيين نظام لتعاقب الأشياء في الزمان.
والتاريخ فضلا عن كونه موضوعا قائما بذاته، هو أيضا منهج من مناهج البحث، فيؤرخون للغات، والآداب، والنظم الاجتماعية، والشرائع، والعلوم، والرياضيات، والاقتصاديات، بل وللحب وللعب.
وبالإضافة إلى التاريخ باعتباره طريقا لاكتساب المعرفة يوجد لدى المحدثين طريق آخر هو العلم الطبيعي، وكان ظهور التاريخ وظهور العلم الطبيعي نتيجتين لاتجاه فكري واحد، هو الإعراض عن إغراق العصور الوسطى في طبع الحقائق بالطابع العقلي، والإقبال على تفحص الحقائق في ذاتها وكما هي.
وقد بدأ التحول حينما أراد جاليليو أن يعرف شيئا عن سقوط الأجسام، فلم يسأل عما قال أرسطاطاليس في ذلك، أو عما إذا كان المعقول أن يكون الأمر كذا أو كذا، بل عمد إلى التجربة، واستخرج منها ما دلت عليه.
وقد أعجب الناس أيما إعجاب بالنتائج الباهرة التي ترتبت على استعمال الملاحظة والتجريب، وتولد الأمل في أنهما سوف يبددان كل ما يحيط بالكون من غموض، ويكشفان عن كل ما هو محجوب، وأن قوانين الطبيعة وقوانين رب الطبيعة ما هما إلا اسمان لشيء واحد، وأن عقل الإنسان سوف يكشف عن سر الاطراد في نظام الطبيعة، ولكن الغموض لم يتبدد، بل كان الأمل هو الذي تبدد، وفرق العلماء في القرن العشرين بين العلم وقوانين الطبيعة، وشغلهم العمل في الملاحظة والحساب والتجريب والانتفاع بالأشياء عن السعي إلى معرفة كنه العامل الخفي المحدث.
فالجو الفكري في زماننا جو واقعي أكثر منه عقلي، وإننا بحكم الضرورة، ننظر إلى العالم إما بعين التاريخ، وإما بعين العلم، فإذا ما نظرنا بعين التاريخ رأيناه في تكون مستديم، وهو بناء على هذا لا يمكن فهمه إلا على وجه التقريب، وإذا ما نظرنا بعين العلم، رأيناه مما ينبغي أن نسلم به كما هو، على أن نبدل من أنفسنا لتستقيم فيه الحياة بقدر الإمكان، وهذا ما يفسر راحة العقل الحديث في هذا الكون الغامض.
وموضوعي هو الفكر السياسي والاجتماعي في القرن الثامن عشر، ولما كنت من أبناء القرن العشرين، ومن ورثة القرن الثامن عشر، فلا مناص من أن أعالج موضوعي تاريخيا، وكان علي أن أعين للقرن الثامن عشر مكانا، فعلي أن أبين ما كان من آثار لوقوع ذلك العصر بعد عصر دانتي وتوماس الأكويني، وقبل عصر أينشتين وويلز؛ أي يجب أن أصل العصر بما سبقه وبما لحقه.
وأثر العصور الوسطى في القرن الثامن عشر أقوى مما تصور رجاله أو مما نتصور نحن، بل إن القرن الثامن عشر أقرب إلى ما سبقه منه إلينا، والأفكار التي قامت عليها فلسفته هي في جوهرها أفكار القرن الثالث عشر، وإن فلاسفته لم يهدموا «المدينة الفاضلة» التي بناها القديس أوجسطين إلا ليعيدوا بناءها بما كان يحضرهم من مواد.
المحاضرة الثانية: قوانين الطبيعة وقوانين رب الطبيعة
لم تكن «الاستنارة» حركة فرنسية بالذات، فأنى ذهبت تلق الفلاسفة يتكلمون نفس الكلام، ويعيشون في جو فكري واحد، والفلاسفة لم يتخذوا من الفلسفة صناعة تعليم، حقيقة كان منهم «فلاسفة» بالمعنى الذي نفهمه الآن، ولكنهم كانوا قبل أي شيء آخر أدباء يكتبون الكتب ليقرأها الناس، ولينشروا بينهم آراء جديدة، أو آراء قديمة في ثوب جديد، ولكنهم كانت لهم رسالة نهضوا لإبلاغها وللتبشير بما هو آت، وكانوا قوما لم يعتزلوا الجماعة، تفيض آثارهم براعة حديث وسخرية، ولكن هذا كان وسيلتهم إلى غايتهم، ولم يمسهم التشاؤم إلا مسا خفيفا، وتظاهروا بتجنب الحدة والحمية ، ولكنهم كانوا يسعون سعيا حثيثا متلهفا إلى وضع أمور العالم في نصابها، وذاع استعمال كلمات «الإنسانية» «وفعل الخير»، ولن نستطيع أن نجد رجلا في ذلك الربيع المزهر من تاريخ الإنسان إلا يدير مشروع إصلاح، وهل كانت الثورة الفرنسية إلا مشروعا عظيما للإصلاح، وهل كان القرن المستنير بين العصور إلا عصرا آلى قادة الفكر فيه على أنفسهم أن يجهدوا لكي يوطئوا السبل لينعم بنو الإنسان بالسعادة والحرية والإخاء والمساواة.
والفلاسفة أدنى إلى روح الدين مما قدروا، كانوا حملة رسالة الحركات الدينية المسيحية مجردة من صبغتها الدينية، ولقد أسرف كتاب القرن التاسع عشر في تأكيد جانب السلب، من كفاح القرن الثامن عشر في سبيل نصرة العقل، وأسرفنا نحن في القرن العشرين في فهمنا من سالبهم معاني تزيد كثيرا على ما قصدوا، وفي الوقت نفسه قبلنا منهم طبقا لما أرادوا موجبهم وتقريراتهم.
وهذه التقريرات في منتهى البساطة، وهي تدعي صحة كل ما هو محتاج لإقامة الدليل على صحته، فلا عجب أن نتصور في القرن العشرين أن أولئك الشاكين من رجال القرن الثامن عشر كانوا قوما سريعي التصديق، سهلي الاقتناع، وأن عواطفهم ساقتهم دون روية إلى قبول الكثير من الكلام المعاد، وإلى التصديق بوجود الدواء الذي يشفي من كل داء.
وإن شئنا أن نلتمس وسيلة لفهم عقلية عصر من العصور، فخير ما نفعل هو أن نفتش عن الكلمات الدائرة على ألسنة أهله، وهذه كانت في القرن الثالث عشر: الله، الإثم، النعمة، الجنة، النجاة، وهي في القرن التاسع عشر: المادة، الحقيقة، الحقيقي، التطور، التقدم المطرد، وفي القرن العشرين: النسبية، التعاقب، الملاءمة، الوظيفة، المركب، وكانت في القرن الثامن عشر: الطبيعة، القانون الطبيعي، المبدأ الأول، العقل، العاطفة، الإنسانية، القابلية للكمال، الفضيلة.
وفي القرن الثامن عشر أقام الفلاسفة «مدينتهم الفاضلة» على دعائم ترتكز على هذا الثرى، وتصوروا الربوبية على ما يشتهون، ثم استحوذ عليهم ما أنساهم ذكر الله، ومنهم من قسا قلبه فجحده، إلا أن أكثرهم لم يهو إلى هذا؛ فالجحود معناه كون بلا نظام، وهذا لم يطيقوا أن يتصوروه، وبقي أغلبهم على الإيمان برب الكون، وهو المبدأ الأول، أو الكائن الأعظم أو المقتدر الكبير، أو المحرك الأول، وهو العلم، وهو الخير، واعتقدوا أنه أظهر الخلق على مشيئته لا عن طريق الكتب المقدسة والكنيسة، بل عن طريق كتاب الطبيعة الأكبر، وهو كتاب منشور للعالمين، وأنه ما من فكرة أو عادة أو سنة من السنن ببالغة الكمال، إلا إن كانت متفقة مع القوانين التي تطلع الطبيعة الناس عليها في جميع الآباد.
والطبيعة عند رجال العصور الوسطى كانت كونا تصوريا، مفارقا للكون الحقيقي، أو هي تركيب منطقي مثاله في العقل الإلهي، والقانون الطبيعي يتعلق بهذا الكون التصوري، ولا علاقة له بالظواهر الطبيعية، أما في القرن الثامن عشر، فالطبيعة هي الحقيقة المادية القائمة، والقانون الطبيعي ليس تركيبا من تراكيب المنطق القياسي، بل هو الأفعال المشاهدة بالعيان التي تفعلها الأشياء المادية.
ويرجع هذا التطور في فكرة الطبيعة لمكتشفات القرن السابع عشر العلمية، وبخاصة مكتشفات نيوتون. الطبيعة هي ما يراه أي واحد من الناس بعينه ويلمسها بيده فيما حوله، تجرى على سنن لا غموض فيها، تطلع آحاد الناس - جاهلهم وعالمهم على حد سواء - على قوانينها النافذة في كل شيء، وما الفلسفة إلا الإدراك السليم البسيط، وما دامت قد صارت تستخدم أنابيب الاختبار بدلا من فن الجدل، فلأي إنسان بالقدر الذي يسمح به ذكاؤه أن يكون فيلسوفا.
واتخذوا من الفلسفة النيوتونية على ما تصوروها أساسا للدين الطبيعي وللفلسفة الأخلاقية، واعتقدوا أيضا أن العقل لا يحصل على شيء ما من المعرفة بالوراثة، فليست هناك معان غريزية، ولكنه يحصل على المعرفة بوجوده في بيئته، وبالإحساسات التي تتدفق، والنفس عند الميلاد تخلو من أي معنى مغروس فيها، وهي حينئذ كالصحيفة البيضاء من الورقة الخالية من أي نقش، ثم ينقش العالم الطبيعي الخارجي والإنساني على هذه الصحيفة البيضاء جميع المعاني والمبادئ خيرها وشرها، المرقومة في النفس، فإن كان المحيط الخارجي مضطرب النغم، متنافر الألحان، فالنفس تكون كذلك، ولو تحقق ما يجب أن يتحقق - وليس ذلك بعزيز - واستقام النغم وانتظم اللحن، فالنفس تستقيم أيضا، فلا أساس إذن لما توهمه المتدينون من أن الإنسان آثم خسيس بجبلته، بل الصحيح أن الإنسان سوته الطبيعة، والطبيعة خلقها الله، ولبني الإنسان المقدرة على أن ينشئوا بين النظام الطبيعي العام وأفكارهم وأفعالهم ونظمهم توافقا وانسجاما، ولا يلزمهم لبلوغ هذا سوى استعمال ملكاتهم الطبيعية، وهكذا آمنوا بأن في الإمكان العمل لتشكيل كل شأن من شئون الحياة طبقا لقوانين الطبيعة وقوانين رب الطبيعة.
ولكنهم ما لبثوا حتى ثارت شبهات، فإن قيل إن الطبيعة خلقها الله، وإن الإنسان خلقه الله، فكيف يتأتى أن تكون للإنسان عادات وأفعال متنافرة مع الطبيعة؟ وهل يستطيع الفلاسفة أن يزعموا أن التنافر في الظاهر فقط، وأن لا شر مطلقا في الطبيعة؟ أيتبعون العقل حتى النهاية، وليكن ما يكون؟ وما النهاية؟ وجهتان لا ثالث لهما: العودة للدين أو التقدم نحو الإلحاد.
ولكن القرن الثامن عشر وجد مخرجا، وجده بتطويع العقل؛ وذلك بأن أضافوا إليه العواطف، فجعلوا الحكم لا له وحده، بل له وللقلب معا؛ وذلك أيضا بأن قيدوه بقيود التجارب، فجعلوا لها القول الفصل، وذلك أخيرا بأن استمهلوه مناشدين إياه أن يرجئ حكمه إلى أجل، فظل الفلاسفة هكذا تحت لواء العقل، وساروا قدما لبناء صرح «المدينة الفاضلة»، وجعلها آية التمام والكمال والبهاء.
المحاضرة الثالثة: التاريخ الجديد أو الفلسفة تعلم الناس بالأمثال
لكي نفهم لم انصرف الفلاسفة عن النظر العقلي الخالص إلى التاريخ والأخلاق والسياسة، يجب أن نبدأ بأن نتذكر أن القضية العقلية الكبرى كانت قضية وجود الله، فتساءلوا: هل العالم يحكمه عقل خير أو تتحكم فيه قوى لا تعرف خيرا ولا شرا، وكان سؤالا حير الألباب.
فأما الملحدون فقد كانوا قلة افتتنوا بالعقل أيما افتتان، وجهروا بإلحادهم، وأعلنوا أن العالم لا خير ولا شر، بل هو قابل لأن يكون خيرا، لو عرف الإنسان كيف يدبره، وقابل لأن يكون شرا لو قصر في ذلك.
وقابل الكافة الإلحاد بالاستنكار، أما الفلاسفة فقد تعللوا بعلل شتى، لعدم متابعة الموضوع، فمنهم من قال: إن النظرية الآلية للكون قد تكون صحيحة، ولكن الأخذ بها ليس في المصلحة، ومنهم من اعترف بقصور العقل عن إثبات شيء ما في الموضوع، فآثر الصمت أو الاشتغال بشيء آخر، ومنهم من قال: إن المهم هو أن نصدق بوجود الله، فهذا لازم للعامة على وجه الخصوص، ومنهم من أعرض عن الإلحاد لإدراكه أن التسليم به معناه الاعتراف بإخفاق الفلسفة فيما قصدت إليه، وكأنهم بذلك قد أيدوا ما ذهب إليه خصومها من أنها تؤدي إلى هدم الأخلاق والنظام الاجتماعي، ومنهم من رأى أن الأجدى بهم أن يشتغلوا بشئون الإصلاح على الوجه الخليق بالفلاسفة؛ أي بالجمع بين الجد وتدفق العاطفة بدلا من أن يفضحوا قصور العقل وضعف دعائم المعرفة.
تقهقر الفلاسفة على هذا النحو من موقفهم العقلي الخالص إلى وضع مناهج الإصلاح العملي، وبدءوا بالتمييز بين العادات والسنن الصالحة بالطبع والأخرى الفاسدة بالطبع، ويقتضي هذا إيجاد المثال المشترك للطبيعة الإنسانية، وإيجاد هذا المثال المشترك يكون عن طريق يضيئه نور العقل ونور التجارب معا؛ أي نور التاريخ، ولكن بشرط أن يكون تاريخا من نوع جديد.
وكل عصر يطلب تاريخا «جديدا»؛ فروى القديس أوجسطين قصة الإنسان لعصره، وطلبت العصبية القومية تاريخا يمجد الملوك أو الشعوب، وطلبت البروتستنتية تاريخا يؤيد دعواها، والكاثوليكية كذلك، وفي القرن السابع عشر حينما خفت حدة الصراع بين الفرق شيئا ما، قام عصر التحقيق في وقائع التاريخ، ولكنه لم يرض القرن الثامن عشر؛ «فالتحقيق» أخرج نوعا من التاريخ فاترا كليلا، والكتب التاريخية العامة التي وصلتهم لم ترضهم؛ لأنها إما أن تكون قد قامت على أساس الصورة الواردة في الكتب المقدسة، وإما أنها لا تحتوي إلا على الحروب والوقائع والمعاهدات والأنساب والمصاهرات، فكان الجواب إذن ألا يكتب التاريخ الجديد إلا الفلسفة.
نرى إذن أن لا وجه لما زعموه في القرن التاسع عشر عن عصر الاستنارة من أنه كان «لا تاريخيا».
ويتلخص المنهج المثالي للمؤرخين في القرن الثامن عشر في ملاحظة ما كان للشعوب في جميع الأزمنة والأمكنة من أفكار وعادات ونظم، ثم المقارنة بينها، ثم حذف ما كان يبدو خاصا بمكان أو بزمان معين، والحاصل هو المشترك بين بني الإنسان أجمعين، وهو زبدة التجارب، ومنه تستخرج المبادئ الثابتة للطبيعة الإنسانية، فالمنهج هو الطريقة الموضوعية الاستقرائية العلمية.
هذا هو المنهج المثالي، ولكن الواقع كان شيئا آخر، كان الواقع أنهم بدءوا، وقبل أن يرجعوا للتاريخ، بحصيلة من المبادئ الثابتة العامة للطبيعة الإنسانية، ولم يرجعوا للتاريخ إلا ليلتمسوا فيه إثباتا وتأييدا لها؛ أي إن ما أنكروه على الدينيين من تحريفهم التاريخ لينطبق على الكتب المقدسة وقعوا هم فيه أنفسهم، وصح بذلك ما عبر عنه فولتير في قوله: ما التاريخ إلا حاصل احتيال الأحياء على الموتى!
وبعد فما هي المبادئ التي قلنا إنهم بدءوا بها: (1)
إن الإنسان ليس آثما خسيسا بالجبلة، بل هو طيب ميال لاتباع العقل، كريم رءوف سمح، هدايته بالنصح والإغراء أسهل من قيادته بالقسر، مواطن صالح، رجل فضيلة، يقدر تماما أن الحقوق التي يطلبها لنفسه هي حقوقه وحقوق غيره، وهي طبيعية غير قابلة للتقادم، وأن تمتعه بها يقتضي منه أن ينزل طوعا على حكم الحكومة العادلة، فيلتزم بما ترسم من التزامات، ويذعن لما تفرضه من حدود من أجل الصالح العام. (2)
إن غاية الحياة هي الحياة نفسها، غايتها الحياة الطيبة في الدنيا لا حياة الغبطة بعد الموت. (3)
إن الإنسان قادر بهدى العقل والتجربة فقط أن يبلغ بالحياة الطيبة حد الكمال. (4)
إن الشرط الأول للحياة الطيبة إطلاق العقول من ضلال الجهل والخرافة، والأجساد من قهر السلطات الاجتماعية وجورها.
وقد اطمأن الفلاسفة إلى أن التاريخ سوف يؤيد تلك المبادئ التي كشف عنها العقل والحجى، ولكن على أن يعينوا التاريخ على أداء هذا، فغمروا بعض جنباته بالنور، وتركوا البعض منها في ظلام دامس، وجعلوا للبعض الآخر نصيبا من النور، فكان أقل عتمة، ففرقوا بين عصور طيبة وأخرى خبيثة، فأما الخبيثة فكانت ما سموه بالعصور «المظلمة»؛ أي العصور التي سادتها الفلسفة المسيحية بلا منازع لها، وأما العصور الطيبة السعيدة فهي عصرا بريكليس في أثينا وأجسطوس في روما، ولا بدع في ذلك فإن ثقافة الفلاسفة بلا استثناء كانت ثقافة يونانية رومانية خالصة، وعصر النهضة الأوروبية أو الحركة الإنسانية وعصر لويس الرابع عشر والقرن الثامن عشر، وهي العصور الأربعة السعيدة في نظر فولتير، وقد أضاف الفلاسفة إلى هذه العصور الأوروبية عصور الحضارات الآسيوية قبل أن تنكب الشعوب غير الأوروبية بفقدان استقلالها، وبما جره الاستعمار الأوروبي عليها من بؤس وشقاء.
وهكذا يؤدي التاريخ الجديد إلى التمييز - الذي عجز العقل الخالص بمفرده عن أدائه - بين ما هو صالح وما هو فاسد بالطبع، وهو يؤيد ما قضى به العقل من كون الفلسفة المسيحية عدوة الإنسانية.
ولنوضح هذا بوصف موجز لأشهر مؤرخي العصر:
مابلي:
قرر أن فرنسا كانت تنعم منذ أيام شارلمان على الأقل بدستور جيد، وكان يمكن أن يبقى لها لولا طغيان القسيسين والفوضى الإقطاعية، والدستور ممكن استخلاصه مما تراكم عليه، وهو بقليل من «الصقل» يصبح صالحا لفرنسا من جديد.
هيوم:
إن تاريخ أي شعب من الشعوب الأوروبية كان يمكن جدا أن يكون كتاريخ إنجلترا لولا ما حدث للشعوب من طغيان الملوك ورجال الحكم ودسائس القسيسين وغلبة حب الدنيا عليهم، وجموح التعصب الديني وأوهام السفلة من الشعب، وهذه - كما ترى - شرور لا يخفى أمرها، ولا يستعصي علاجها.
رينال:
درس رينال فضائل الشعوب على الفطرة وما جلبه عليهم الاستعمار الأوروبي من بؤس وفساد، ويشارك رينال بذلك في نوع من الأدب أقبل عليه الناس إذ ذاك، وهو وصف المجتمع الأوروبي كما يراه غير الأوروبيين، من قبيل الرسائل الفارسية لمونتسكييه وما إليها.
فولتير:
يذهب في كتابه المشهور «السنن والآداب والعادات» إلى أن تاريخ الأحداث الكبرى لا يعدو أن يكون تاريخ «جرائم»، وإلى أن العصور المظلمة هي عصور سيادة الكنيسة، وأن العصور السعيدة هي عصور انطلاق العقل، إلخ، وهذا - بلا شك - قليل جدا مما في الكتاب، ولكنه القليل الذي لاءم القرن الثامن عشر.
مونتسكييه:
ينبغي ألا يغفل القارئ أن الرجل كان من «نبلاء» القرن الثامن عشر، وأنه كان مباشرا لشئون العامة، وأنه كان أريبا في تصريفها، وأنه واسع الاطلاع دائم التفكير في مسائل الإنسان والعالم، يدون ملاحظاته ويستحضر من مطالعاته وتجاربه الشواهد التي توضحها، فليس كتابه «روح الشرائع» رسالة علمية، بل هو مجموع أفكار وتأملات منفصلة، ولا يهم مونتسكييه إن كانت الواقعة من الوقائع قد وقعت فعلا أو لم تقع، بل يكفيه منها أنها كانت ممكنة الوقوع أو واجبته، وليس المهم إذن التحقيق بقدر كيفية استخدامها لتوضيح ما قرره من المبادئ العامة.
جيبون:
كان المؤرخ الذي هاجم العدو - السيادة المسيحية - في عقر داره، وكتابه خطبة رثاء للحضارة القديمة، وهي في نظره خير ما أخرج للناس، ووصف موتها على يد «البربرية والديانة».
جملة جيبون هذه «انتصار البربرية والديانة» تكشف تماما عن نوع التاريخ الجديد الذي طلبه القرن الثامن عشر.
ولئن كانت البشرية قد ذهبت ضحيتهما، فقد آن الفرج، فها هي ذي تخرج من ظلمات الماضي لتدخل في نور عصر الاستنارة، وهو عصر يفصل بين ماض ومستقبل، وهو خير قطعا مما سبقه.
ألا ينبغي أن يكون المستقبل خيرا من الحاضر؟ فليولوا وجوههم نحوه، نحو أرض الميعاد والبعث الجديد.
المحاضرة الرابعة: فوائد الخلف أو أطوار العلاقة بين الحاضر والماضي والمستقبل
يتكون الزمان الحاضر - بالنسبة للفرد وبالنسبة للجيل - من ماض يستذكر، ومحسوس يدرك، ومستقبل يتوقع، فهو قطعة واحدة نسيجها من خيوط الماضي والحاضر والمستقبل.
وقد مرت العلاقة بين الحاضر وحيزي الزمان المعروفين بالماضي والمستقبل في أطوار، فكانت عند اليونان نظرية الكون والفساد المتكررين في أكوار إلى ما لا نهاية، فالزمان عندهم عدو الإنسان، والتاريخ يتكرر فسادا وكونا أكوارا في غير نهاية، والحياة البشرية يتحكم فيها قضاء جبار لا تفلت منه أبدا، وهي ملحمة بلا خاتمة سعيدة، أو بعبارة أصح بلا خاتمة بالمرة، وأما في الصورة المسيحية فالأمر جد مختلف.
للبشرية عصر ذهبي عند بدء الخليقة في جنة عدن (وهو أبهى وأثبت وجودا من الحلم اليوناني المبهم)، وهو من إنشاء الله الواحد الحق العالم المريد للخير (لا من إنشاء الأبطال في الأساطير اليونانية)، ثم كان الهبوط من الجنة وشقاء البشرية، ولكن الصورة المسيحية فتحت باب الرجاء ، ولا بدع فرسالة المسيحية كانت للمعذبين والمحرومين ومن إليهم من عامة الخلق، فمحت عالما يائسا عاجزا، وأقامت محله عالم الأمل والرجاء، وأكسبت وجود الفرد في الدنيا قدرا وقيمة ومعنى، وعلمته أن سوف تكون خاتمة، وأن الله سيقضي بين الخلق، وأن الأشرار سيعاقبون والأخيار سيثابون.
وهكذا خلصت الصورة المسيحية الإنسانية من أغلال القنوط ورق الأكوار التي عقدتها الوثنية حولها.
وقد لاحظ الفلاسفة في القرن الثامن عشر أن هذا التأويل قد ملك على الناس ألبابهم، وأن من العبث أن يقابلوه إلا بتعديله بفكرة أخرى مشتقة من نفس مصدره: فالمعاني - كالرجال - لا يقع بينها قتال إلا إن تقابلت، وتماست، وتصادمت على مسطح واحد، ولذا نجدهم يعملون من جانبهم على أن يعدوا الإنسانية بعالم أفضل، وهذا العالم الأفضل يكون في المستقبل؛ إذ الحاضر بعيد عن الكمال، وهو أيضا لا يتحقق إلا بجهد الإنسان ومجاهدته في سبيل الإصلاح المطرد، وهذا الجهد يقوم على اتصال جهد الأجيال في الحاضر والمستقبل؛ أي إن الخلف له نصيب في بناء الفكر الحاضر.
ومن المفكرين السابقين إلى هذه الفكرة - فكرة اتصال الأجيال - فرنسيس بيكون، كما كان منهم بسكال، وقد عبر عن هذا في قوله: «يجب أن نعد جميع أجيال البشر التي تتعاقب على مر العصور كما لو كانت إنسانا واحدا، لا يموت أبدا، ويزداد تعلما دائما.» وتتصل بهذه الفكرة أيضا «المعركة» الأدبية المشهورة بين أنصار الأقدمين وأنصار الأحدثين، وكان فونتنيل خير من تحدث في الموضوع، انتصر للأحدثين، وبنى حجته على النظرية الديكارتية في اطراد الطبيعة، بيد أنه في المفاضلة بين القديم والحديث فرق بين العلم والفنون، ففي الغالب لن يفوق الأحدثون الأقدمين في الشعر وسائر الفنون؛ إذ إن مبعث الشعر والفنون في الشعور الوجداني، وأما بالنسبة للعلم فهذا شأن آخر، فالعلم ينمو بنمو المعارف وبارتقاء طرق الاستدلال، والأحدث زمنا يفوق الأقدم في العلم.
وعلى هذا فيدل كلام فونتنيل على أنه تصور وجود نوع من التقدم يجري تدريجا، ولكن لم يدر في خلده أو في خلد أكثر معاصريه أن يتوقع تغيرا تاما وصلاحا كاملا في الأخلاق أو في النظم الاجتماعية، وفرق بين أن يلهو الأدباء بفكرة الأوتوبيا كما أخرجها توماس مور أو بيكون لهوا بريئا، وبين إعدادها لتكون سياسة الغد في فرنسا، ولكن هذا هو الذي حدث في فرنسا قرب نهاية القرن الثامن عشر، دفع المفكرين إليه ازدياد السخط على سوء الأحوال الاجتماعية، واستسهال التغيير، فالدلائل تدل على أن التقدم شيء مطرد، وأن الإنسان قابل للكمال المطلق، وكانت تعرو الفلاسفة - وكذلك زعماء الثورة الفرنسية فيما بعد - لذكر الخلف هزة وجدانية بل ودينية، وأحيانا كان الانفعال يبلغ بهم أن كانوا يجعلون من الخلف شخصا ماثلا يتوجهون إليه بعبارات الابتهال.
وقد لاحظ المؤرخ «دي توكفيل» منذ نحو قرن من الزمان، أن الثورة الفرنسية كانت ثورة سياسية، اقتبست من الحركات الدينية خطط العمل والأساليب، فاكتسبت الشيء الكثير من خصائص تلك الحركات، فتدفقت - كما تدفق الإسلام أو الحركة البروتستنتينية - عبر الحدود بين الممالك والشعوب وانتشرت بالتبشير والدعوة، والثورة الفرنسية تراعي (كالأديان) في اعتبار الإنسان كونه إنسانا لا انتسابه إلى أمة معينة، ولم تقرر الثورة الفرنسية حقوقا خاصة بالمواطنين الفرنسيين، بل قررت حقوق الإنسان وواجباته أينما كان، والثورة الفرنسية عملت على أن تجعل من بني الإنسان خلقا جديدا أكثر مما عملت على إصلاح أحوال الأمة الفرنسية، ولهذا كله بعثت الثورة في أنصارها وفي خصومها على السواء من الانفعال والحدة والحمية ما لم يعهد له مثيل من قبل في أشد الثورات السياسية عنفا؛ ولهذا أيضا نشط أنصارها لتنظيم الدعوة إليها، بل وامتشقوا الحسام لحمل الناس على الإذعان لها.
وعلى هذا فلنا أن نقول: إن الثورة الفرنسية تحولت فعلا إلى حركة دينية من نوع جديد، وقد يقال إنها ثورة دينية من نوع ناقص، فلم يكن لها إله، ولم تكن لها عبادات وطقوس ولا حياة أخرى، ومهما يكن فالثابت أنها ملأت العالم جندا ورسلا وشهداء.
والملاحظة عميقة دقيقة، ولكن - على الضد مما زعم دي توكوفيل - كان للثورة إلهها في مبادئ الحرية والمساواة المقدسة، وكانت لها عباداتها في مراسم الثورة الكبرى، وكان لها قديسوها في أبطال الحرية وشهدائها. •••
ومضت مائة عام على سقوط الباستيل، تم في أثنائها الانقلاب السياسي الاجتماعي الذي تولد عنه العالم الذي شهدناه قبل الحرب العالمية الأولى.
وهذا الانقلاب لم يتم دون الترخص في حق مبادئ الثورة الفرنسية ودون التساهل والتحريف عند تطبيقها، والترخيص والتساهل لم يكونا شيئا قليلا ولا شيئا مستورا.
ففي فرنسا، شتان ما بين الجمهورية المثالية التي كانت حلم سنة 1793 والجمهورية الثالثة التي كانت من إنشاء الملوكيين لما اختلفوا فيما بينهم، وبدأت جمهورية بلا دستور، بل وبلا إعلان لحقوق الإنسان.
والوحدة الإيطالية، فرق بين ما كان يحلم به مازيني وبين ما حققه كافور بالخداع السياسي، وبمعونة نابليون الثالث عدو الحرية في بلاده.
والوحدة الألمانية، كانت من إنشاء بسمارك، ثمرة الدم والحديد، وماذا نالت ألمانيا المتحدة، سوى حق التصويت العام، لترسل نوابا عنها لا يتجاوز سلطانهم إلقاء الخطب واتخاذ القرارات.
والإمبراطورية النمسوية المجرية، على ما غرفتها الأيام السابقة للحرب العالمية الأولى، كانت وليدة الاتفاق بين ألمان الإمبراطورية ومجرييها على التسلط على الشعوب غير الألمانية وغير المجرية الخاضعة لسلطان آل هابسبرج.
فالانقلاب العظيم كان على الوجه الذي تم عليه خيانة لآمال الدعاة الذين بشروا به، ولما تحقق سواد الناس من أن حكوماتهم على ما هي عليه من تلويث وقهر لا تعدو أن تكون نوعا من الحكم أقرب إلى السوء منه إلى الجودة، وأن إزالة الضيم القديم لم تؤد في الواقع إلا للإفساح لضيم جديد، انقسموا فريقين: المترفون أو الراضون عن عيشهم أو عن أنفسهم، وهؤلاء ظلت العقيدة الديمقراطية على ألسنتهم كلمات بلا روح، وأما الساخطون فقد نبذوا تلك العقيدة ليتبعوا ما بشر به كارل ماركس وأنجلز.
وقد أقام كارل ماركس المذهب الشيوعي على قوانين الطبيعة، كما دل عليه العلم على عهده، والمذهب في هذا مثل دين الإنسانية في القرن الثامن عشر، وكتاب رأس المال يقوم على أساس من جدل هيجل ونظريات داروين في التطور، إلا أن الشيوعية أقل توكيدا لأثر الفرد في الأحداث، وهي لا تحلم بجنة كانت أو بعصر ذهبي كان، ولا تؤمن بأن بعث خلق جديد سيتم عن طريق انتشار النور وطيب الطوية، فالماضي كان حربا لا هوادة فيها، ولا رحمة بين قوى مادية، حربا تحركها المصالح الاقتصادية للطبقات والطوائف، ومن هذه الحرب نشأ نظام الأرستقراطيين أصحاب الأرض في العصور الوسطى، ثم حطمت حرب المصالح هذا، وأحلت محله النظام الرأسمالي البورجوازي الذي بلغ أشده في القرن التاسع عشر، وسوف تحطمه بدوره لصالح البروليتاريين.
والآن، وفي أيامنا، أقيم المشهد الأول من الانقلاب الجديد، فبدأت الثورة الروسية في سنة 1917.
وبين الثورة الفرنسية والثورة الروسية فروق، ولكن الفروق تتضاءل إذا ما نظر إليها من بعيد، والاتفاق بين الثورتين على الأساسيات أهم من الاختلاف بينهما، ونحن ورثة الثورة الفرنسية، نغفل عن الاتفاق؛ أولا لأن الثورتين تسميان الأشياء بأسماء مختلفة، وثانيا لأننا ورثة الثورة الفرنسية سنكون المجني عليهم إن قدر للثورة الروسية التغلب على العالم الغربي.
ولننظر إلى بعض وجوه الاتفاق؛ اتخذت الثورة الروسية ما اتخذته الثورة الفرنسية بحكم الاضطرار، فأقامت ديكتاتورية «الأمناء» على الثورة. والثورة الروسية دعت المحرومين للاتحاد، والثورة الفرنسية دعت الشعوب للعمل ضد الحكومات، والثورة الروسية لا ترمي إلى الإصلاح فقط، ولكن إلى إنشاء حياة كاملة جديدة صالحة لكل زمان ومكان، والثورة الفرنسية كانت ترجو أن تحقق هذا. والثورة الروسية يعتبرها خصومها أداة الهدم والإنكار، أداة الإلحاد في الدين والفوضى في المجتمع، وقديما قال خصوم الثورة الفرنسية فيها مثل هذا.
ولو رأى في سنة 1815 أولئك الخصوم - خصوم الثورة الفرنسية، قادة الحركة الرجعية في أوروبا - مقدار ما تحقق في خلال القرن التالي مما كرهوا، لهالهم ما يرون هولا شديدا، ترى ماذا يضمر القرن التالي لسنة 1917 لخلفنا؟ ترى أتكون كلمة الدين الجديد هي العليا؟ وهذا بغض النظر عما إذا كان هذا سيتحقق تدريجا، وبغض النظر عمن يتولى مقاومته، وعن مقدار ترخيص الشيوعيين بالنسبة لمبادئهم وتخفيفهم من غلوائهم وبطشهم بأعدائهم.
وليس هذا بالشيء المستحيل، فقد بدأنا نسمع في معاقل الرأسمالية في الغرب كلاما جديدا، بدأ الناس يقولون: إن المجتمع الغربي وقد أصاب ما أصاب من تقدم في استعمال الآلات، وملك ما ملك من موارد القوة، قد أصبح أحوج إلى الإشراف والتوجيه منه إلى الحرية، ومهما يكن فلا يزال في الوقت فسحة، وقرن من الزمان ليس بالشيء القليل، ومن الجائز أن يعم في أثنائه النظام الاقتصادي الموجه - ولنسمه كذلك أو لنسمه الشيوعية - إلى العالم الغربي بأسره، زعما من الشعوب بأنه النظام الوحيد الذي يحقق للإنسان العدالة الاجتماعية والأمن والرخاء، إن كان هذا هو الذي سيحدث فليس بمستبعد أن الخلف في سنة 2032 سيحيي ذكرى نوفمبر 1917 على اعتبار أنها كانت مبدأ التحول السعيد في تاريخ الحرية الإنسانية، كما نحتفل الآن سنويا بيوليو 1789.
وبعد فما الرأي الذي يجب أن ننتهي إليه بالنسبة ليوليو 1789 ونوفمبر 1917 وما إليهما من أيام الإنسانية الكبرى، هل هي بوادر الاقتراب من الأوتوبيا؟ وهل يصح أن نرى في الثورة الروسية مرحلة جديدة من مراحل التقدم الإنساني نحو الكمال كما كانت الثورة الفرنسية في دورها مرحلة من مراحله؟ أو أن الأصح هو أن نقول ما قاله ماركس أوليوس: «إن الرجل في سن الأربعين، إن كانت له حبة من الفطنة يكون قد رأى - بموجب ما بين الأشياء من مماثلة - كل ما كان وكل ما سيكون.» (3) نقد الكتاب
اخترت كتاب كارل بيكر من بين الكتب الكثيرة جدا التي عالجت موضوع الفكرة السياسية والاجتماعية في القرن الثامن عشر للنقل إلى اللغة العربية، وعلي أن أشرح أولا وجه الاهتمام بالقرن الثامن عشر، وثانيا أسباب اختياري لهذا الكتاب بالذات.
فأما وجه الاهتمام بالقرن الثامن عشر فهو راجع لاعتقادي أن من مبادئ ذلك العصر السياسية والاجتماعية ما لا يستطيع جيل من أجيال الإنسانية أن يعاديه أو أن يغفله أو يزدريه إلا وهو مجازف - على الأقل - بما هو أثمن ما في الذخيرة الروحية لبني الإنسان، وقد يكون القرن الثامن عشر قد أسرف في الاطمئنان إلى حكم «العقل» أو إلى قابلية الإنسان للكمال المطلق، أو إلى اطراد التقدم من أدنى إلى أعلى ومن حسن إلى أحسن، أو إلى أن هداية الإنسان بالنصيحة والإغراء أسهل من قيادته بالقسر، أو إلى أن إطلاق العقول من ضلال الجهل والخرافة والأجساد من قهر السلطات الاجتماعية وجورها، يكفي تماما لتحقيق الحياة الطيبة، قد يكون القرن الثامن عشر قد أسرف في إيمانه بالإنسان وعقل الإنسان، وقد يكون أسرف في الإيمان بما سماه الطبيعة أو نظام الطبيعة، وقد يكون أغفل «حرب المصالح» أو حرب الطوائف والطبقات، أو قرأ في التاريخ ما أحب أن يقرأ في التاريخ، وقد يكون العلم الحديث أثبت - أو لم يثبت، لا أدري - أن العوامل الخفية المحدثة للأشياء لا يمكن إدراك كنهها، أو أن الحق هو الواقع أو النافع أو ما إلى ذلك، أو أن فرويد - أو غير فرويد، لا أدري - قد كشف عن قرار مظلم مهول في أعماق النفس أو ما إلى ذلك، قد يكون هذا كله أو بعضه صحيحا، ولكن لا يزال هناك بعد محل للإيمان بنعمة العقل وبالحرية وبالإخاء وبالمساواة، وبأن الصلاح قد يكون ثمرة الجهد المبذول للإتيان به عن قصد وتدبير.
وفلسفة القرن الثامن عشر كانت الفلسفة الأوروبية التي اتصلنا بها حينما عاد الاتصال بيننا وبين أوروبا منذ أوائل القرن التاسع عشر، وأعتقد أنها كان لها تأثير عميق في حياتنا الفكرية، وفي تطورنا السياسي على حد سواء، وهذا في نظري مبرر آخر لدراستها في موطنها الأصلي.
وكتاب كارل بيكر بالذات وجدته من أجود الكتب لهذه الدراسة، أولا؛ لأنه يفي بما أعتقده شرطين أساسيين لأية دراسة حقة للفكرة السياسية والاجتماعية لعصر من العصور، فالشرط الأول: أن يوضح المؤلف العلاقة القائمة بين الفكرة في ذاتها وبين فكرة العصر عن الطبيعة الإنسانية، وبين الفكرة أيضا وبين فكرة العصر عن مكان الإنسانية في الكون، أو بعبارة أخرى، فكرة العصر العلمية والتاريخية. والشرط الثاني: أن يوضح المؤلف العلاقة بين الفكرة في العصر الذي يدرس والفكرة في العصور التي سبقتها، وفي العصور التي لحقتها، وقد أجاد بيكر كل الإجادة في الوفاء بالشرطين على وجه ممتع طريف، وإلى حد مبتكر، فالمحاضرة الأولى تصور «الجو الفكري» الذي ساد العصور الوسطى والقرن الثامن عشر والعصر الحديث، والمحاضرة الثانية تصور عنصرا أساسيا في فكرة القرن الثامن عشر، ألا وهي تصور ذلك القرن للطبيعة ونسق الطبيعة، والمحاضرة الثالثة تصور فكرة القرن الثامن عشر عن التاريخ، والمحاضرة الرابعة تصور فكرة القرن الثامن عشر عن الاتصال بين الحاضر والماضي والمستقبل.
وأما ما أحب أن أنبه القارئ إلى وجوب ملاحظته لتكون الصورة التي صورها بيكر للقرن الثامن عشر أدق - فيما أعتقد أنا - فينحصر فيما يلي:
أولا:
أن الثورة الفرنسية كانت الخاتمة الوحيدة لفكرة القرن الثامن عشر.
ثانيا:
بيان الصلة بين الثورة وفكرة القرن الثامن عشر، وعلى أي وجه فكري تم الاتصال بينهما.
ثالثا:
الصلة بين الثورة الروسية والثورة الفرنسية.
عالج بيكر أمر الثورة الفرنسية في الصفحات الأخيرة من محاضرته الرابعة دون أن يوضح إطلاقا الصلة الفكرية بين نظرية الثورة وبين حركة الاستنارة، وأحب أن أوضح أني لا أطلب منه أن يتكلم في أسباب أو في ظروف الثورة الفرنسية، فهذا شيء آخر، ليس من موضوعه، ولكني أحب أن أقول: إن من عناصر حركة الاستنارة ما يفضي إلى المحافظة أو إلى الإصلاح المعتدل أو التدريجي، كما أن منها ما يفضي حتما إلى فكرة «الثورة» أو الانقلاب، وإهمال بيان هذا هو ما آخذه على بيكر؛ فمثلا «فكرة المنفعة» أو الحكم على النظم بمقدار ما تحققه من منفعة، هذه الفكرة عرض لها بيكر عرضا موجزا دون أن يبين أنها ربما كانت الأثر الأكبر لحركة الاستنارة في إنجلترا، ويقرر بنتام رأس مذهب «المنفعيين» أنه اقتبس فكرته من هلفسيوس بالذات.
وهكذا تجد عنصرا هاما من عناصر الاستنارة يفضي لا إلى الثورة، بل إلى الإصلاح عن طريق الأدوات التشريعية القائمة.
ومثل آخر، استمدت الثورة الأمريكية من حركة الاستنارة عنصرا معينا ألا وهو العمل على حماية الفرد لأقصى حدود الحماية بتقييد سلطان الحكومة بشتى القيود، وهذا على أساس نظرية الحقوق الطبيعية للإنسان، وعلى أساس الحريات والحقوق المكتسبة للأمريكي من القانون الإنجليزي - وكان هذا القانون مما ورثه الأمريكيون عن صلتهم بإنجلترا قبل الاستقلال، وهكذا تجد عنصرا آخر من عناصر حركة الاستنارة يفضي إلى ثورة اسما، ولكن شتان ما بينها وبين الثورة الفرنسية.
وقد كانت نظرية «الإرادة العامة» عنصرا من عناصر حركة الاستنارة، أكسبها القوة المحدثة للانقلابات الثورة، وكان لجان جاك روسو بصفة خاصة الأثر الأكبر في تقرير هذه النظرية وبسطها.
و«الإرادة العامة» ليست إرادات الأفراد مجتمعة، وليست إرادة الأغلبية من الشعب، وليست مما يظهره تصويت وانتخاب أو مداولات مجالس نيابية أو ما إلى ذلك، بل هي قوة خفية أو هي روح، والإرادة العامة هي التي تجعل «الانسجام» الموجود في الطبيعة بالقوة موجودا بالفعل.
وعلى أساس التعبير عن «الإرادة العامة» قامت دكتاتورية اليعاقبة على اعتبار أنهم الأمناء حقا على الثورة وعلى مصالح الشعب، وأنهم الكفيلون بإنقاذ الشعب من أعدائه الداخليين والخارجيين، وعلى أساس الإرادة العامة قامت ديكتاتورية نابليون قنصلا فإمبراطورا، على اعتبار أنه أصدق تعبيرا عن تلك الإرادة العامة من الهيئات النيابية وما إليها، وعلى أساسها أيضا قامت دكتاتورية مصطفى كمال وهتلر وموسوليني، وعلى أساسها أيضا قامت دكتاتورية الكرملين من لينين إلى ستالين إلى من حل محله، وجوهر الفكرة أنها نظام انتقال تقتضيه الظروف إلى حين، وجوهر الفكرة أيضا أن التعبير عن الإرادة العامة لا يستلزم مطلقا إرضاء رغبات الشعب أو شهواته أو ميوله أو مثله العليا، فقد يحمل المعبر عن الإرادة العامة الشعب على ما يكره، وهذا طبعا لمصلحته في النهاية.
ولقد عقد كارل بيكر فقرات طريفة للاختلاف والاتفاق بين الثورة الفرنسية والثورة الروسية، والتعديل الوحيد الذي أدخله على حديثه في هذا، هو أن أضيف إليه أن الثورة الروسية - أو بعبارة أدق - الماركسية نبتت من بذور بذرت في عصر الاستنارة وعصر الثورة الفرنسية، وأن من تلك البذور ما أنبت مبكرا، ففي عصر الثورة الفرنسية كانت حركة بابيف الشيوعية، ومنها ما نبت في عقول الأفراد والجماعات في خلال القرن التاسع عشر، ومنها ما نبت في حركة الكومون في باريس في أثناء الحرب بين فرنسا وألمانيا في سنة 1870، إلا أن هذه الأشتات وهذه التيارات لقيت في كارل ماركس من ينسق ويؤلف بينها، كما لقيت في شخص لينين من يعرف كيف يخرجها في ثورة أو انقلاب.
وتحدث كارل بيكر عن علة إغفال المعاصرين للثورة الروسية للاتفاق بينها وبين الثورة الفرنسية حديثا جيدا، ولكنه لم يذكر سببا أراه جوهريا، وهو أن الثورة الفرنسية - من حيث نظريتها - اعتبرت حق الملكية الفردية من حقوق الإنسان الطبيعية، ومن حيث الواقع جرت حكومات فرنسا في عصر الثورة سواء أكانت جمهورية أم إمبراطورية على خطط العهد السابق للثورة في حماية المصالح الاقتصادية للبلاد، وقد خرجت الحكومات الفرنسية بهذا على مبدأ هام من مبادئ حركة الاستنارة، ألا وهو أن إطلاق الحرية يتيح المجال للانسجام الطبيعي ليفعل فعله من أجل الخير العام، والفرق بين الثورتين الفرنسية والروسية في هذا كله يرجع إلى التطورات الاقتصادية الخطيرة التي بدأت معاصرة للثورة الفرنسية، واستمرت تنمو إلى أن عمت العالم بأسره في خلال القرن التاسع عشر.
وقد ختم كارل بيكر الحديث كله بالتساؤل، ولا أظن أي مؤرخ يستطيع أن يفعل شيئا آخر.
13
محمد شفيق غربال
يونيو سنة 1945
كلمة المؤلف
يتكون هذا الكتاب من أربع محاضرات ألقيتها في كلية القانون بجامعة ييل في أواخر شهر أبريل 1931، وكان ذلك برعاية مؤسسة ستورز.
وحينما أخذت في إعداد المحاضرات للنشر، أدخلت في نصها عددا قليلا من التغييرات أغلبها لفظي، وأضفت إلى المحاضرات الثانية والثالثة والرابعة المدونة في هذا الكتاب مقتبسات معينة لم يتسع لها الوقت عند الإلقاء.
وإني أشكر كل الشكر لأعضاء هيئة التدريس والطلاب في كلية القانون، وفي قسم التاريخ بجامعة ييل احتفاءهم بي في أثناء إلقاء هذه المحاضرات.
كارل بيكر
إيثاكا، نيويورك
مايو سنة 1932
الجو الفكري في مختلف العصور
ما أيسر أن تفقد الخرافة سطوتها حين تعترض غرورنا بدلا من أن تتملقه! وشأن الخرافة في هذا شأن وهميات أخرى كثيرة.
جيتة
1
لي - مثل الكثيرين من الناس - آراء معينة أتمسك بها، وأومن بصوابها؛ لأنها تستند استنادا منطقيا إلى حقائق مشهورة بينة، وكثيرا ما أضيق بالصديق الحميم الذي لا يسلم لي برأي أعتز به، قد أجده يصر على الإنكار حتى بعد أن أعرض عليه جميع الحقائق المتعلقة بالرأي الذي يرفض، وحتى بعد أن أظهره المرة بعد المرة على خطوات الاستدلال المنطقي التي ينبغي لها أن تقنع أي رجل منصف معتدل، والذي يزيد في ضيقي به أنه في الغالب لا يستطيع تفنيد حجتي، ومع ذلك، ومع أنه يسلم بها رغم أنفه، فإنه يبقى متمسكا برأيه، وينتهي بي الأمر إلى أن أعتقد أن صديقي، وا أسفاه، قد ختم الله على عقله أو أغشى على بصيرته الانفعال أو الانقياد للهوى، والانسياق وراء الخيالات، فصار بهذا كله لا يبصر الحق.
وقد أغفر لصديقي الانقياد للهوى وانحرافه عن الطريق المستقيم، أفعل ذلك لأني أعرف أثر الهوى في سوء الحكم، ولأني أراها هنة هينة وخطأ كان يصح جدا أن أقع فيه أنا نفسي، لولا أن الله سلم.
والواقع أني وصاحبي هذا لسنا دائما على هذه الدرجة من الاختلاف، بل على العكس، إن آراءنا في القضايا الكبيرة جد متقاربة؛ وذلك لأننا - كما شاءت لنا المقادير - أستاذان جامعيان، اكتسبنا نفس التجارب واهتممنا بنفس الأشياء، وهو وأنا نتفق عادة على نوع الحقائق التي يصح اعتبارها مكونة لقضية ما، وعلى نوع الاستنباطات التي يصح أن تقبل التصديق، فأكثر المقدمات التي يستخدمها كلانا والعبارات التي تدور على لسانينا بحكم العادة، هي مما ألف استعماله رجال التعليم في المدارس. ومع ذلك، ومع اتفاقنا التام على الأساسيات، فقد أقضي أنا وصاحبي الليل كله نتجادل متفقين على كل شيء سوى الرأي، على حد تعبير كارليل.
وهكذا نستطيع نحن الأستاذين أن نقضي ليلة بأسرها في جدل؛ وذلك لأننا متفقان، والحال غير ذلك إن اجتمعت أنا واجتمع هو برجال لا ينتمون إلى طائفتنا؛ برجال السياسة مثلا أو برجال الدين، والذي يحدث حينئذ أن ينقطع حبل المجادلة بحكم عدم وجود الاتفاق على الأساسيات، فما يعده رجل السياسة أو رجل الدين حقيقة جوهرية، قد لا نعدها نحن كذلك، فهي - في نظرنا - مشكوك في صحتها أو في أهميتها، وعمليات الاستدلال التي نراها مؤدية إلى الاقتناع يرفضها صاحبانا بشيء من الاستخفاف والعناد، وما هي في نظرهما إلا كلام النظريين الجامعيين، وهكذا لا تكاد جلسة السهرة تبدأ إلا وقد آن لها أن تنتهي؛ لأننا لا نجد ما نصل به سير المجادلة، وكيف نستطيع أن نواصلها وصاحبانا قد أفسد عليهما التفكير ما يعانيانه من تحكم الأهواء، وما يشاطران فيه أبناء طائفتيهما من استسلام بلا وعي لأفكار ومعان يتداولها الناس دون تثبت منها، فليس قصورهما إذن ذلك الأمر السطحي، الذي يرجع إلى قصور الذات فحسب، بل هو أعمق وأعم.
على أننا جميعا رجال الجامعة ورجال السياسة ورجال الدين، ننتسب لجيل واحد، فإذا ما قدر لنا أن نلتقي ببعض شخصيات بارزة تنتمي إلى جيل سابق، ظهرت لنا بلا شك أشياء وأمور تجمعنا نحن أبناء الجيل الواحد على الرغم من شدة ما بيننا من اختلاف، فلنقف هنيهة ولنطلق لخيالنا العنان، ولنر ماذا يكون إذا ما استحضرنا لعالمنا هذا دانتي وتوماس الأكويني، كما كان يستحضر علاء الدين الجن بمس مصباحه السحري، فإذا ما استجاب القديس توماس وحضر، فلا يليق أن نضيع وقته الثمين في التحدث عن حالة الطقس وما إلى ذلك، بل ينبغي أن نبادر فنطلب إليه أن يحدد لنا فكرة القانون الطبيعي؛ إذ إن عبارة «القانون الطبيعي» كانت شائعة الاستعمال في عصره، بقدر ما هي كذلك في أيامنا، ونحن نعرف أن القديس توماس كان دائما على استعداد لأن يحدد ويعرف، وإذن فهو لا يتردد في أن يحدد لنا فكرة القانون الطبيعي على النحو التالي، فيقول:
لما كانت الموجودات كلها المشمولة بالعناية الإلهية، يحكمها ويقدرها القانون الأزلي، فبين أن للموجودات كلها نوعا من المشاركة في القانون الأزلي، وذلك أنه من حيث إنها منطبعة به فهي تستمد منه نزوعها لأفعالها وغاياتها الذاتية. هذا وأكمل الموجودات خضوعا للعناية الإلهية هو المخلوق العاقل، وذلك من حيث إن المخلوق العاقل بما له من نصيب من العناية الإلهية لا تقتصر عنايتهعلى ذاته فحسب، بل تمتد إلى غيره، ومن ثم كان له نصيب من العقل الأزلي يستمدمنه نزوعا طبيعيا لفعله وغايته الذاتيين، وهذا الإشراق من القانون الأزلي في المخلوق العاقل هو ما يسمى القانون الطبيعي.
1
وقد نفضل بعد أن نسمع هذا التحديد الموجز الدال أن ننتقل من موضوع القانون الطبيعي إلى موضوع أوثق اتصالا بشئون السياسة العملية، وليكن مثلا «جمعية الأمم»، وهو موضوع كتب فيه دانتي طويلا، وإن كان قد سمى كتابه «في الملوكية»، ودانتي من أنصار جمعية الأمم، إن صح القول، وينتصر لها بالحجة التالية:
الجنس البشري كل بالنسبة إلى أجزاء معينة، وهو جزء بالنسبة إلى كل معين، فهو كل بالنسبة إلى ممالك معينة وشعوب معينة، كما سبق لنا القول، وهو جزء بالنسبة إلى العالم كله، وهذا بين بذاته، وإذن، فعلى النحو الذي تقابل به الأجزاء البشرية الجنس البشري باعتباره كلا يكون مقابلة الجنس البشري للكل الذي هو جزء منه، ومما سبق لنا بيانه يسهل علينا أن نرى أن مقابلة أجزاء الجنس البشري للجنس البشري باعتباره كلا تتم باتباع مبدأ واحد، ألا وهو أن تخضع لحكومة ملك واحد، فإذا ما حدث ذلك قابل الجنس البشري العالم الذي هو جزء منه، والعالم يحكمه ملك واحد، هو الله، فالمبدأ في الحالتين واحد، هو حكومة الملك الواحد، ونستدل بهذا على أن الملوكية، أو ما نسميه نحن جمعية الأمم، ضرورية للعالم من أجل صلاح حاله.
2
على أنه بعد أن يلقي دانتي بيانه هذا يتعثر سير المجادلة؛ إذ بماذا نستطيع أن نرد على حججه، أو على حجج القديس توماس؟ وهما قالا ومهما قلت فلا سبيل إلى أن أرى أنا أو يريا هما أننا نتكلم في الموضوع، وقد يشكل الأمر علينا فلا يسهل على واحد منا أن يتبين موقفه من المجادلة بالضبط، ولكنني أستطيع أن أتأكد على كل حال من أمر واحد، هو أن الرجلين يستعملان أسلوبا واحدا لإحاطة الموضوع بالغموض، وإذا ما أدركت هذا كله فإني أدفع نفسي وأحملها على حسن الظن، فألتمس لضيفي الجليلين عذرا، وأقول: إنهما ليسا هذه المرة على ما ينبغي لهما أن يكونا عليه من حسن التوفيق، ثم بعد ذلك أتمتم معتذرا أنهما لا يقدمان حججا بل هراء، ويصح جدا أن يكون الأمر كذلك، بل من المؤكد أنه بالنسبة لعقول الناس في أيامنا هذه هو ذلك، فلا يقدم عاقل في زمننا على أن يعيد طبع كتاب الملوكية للدعوة لتأييد جمعية الأمم، ومع ذلك فإني لا أستطيع أن أخفي عن نفسي أن دانتي والقديس توماس لم يكونا عديمي الذكاء، وكيف أظنهما كذلك، وقد شهدت لهما الأجيال المتعاقبة بأنهما كانا حقا من صفوة الخلق، وإذا كانا يتحدثان حديثا غير مفهوم، فلا يرجع ذلك إلى قلة الفهم من جانبهما، فإنهما كانا - على أقل تقدير - على تلك الدرجة من الفهم ومن العلم التي ننسبها لأولئك الذين تحدثوا في زماننا في موضوع جمعية الأمم، لها أو عليها، فهما - مثلا - لا يقلان ذكاء عن كليمنصو ولا يقلان علما عن ويلسون.
3
فكيف إذن نفسر الإشكال؟ قد ييسر لنا تفسيره أن نتذكر العبارة التي اقتبسها الأستاذ وايتهد
4
من أدب القرن السابع عشر، فذاع أمرها من جديد، وهي «الجو الفكري».
هذه عبارة لازمة جدا، ومؤداها أن ما تملكه حجة ما من قوة الإقناع أو عدمه لا يتوقف على المنطق الذي تعرض به بقدر ما يتوقف على الجو الفكري الذي تجد فيه قوام حياتها، وعلى ذلك فإن الذي يجعل حجج دانتي أو تحديدات القديس توماس عديمة المعنى في نظرنا، ليس سوء الاستدلال أو سقم الفهم، إنما هو كونها تنسب للجو الفكري الذي ساد العصور الوسطى، أو بعبارة أخرى، كونها ترتبط بأفكار فطرية معينة، وبنسق عالمي تصوري خاص، وهذا كله فرض على دانتي وعلى القديس توماس استعمالا خاصا للفهم، واستعمالا خاصا لنوع من المنطق، فإذا أردنا إذن أن نعرف علة عجزنا عن متابعة الرجلين في حججهما يلزمنا أن نفهم بالقدر الذي نستطيع طبيعة الجو الفكري في العصور الوسطى، فأقول:
من المعلوم تماما أن نسق العالم الذي عرفته العصور الوسطى له مصدران، منطق اليونان والتاريخ كما روته الكتب المقدسة النصرانية، ومعلوم أن الكنيسة هي التي تولت تشكيل ذلك النسق؛ إذ كانت هي الهيئة التي فرضت سلطانها خلال تلك العصور على المجتمع الأوروبي الغربي النازع إلى الفوضى والتفكك، وليس مما يصعب علينا أن نصف الجو الفكري إذ ذاك. لا يصعب ذلك؛ لأن العقل الحديث يجيد الملاحظة بما طبع عليه من حب الاستطلاع، كما يجيد العناية بدقة الوصف، ولكنه إذ يسجل ويصف لا يستطيع أن يحيا في جو العصور الوسطى، ومما كان يوقن به الناس إذ ذاك إيقانا لا يتطرق إليه الشك، أن الله الأب خلق العالم، بما فيه الإنسان، في ستة أيام، وأن الله عقل خير أحاط بكل شيء علما، وأنه خلق كل شيء لغاية، وإن كانت لا تدرك، وأنه خلق الإنسان كاملا، ولكنه عصى ربه فهوى من نعمته ورضاه إلى الإثم والضلال، واستحق بذلك المقت الأزلي، إلا أن الله أتاح له سبيل التفكير والنجاة بأن ضحى ابنه الوحيد بنفسه تقربا وزلفى، وبينما الإنسان في ذاته عاجز عن أن يتقي جزاءه العادل من غضب الله، إلا أن الله رحمة منه بعبده فتح للإنسان باب مغفرة الإثم والضلالة، إن هو تواضع وخضع لمشيئة ربه، وما الحياة الدنيا إلا طريق المغفرة، يمتحن الله فيها مخلوقاته، وعندما يأتي أمر الله، تكون نهاية الدنيا ويبيد العالم لهبا، وعندئذ يكون يوم الفصل، فأما العاصون المتمردون فيعذبون العذاب الأبدي، وأما المخلصون فيحظون بلقاء ربهم في جنة الخلد حيث الكمال والسعادة السرمديان.
فكانت الحياة، كما تصوروها في العصور الوسطى «دراما» تامة السبك، تدور حول فكرة رئيسية، ومسرحها الكون، صدرت عن مؤلف مهيمن، محيط، وتجري أحداثها ووقائعها طبقا لخطة معقولة، والدراما كاملة في عقل المؤلف قبل أن يخرجها بالفعل، مسطرة من قبل بدء الخلق لآخر حرف من حروف آخر كلمة تقع عند انتهاء الزمان، ولا يتطرق إليها تغيير ما، لا للخير ولا للشر، وليس للإنسان إلا أن يحاول فهم الحكمة أو العلة أو الغاية الإلهية بالقدر الذي يستطيع، ولكن لا سبيل له إلى تفادي واقعة من الوقائع أو حادثة من الأحداث جرى بها القضاء، إلى أن يحين الأجل المسمى، وواجب الإنسان جلي، هو أولا التسليم بأحكام القضاء؛ إذ هو لا يملك لها دفعا أو تبديلا، وهو ثانيا، أن يقوم بنصيبه في هذه الدراما الكونية العظمى، وهنا السؤال: كيف يتيسر له إحسان الأداء على الوجه الذي أراده المؤلف؟ لكي يتيسر له ذلك، تتولى السلطتان الخاضعتان لله والمستمدتان من مشيئته السلطان الشرعي على عباده - وهما الكنيسة والدولة - إلانة قلب الإنسان واجتذابه للخضوع الذي ينبغي للعبد، وتلقينه ما يلزمه لأداء العمل الذي قسم له، وهذه الغاية هي سر إقامة الكنيسة والدولة، ولا ينبغي بحال أن نتصور الحياة أمرا آليا، على الضد، لقد منح الله الناس نعمة العقل، وأوجب عليهم أن يستعملوه، ولكن كيف يستعملونه، ينبغي أن يكون ذلك في حدود، وأن يجري في نظام، فمثلا من العبث أن يستطلع العقل أصل الحياة أو نهايتها، ومن العبث ذلك؛ لأن الله قد عين الأصل والنهاية على النحو الذي أراد، ثم إنه أوحى إلى رسله ما شاء لنا أن نعرف عنهما، ومن العبث أيضا، بل ومن العصيان، أن يحاول العقل معرفة غاية الحياة، فالله وحده هو الذي يعرفها، وبعد فما هو عمل العقل؟ هو أن يبين للناس العلم الصادق الذي أطلعهم عليه الوحي الإلهي، وأن يوفق بين الأحداث والوقائع المتنوعة المتنافرة المعلومة لهم بالخبرة العملية، وبين النسق العقلي للعالم المسلم به بالإيمان.
هذه كانت مهمة العقل في جو العصور الوسطى، وكانت المهمة عظيمة، شحذت القوى العقلية، فانطبع تفكير أفضل رجال تلك العصور بطابع عقلي تام، وأنا أعرف أنني حينما أقول هذا أخالف ما جرى عليه العرف الشائع، أعرف أن العرف جرى بتسمية القرن الثالث عشر عصر الإيمان، تمييزا له بهذا الوصف عن القرن الثامن عشر، الذي نسبوا إليه أنه كان قبل كل شيء عصر العقل، والتمييز إلى حد ما صحيح، فإن كلمة «عقل» تفيد كغيرها من الكلمات أكثر من معنى، فدلت في الاستعمال الشائع على «غير المؤمن» أو «الملحد» الذي يكفر بالنصرانية، ويرجع ذلك إلى أن الكتاب في القرن الثامن عشر استعملوا حججا عقلية لإثبات بطلان العقيدة المسيحية، وبهذا المعنى الشائع كان فولتير - مثلا - رجل عقل، والقديس توماس رجل إيمان، ولكن هذا الاستخدام لكلمة «عقل» سقيم لسبب بين، فالعقل قد يستخدم لدعم الإيمان كما يستخدم لهدمه، والواقع أن بين فولتير والقديس توماس - على عظم ما بينهما من فوارق - اتفاقا تاما على أن معتقداتهما يمكنهما إثبات صحتها عقليا، ويصح لنا إذن أن نقول: إن القرن الثامن عشر كان عصر إيمان، كما كان أيضا عصر عقل، وإن القرن الثالث عشر كان عصر عقل، كما كان أيضا عصر إيمان.
وليس في هذا القول تناقض، فكثيرا ما يجمع الإنسان بين حرارة الإيمان واستخدام الحجج العقلية استخدام الخبير بأساليبها، وفيما عدا البسطاء من العامة والمتصوفة الجديرين بهذا الوصف - فإن معظم الناس - بما فيهم أولئك الأذكياء الذين يوقنون يقينا خالصا حارا بالله في ملكوته وبأن الدنيا بخير - يشعرون بالحاجة إلى تبرير إيمانهم بحجج معقولة كافية، ويزداد إحساسهم بتلك الحاجة إذا ما بدأت بعض الشكوك تساورهم وتزعجهم، ولعل هذا يفسر لم استمسك المفكرون في عصر دانتي بالاستدلالات العقلية استمساك المستميت، لم يكن ذلك لأن العقيدة كانت قد اختل نظامها وانتثر عقدها، بل كان ذلك لأن أقدر المؤمنين أخذوا يشعرون بأنه لا يكفيها أن تستند إلى العواطف الدينية الغريزية فقط، فبدا لهم أن لا بد لهم من برهان عقلي حاسم، لا يغفل شيئا ما ولا يتهرب من صعوبة ما، وإذا شئنا أن نوضح ما ذهبنا إليه بالاستشهاد بالقديس توماس قلنا: إن الذي دعا ذلك القديس للبحث عن برهان عقلي قاطع على أن العالم نظام إلهي حكيم هو بالضبط إيمانه بأن العالم نظام إلهي حكيم، وإذن فلا يمكن للقديس توماس أن يجري على لسانه القول المأثور عن ترتوليان: «إني أومن بما يحسبه العقل سخيفا.» ولكنه - أي توماس - كان يمكنه أن يقول ما قاله القديس أنسلم: «إني أومن لكي أعلم.» وله أن يضيف إلى عبارة أنسلم: «ولشد ما يحزنني ألا أستطيع التدليل بالعقل على ما أعلم.»
5
والتوفيق بين الوقائع والأحداث المتنوعة المتنافرة، وكون العالم نسقا عقليا جد عسير، فما بالك إذا كانت تجارب الإنسان محدودة وأفق علمه غير متسع، كما هو الحال في العصور الوسطى، إن التوفيق حينئذ يكون أمرا مستحيلا، اللهم إلا إذا استطاع المنطق أن يسلم بالنزعات العاطفية التي لا يعرفها العقل، ولم يخيب المنطق رجاء أهل عصر دانتي فيه، ولكن لكي يحققوا ذلك؛ كان واجبهم الأول أن يضعوا قواعد دقيقة للجدل، بيد أن هذا كان أقل صعوباتهم؛ إذ ما لبثوا أن وجدوا أنفسهم رغم استعانتهم بمنطق أرسطو عاجزين أحيانا عن أن ينظموا في سلك المقولات الأنيقة التي يقررها الدين ذلك النوع من الحقائق الذي وصفه وليم جيمس بكونه
6
غير ذلول لا يقبل أي ترويض، فكانوا مضطرين إذا اشتدت بهم الحال إلى البحث عما يمكن أن يكون وراء ظاهر آيات الكتاب المقدس من معان خفية، واستعانوا على استخراجها بالتأويل الرمزي، وعبروا عن هذا في قاعدة مشهورة من قواعد التعليم وضعها «المدرسيون» هي: ظاهر النص يضبط ما نعلم، والتأويل الرمزي يكشف عما نرجو أن نعلم، والأمثال تدعم العقيدة، والمواعظ تشكل السلوك.
وهكذا أمكن للقرن الثالث عشر - بفضل ما استخدم من جدل دقيق للغاية، يشد أزره أحيانا تأويل رمزي - أن يظهر الإنسان على عجائب صنع الله، وكان محور فكرة الحياة الإنسانية: كيف هبط الإنسان من الجنة ففقدها، وكيف أتيح له أن يعود، فيستحقها، ولجلاء هذه الفكرة اتجهت أفضل العقول في ذلك العصر، فكان شرح تاريخ الإنسانية من عمل رجال اللاهوت، والتوفيق بين الطبيعة والتاريخ وتنسيق ما بينهما في نسق عقلي من عمل رجال الفلسفة، وما يلزم اللاهوت والفلسفة من أساليب البحث والمناهج يقدمه المنطق، وأثمر اللاهوت والفلسفة والمنطق مؤلفات عديدة منها «الخلاصة اللاهوتية» للقديس توماس، ويصح أن يقال عنها قطعا: إنها من أعجب وأضخم ما أنتج عقل الإنسان، ولم ير التاريخ مؤلفا مثيلا لها فيما سبقها، ولا فيما لحقها، أحاط بالعالم الواسع إحاطة تامة على هذا النحو الأنيق من الفهم الدقيق المطمئن، وفي الخلاصة اللاهوتية تستقر كل جزيئة في مكانها اللائق بها بلطف الصانع الحاذق ودقته، بحيث يتركب منها ومن أخواتها نسق كامل متماسك مقنع للناظرين.
أراني قد طال مكثي وإياكم في جو العصور الوسطى، وإن طال أكثر من هذا قد تكون العاقبة وخيمة، فلننزل من قمم القرن الثالث عشر إلى منخفضات القرن العشرين، حيث يوجد جو أثقل مما كنا فيه في عل، جو يثقله ما يزخر به من حقائق، فنجد فيه تنفسنا أيسر وأقل نصبا.
2
وبعد فأي معنى نستطيع نحن أن نستخرج، وإلى أي رأي نستطيع نحن أن ننتهي - نحن رجال العلم ورجال التاريخ ورجال الفلسفة في القرن العشرين - من ذلك المركب من اللاهوت والتاريخ ومن الفلسفة والعلم، ومن الجدل ومناهج البحث الذي صنعه رجال القرن الثالث عشر؟ إننا نستطيع دون شك أن نقرأ كلمة كلمة ما احتوته المجلدات الثقيلة المتراصة صفا صفا من أمثال «الخلاصة» وما إليها من مؤلفات تعنى بحفظها دور الكتب، نستطيع حقا أن نقرأها، بل إن أساليبنا الدراسية توجب علينا ذلك، ومن المؤكد أننا سنبذل قطعا في فهمها ما نملك من تدقيق وجهد، بيد أننا - مهما حاولنا - لن نستطيع أن نزعم لأنفسنا أننا نهتم حقيقة بما لها أو عليها من الحجج، وقد تبعث فينا قراءة تلك النصوص شيئا من العجب والإعجاب، بما تجلى فيها من كلف لا يفتر وصبر لا حد له، وتفنن وفطنة عديمي المثال، وإن كنا في زمان قل فيه أن يستولي علينا تعجب ما، فقد أصبح كل شيء معروفا لدينا مألوفا عندنا، وقد نستطيع أيضا أن نفهم تلك النصوص بحيث يمكننا أن نعيد صياغتها في عبارات زماننا، وإن بدت الصياغة سيئة الصنعة، قد نقرأ وقد نتعجب وقد نفهم، ولكن الشيء الذي نعجز عن فعله هو أن نقابل حجج القديس توماس بحجج من نوعها، إننا في الواقع عاجزون عن قبولها وعن تفنيدها، بل لا يخطر ببالنا أن نقوم بالجهد الذي يقتضيه القبول أو الرفض؛ وهذا لأننا نشعر بالغريزة أن الجو الذي نمت فيه آراء القديس وترعرعت هو بالنسبة لنا جو خانق، نحاول فيه التنفس ونكاد ألا نستطيعه، وموقفنا من استدلالاته لا علاقة له بكونها صحيحة أو باطلة، فليست في نظرنا هذا أو ذاك، ولكنها - لا أكثر ولا أقل - غير ذات موضوع، وقد صارت كذلك؛ لأن النسق العالمي الذي استخدمت في تأليفه لا يثير فينا ما يحرك الوجدان أو الشعور بالجمال؛ ولذا صرنا لا نستجيب له.
فالناس في زماننا الحاضر يستحيل عليهم - مهما حاولوا - أن يتصوروا الحياة «دراما» إلهية أولها معروف وآخرها معروف، ومغزاها قد بان واستبان وانتهى الأمر، ولا مناص لنا - سواء أحببنا أم كرهنا - من أن نعتبر العالم في تغير متصل معقد لا ينقطع ولا يهمد، تتلاشى فيه الأشياء وتتجدد؛ ولذلك فالأشياء والمبادئ التي تصدر عنها الأشياء ليست إلا أحوالا «عارضة أو أشكالا زائلة»، أو «نتائج تترتب على اجتماع قوى» لا تلبث حتى تتفرق وتأخذ كل منها وجهتها، وإذا سألنا كيف بدأ هذا التغيير، قلنا إن مبدأه يحجبه غمام كثيف لا ينفذ خلاله بصر أو بصيرة، وإذا سألنا كيف ينتهي، قيل إن النهاية أمرها أكثر وضوحا من البداية، وإن كانت ليست مما يفتن أو يجذب إليه القلوب أو الآمال، وهاك ما تصوره ج. ه. جينز:
كل ما في الكون يدل دلالة لا سبيل إلى تجاهلها على حدوث خلق بفعل واحد معين أو بأفعال متصلة، وأن هذا وقع في زمن أو في أزمنة بعيدة عنا حقا، وإن كان بعدها لا يوصف بأنه لا متناه، ومعنى هذا أن الكون لم يتولد اتفاقا من عناصره الحالية، كما أنه لم يكن على الدوام في الحال التي هو عليها الآن؛ وذلك لأن التولد الاتفاقي من جهة وعدم التغيير من جهة أخرى يقتضيان ألا تنجو من الفناء إلا تلك الذرات التي لا تقبل التلاشي إشعاعا، وبعبارة أخرى يقتضيان انعدام ضوء الشمس وضوء النجوم، على ما هما عليه، وألا يكون حينذاك إلا بريق نور إشعاعي بارد منتشر في الفضاء انتشارا متساويا، وهذا - في الواقع - هو صورة النهاية التي يتصور العلم في طوره الراهن أن الخليقة تسير نحوها، وأنها لا بد بالغتها وإن طال السفر.
7
ولا حاجة بنا طبعا إلى أن نستعد منذ الآن لهذا الحادث البعيد الموعود، فالكون لا يزال بخير، ومهما يكن فلن تكون نهايته في زمننا، على أن اطمئناننا هذا لا يمنع من أن نتطلع إلى معرفة أثر ذلك التلاشي الكوني المحتوم في الإنسان، فنتساءل: كيف تأتى له أن يركب في فلك هذا الكون، وما شأنه فيه؟ ولهذا السؤال - إن اتبعنا الأستاذ دامبيير ويتهام - إجابتان علميتان ممكنتان:
يمكن اعتبار الحياة الإنسانية إما شيئا عرضيا تافها نتج دون أن يكون مقصودا لذاته في مجرى عمليات القوى الكونية، وإما أن تكون أعلى ما بلغه جهد التطور الخالق، وأن الأرض قد تهيأت بموجب أحداث وقعت اتفاقا في الزمان والمكان لأن تكون، دون غيرها من الأجرام، المستقر الوحيد المناسب للحياة الإنسانية.
8
وبين الإجابتين لا سبيل إلى الاختيار والمفاضلة، ففي كلتا الحالتين تعتبر حياة الإنسان جزءا من حياة الكون قد قدر لها أن تفنى بفنائه، ولنستمع في هذا لرأي برتراند رسل:
إن الإنسان وليد علل لا تفقه شيئا عن كنه الغاية التي تحدثها، وما أصله ونموه وآماله ومخاوفه وميوله ومعتقداته إلا ثمرة التقاءات عرضية للذرات، وليس في وسع أي حمية أو بطولة أو توقد فكر وشعور أن تحفظ على المرء حياته فيما وراء القبر، وكل ما كسبته الإنسانية مدى الدهر من ثمرات الكدح والتفاني والإلهام، وما أفاضت عليها العبقرية من بريق نورها الوضاء، مصيره إلى الفناء طي فناء النظام الشمسي، ومحتوم على ذلك المعبد الجامع لما شيدته يد الإنسان أن يختفي في الأنقاض التي يخلفها خراب الكون - وهذه كلها قضايا إن لم تكن بمنأى عن الاعتراض فإنها تقرب من تمام اليقين قربا يجعل أي فلسفة ترفضها غير قادرة على البقاء.
9
ومهما راجعنا أو أولنا - بكل ما أوتينا من رفق - النتائج التي وصل إليها العلم الحديث، فلا سبيل إلى اعتبار الإنسان ابن الله، خلقت الأرض لتكون مستقرا له إلى حين، بل يقرر العلم أن الاعتبار الأصدق هو أن نرى في الإنسان كائنا لا يختلف كثيرا عن شيء استقر على سطح الأرض اتفاقا، شيء أحدثته فيما بين عصرين من عصور الجليد نفس القوى التي تبلغ القمح تمام نموه وتسبب الصدأ في الحديد، أحدثته دون أن تلقي بالا إلى ما تفعل، بيد أن ذلك الشيء كان كائنا حساسا وهبته صدفة سعيدة أو غير سعيدة قوة الذكاء، ولكن ذلك الذكاء تشكله وتكيفه نفس القوى الكونية التي يحاول هو أن يدرك كنهها وأن يسيطر عليها، وأما العلة الأولى لهذه العملية الكونية التي حدث عنها الإنسان فلا ندري أهي الله أو الكهرباء، أو «قوة دفع الأثير». ومهما يكن من حقيقة هذه العلة - إن صح أنها علة، وليست مجرد فرض من الفروض ذهب إليه الفكر اضطرارا - فظاهر في معلولاتها أنها ليست خيرة أو شريرة، وليست رحيمة أو قاسية، بل هي لا تبالي بنا في كثير أو قليل، وما الإنسان في نظر الإلكترون؟ ما هو إلا لقيط نبذته القوى التي صنعته، يتيم لا يعينه ولا يرشده إلى سواء السبيل وإلى عالم خير، فلا بد له إذن من أن يدبر أمر نفسه كأحسن ما يقدر، وأن يلتمس السبل حوله في عالم لا يكترث له، مستمدا العون من ذكائه المحدود.
فهذا هو النسق العالمي الذي يشكل صفة الفكر الحديث واتجاهه، وهذا النسق استغرق نسيجه زمنا طويلا، فقد احتاج الأمر إلى ثمانية قرون من الزمان لتحل نظرية الحياة، معتبرة تغيرا أعمى يحدث لطاقة في انحلال متواصل محل نظرية الحياة معتبرة «دراما» إلهية لها غاية، وهناك الآن من الدلائل ما يدل على أن إحلال النظرية الحديثة محل القديمة قد تم، وإذا شئنا أن نعبر عن ماهية الانتقال من إحدى النظريتين للأخرى في جملة واحدة، أو بعبارة أخرى، إذا شئنا أن نصف تاريخ تطور الفكر في هذه القرون الثمانية، فلا نجد خيرا من اقتباس ما قاله أرسطوفانيس:
الملك الآن للأعاصير، فقد أنزلوا زفس عن العرش.
10
ولعل أهم ما نتج عن هذا الانقلاب أننا نتطلع عبثا إلى سند من سلطان أو نحوه يشبه على وجه من الوجوه ما كان للسلف، ولكننا لا نحصل عليه ولا نجد مثل ذلك المبدأ المطلق القديم، لنثبت به أقدامنا كيما نأخذ في السير من جديد، لقد خلعوا زفس فأصبح لا يصلح لأن يتخذ منه الفكر مقدمة لاستدلال ما، ولكن هذا لا يفيد أن الإيمان بزفس قد بطل؛ إذ لا يزال هناك من يؤمن به، بل إن من العلميين والمؤرخين والفلاسفة من لا يزال يعبده وفقا لما وجدوا آباءهم عليه، ولكن عبادة زفس الآن لا تعدو أن تكون من جانب العابدين مسألة شخصية واستعمالا خاصا لحق من حقوقهم، وشأنهم في هذا شأن المواطنين الكاثوليك حينما تحولت أممهم للبروتستنتية، كان يرخص لهم أحيانا بإقامة القداس بصفة غير علنية في بيوتهم، هذا كل ما في الأمر، فلن تجد اليوم عالما جادا يجعل نقطة البدء في شرح نظرية الكوانتوم أو تاريخ الثورة الفرنسية مبدأ وجود الله أو كونه خيرا، ولو جرؤت أنا في موقفي هذا منكم - كما جرؤ مؤرخون من قبل - وعرضت عليكم فكر القرن الثامن عشر كما لو كان أمرا قضى الله أن يعاقب به جيلا فاسقا عنيدا من الناس، لو فعلت لكان في ذلك إحراج مني لكم غير قليل، ولتحركتم في مقاعدكم وأبديتم ما يدل على ارتباككم وخجلكم من أجل زميل لكم خيب ثقتكم به، فارتكب من سوء الذوق ما ارتكب.
والواقع أن ليس لدينا مبدأ أول، ومنذ أجلسنا الأعاصير على عرش الربوبية فلا بد أن تكون نقطة البدء هي الأعاصير، أو بعبارة أخرى، ذلك الخليط من كل شيء الذي نعيش فيه، وأول ما نواجه من مادة هذا الخليط هي الحقائق التي وصفناها بأنها غير ذلول وغير قابلة للترويض، وهذه لا بد من أن نقبلها كما هي، فلا يمكننا اليوم أن نتلطف بها، وأن نداهنها لتقبل الانطواء في إحدى المقولات الفكرية التي تقوم على افتراض نسق منطقي للعالم، وماذا نفعل بها إذن؟ نلاحظها، نستخدمها في الاختبارات، نحققها، ننسقها، نقيسها إن أمكن، نستخدمها في الاستدلالات العقلية أقل ما يمكن، وتكون أسئلتنا مما يبدأ بما وبكيف، كأن نسأل ما الحقائق وكيف تتصل؟ فإذا ما حدث مرة في لحظة من لحظات شرود الفكر أو لهو الفراغ أن نسأل: «لم» أعيانا الجواب، وجملة القول أن غايتنا الكبرى هي أن نقيس العالم ونسيطر عليه لا أن نفهمه.
وبما أن غايتنا الكبرى هي أن نقيس العالم ونسيطر عليه، فاللاهوت والفلسفة والمنطق القياسي لا تنفعنا كثيرا لبلوغ هذه الغاية، وبعد أن كانت هذه الدراسات العريقة أبواب مدينة العلم كما تصورها العقل في العصور الوسطى فإنها نزلت في خلال القرون الثمانية الماضية من عليائها، وأجلس المحدثون على عروشها التاريخ والعلم الطبيعي وأساليب الملاحظة والحساب، حقيقة لا يزال اللاهوت - أو ما يسمى باسم اللاهوت - حيا عند المؤمنين به، ولكنه يحيا بالتنفس الصناعي، وأما وظيفته، وأما ما كان يؤديه في عصر القديس توماس، فقد أصبح يتولاهما التاريخ لا الفلسفة كما يتوهم الناس؛ وذلك لأن موضوعه عند المحدثين هو الإنسان وعالم الإنسانية على مر الزمان، وهو بالضبط ما تكفل به اللاهوت في القرن الثالث عشر، عندما عرض رجاله صورة لتاريخ الإنسان والعالم تتفق مع ما دبر الله لنجاة عباده، وقد وجد أهل العصور الوسطى في تلك الصورة فلسفة للتاريخ جديرة حقا بهذا الاسم أغنتهم فعلا عن النظر في تجارب الأمم؛ إذ ما الداعي لهذا وهم مطمئنون كل الاطمئنان إلى ما جاءهم من علم عن العلة الأولى للأحداث التي تصيبهم وعما تدلهم عليه.
ثم حدث فيما بعد القرن الثالث عشر أن أخذوا يتحولون شيئا فشيئا عن ذلك المذهب ويوجهون عنايتهم لاستقصاء تاريخ الإنسان مسطرا في أسانيده، ويبذلون من أجل هذا جهدا كبيرا، فيحققون الوقائع مهما صغرت ولا شغل لهم إلا بها، وانبنى على هذا الجهد أن حصلنا على مادة من الحقائق التاريخية لا تقبل جحودا ولا إغفالا، وفي ضوء هذا الفيض الزاخر من الحقائق تضاءلت الصورة التي رسمها اللاهوتيون للإنسان والعالم، حتى صارت في نظرنا نسخة باهتة اللون من ذلك الأصل اللامع، وقد مرت فلسفة التاريخ في أطوار، فكانت أولا في أيدي اللاهوتيين واضحة الحدود، ثم تضاءل خطرها وخف وزنها، وأصبحت في أيدي رجال القرن الثامن عشر، ذلك الأدب المهذب الرشيق الذي عرفوه باسم «الفلسفة تعلم الناس بضرب الأمثال»، ولكن في أوائل القرن التاسع عشر عاد بعض المفكرين فاعتبروا «التاريخ المبدأ الأسمى يحقق نفسه بالفعل»، أما في أيامنا فالأمر بسيط كل البساطة، ما التاريخ إلا التاريخ؛ أي تسجيل ما حدث كما حدث، والغرض منه كما قال سانتيانا
11
لا يتجاوز «تعيين نظام لتعاقب الحوادث في الزمان والمكان»، ولا يوجد اليوم بين المؤرخين الذين يعتد بهم من يخفي تحت ستار البحث التاريخي المحدود مآرب أخرى، وإذا فرض وحاول أحد المؤرخين أن يدخل خلسة في عرضه للتاريخ الإنساني شرحا مصطبغا بصبغة تأويلية لا واقعية، استحق أن يسمى فيلسوفا، وفقد توا بناء على ذلك سمعته في عالم البحث.
وإني بالطبع أستعمل كلمة تاريخ في هذا السياق بمعناها الواسع، أستعملها على أنها تدل على منهج من مناهج البحث، فضلا عن كونها تطلق على موضوع قائم بنفسه، فالآداب واللغات ونظم الحكم والشرائع والاقتصاديات والعلوم والرياضيات، بل والحب واللعب، كل هذه وجدت من يؤرخها بحيث يمكن السؤال: أي شيء في زماننا بقي دون أن يؤرخ؟ وفي الواقع أن معظم ما يقال عنه إنه علم هو في الحقيقة تاريخ؛ إذ ما هو إلا تاريخ ظاهرات حيوية أو طبيعية، فالجيولوجي يأتينا بتاريخ الأرض، والمشتغل بعلم النبات يقص علينا قصة حياة النبات أو تاريخ فرد من أفراد مملكة النبات، وقد أنار الأستاذ وايتهد منذ عهد قريب علم الفيزيقا عموما بتتبع تاريخ النظريات الفيزيقية؛ ولهذا كله يرى المحدثون أن النظر في الأشياء متصلة بأوضاعها التاريخية إجراء مفيد، ونحن المحدثين نجري على هذا دون تكلف، بل إن عملية التفكير اليوم تكاد تكون مستحيلة إلا إذا فكرنا تاريخيا؛ ذلك لأن الجوهر الفكري الراهن جو لا نستطيع فيما يظهر أن نفهم دنيانا فيه إلا إذا تصورناها متحركة متطورة، فلا يمكننا اليوم أن نعرف ماهية الأشياء إلا إذا عرفنا «كيف صارت إلى ما هي عليه.»
على أن هذه المعرفة لا تنحصر في استقصاء مجرد التعاقب للأحداث، فالتعاقب في ذاته ليس أهم ما في الموضوع، وهو أيضا لم يجهله الأقدمون، فالقديس توماس - مثلا كان يدرك تماما بلا شك أن الأشياء تتعاقب، أما الذي يختص به العقل الحديث فهو توجهه إلى اعتبار الأفكار والتصورات لا الأغراض الخارجية فحسب - كائنات تتغير بحيث لا تفهم طبيعتها ولا معناها في وقت ما إلا إذا حسبناها نقطا في عملية تفرق ونشر وتلاش وتكون لا تنتهي، فعلى هذا لو فرض وطلب منا توماس أن نعرف له شيئا ما، وليكن مثلا القانون الطبيعي، لو فرض وسألنا: «ما هو؟» لما أمكننا أن نعرفه، ولكننا نستطيع أن نقص عليه تاريخ القانون الطبيعي، هذا إذا سمح لنا بالوقت الذي يكفي لذلك، فإذا ما قبل عرضنا عليه جميع الأطوار والصور التي اتخذها القانون الطبيعي حتى الآن؛ ذلك أن الفكر الحديث قد ملكه منهج التفكير التاريخي، بحيث لم يعد في استطاعتنا أن نتحقق من هوية شيء ما إلا إذا تتبعنا الأشياء المتعددة التي كانها بالتعاقب قبل أن يصير الشيء الذي هو كائن الآن، والذي سيكف توا عن أن يكونه.
وإلى جانب التاريخ يوجد لدينا طريق آخر لاكتساب المعرفة هو طريق العلم الطبيعي، ونحن أكثر التزاما له من طريق التاريخ، وكما أن التاريخ قد حل شيئا فشيئا محل اللاهوت، فقد فعل العلم الطبيعي ذلك بالنسبة للفلسفة، بيد أن الفلسفة اختلف حظها عن حظ اللاهوت بعض الشيء، فتجلدت وأظهرت أنها لم تتضعضع كما فعل صاحبها اللاهوت، وهناك من العلائم ما يدل على جهد يبذل الآن في عمارة بيتها القديم الخرب بعض الشيء، ومهما يكن من أمر هذا الجهد فواضح أن ما كان للفلسفة في الماضي من سلطان غير منازع قد غصبه العلم الطبيعي منذ زمن طويل، وبعد أن كانت الفلسفة وآلتها للضبط الدقيق المنطق القياسي عند القديس توماس الوسيلة لتكوين نسق عقلي للعالم من أجل التوفيق بين الواقع المجرب والحق الذي أظهره الوحي الإلهي، فإن المؤثرات التي وجهت بني الإنسان جيلا بعد جيل، إلى تحري حقائق التاريخ الإنساني، وجهتهم أيضا نحو تفحص حقائق الظاهرات الطبيعية، وعلى هذا كان ظهور التاريخ، وظهور العلم الطبيعي نتيجتين لدافع واحد أو - بعبارة أخرى - مظهرين لاتجاه واحد للفكر الحديث، وهو الإعراض عن إغراق العصور الوسطى في طبع الحقائق بالطابع العقلي والإقبال على تفحص الحقائق في ذاتها تفحصا نزيها.
وهاكم جاليليو
12
مثلا لم يبحث عما ذكره أرسطوطاليس عن سقوط الأجسام، ولم يسأل: هل من المعقول أن جسما زنته عشرة أرطال يكون في هبوطه للأرض أسرع من جسم زنته رطل واحد؟ لم يسأل جاليليو عما قال أرسطوطاليس في هذا الموضوع، بل عمد إلى تطبيق المنهج العلمي، فألقى من أعلى برج مائل بجسمين نسبة وزن أحدهما لوزن الآخر نسبة عشرة إلى واحد، ولاحظ أنهما يصلان إلى الأرض في وقت واحد، واستنتج من ذلك حكما عن سقوط الأجسام في عالم مثل عالمنا هذا، وإذا ما اعترض معترض بأن الحكم لا يصدق على عالم عاقل ما اهتم جاليليو بالاعتراض ولقال: فليكن عالمنا إذن غير عاقل، فالحقائق هي الأصل، وهي التي تهمنا أكثر من أي شيء آخر، وهي صلبة لا تخضع ولا نستطيع أن نتجنبها، وقد تتفق مع المعقول، وإنا لنرجو ذلك، ولكن كونها تتفق أو لا تتفق فهذا أيضا موضوع تحر وتحقيق، شأنها شأن أي موضوع آخر، وقد ذكرت لكم جاليليو مثلا لا على اعتبار أنه أول من سلك هذا المسلك، فهو لم يكن فعلا أولهم.
وهذا التحول الدقيق في كيفية النظر إلى الأشياء الذي مثلنا له بجاليليو ربما كان أخطر ما حدث في تاريخ تكوين الفكر الحديث، بيد أن الناس لم يدركوا في مبدأ الأمر جميع ما أضمره هذا التحول من معان، وبقيت الفلسفة متبوئة عرشها، بل إنها حينما أضافت في القرن الثامن عشر لقبا جديدا إلى ألقابها، وأسمت نفسها الفلسفة الطبيعية، لم يلحظ أحد أن الاسم الجديد سيكون له ما بعده، والذي أخفى على الناس حقيقة ما حدث أن جاليليو ومن جاء بعده كانوا هم أيضا فلاسفة، بل هم الأحق باللقب؛ إذ إن النتائج الباهرة التي أقاموها على الملاحظة والتجربة قد كشفت كثيرا من المحجوبات، وبعثت الأمل في أنها سوف تبدد كل ما يحيط بالعالم من غموض، فلا عجب أن توهم الناس أن صورة العالم العاقل كما خرجت من أيدي الفلاسفة الملاحظين المجربين أوضح دلالة من الصورة التي وضعها أسلافهم في العصور الوسطى؛ أي إن قوانين الطبيعة وقوانين رب الطبيعة هما اسمان لشيء واحد، وأن كل شيء مما صنع الله سوف يفسره العلم إن قريبا وإن بعيدا، وبناء على ذلك فللبيب أن يكتفي بحد أدنى من التصديق المطلق، وله أن يفعل ذلك، ولكن بتحفظ واحد، تحفظ بالغ الخطورة، وإن خفيت في مبدأ الأمر خطورته؛ هو أنه لا بد له من الإيقان بأن الطبيعة تجري على نظام مطرد، وأن عقل الإنسان قادر على أن يكشف طريقتها في العمل.
وقد بقي هذا الإيقان سائدا والتفاؤل بالمستقبل غالبا حتى حدث في أثناء القرن التاسع عشر أن اكفهر الجو، ولم يعد أمر المستقبل جليا كما كان من قبل للناظرين، وضجر المفكرون بذلك الاقتران بين مادة الحقائق والعقل، وبين العلم الطبيعي وقوانين الطبيعة، ففسخوا في القرن العشرين القران وفرقوا بين الأزواج، وإن شعروا بشيء من الأسى لما يفعلون، وصار العلم مجرد علم، وبعد أن كان العلميون يفخرون بأنهم فلاسفة أصبح نعتهم بذلك الوصف انتقاصا من قدرهم، وبعد أن كان الناس يتصورون العالم الذي يعيش فيه الإنسان آلة دقيقة الصنع، تؤدي على خير وجه ما قصده منشئها موجد الكون الخبير، أخذت تلك الصورة في التلاشي شيئا فشيئا، وانقطع أساتذة العلوم عن الخوض في القوانين الطبيعية، وقل تحدثهم عنها حديث العارف الواثق، وقنعوا بالجد فيما اعتبروه شأنهم اللائق بهم؛ ألا وهو أن يتخذوا من مادة الكون مهما كانت حقيقتها موضوعات الملاحظة والتجريب، وفهم، وقياس حركتها، وتأثيرات أجزائها البعض في البعض الآخر، وهم إذ يجدون في طلب ذلك بحمية لا تفتر لا يضمرون فيما يفعلون أي غايات غير ما هم بصدده من الملاحظة والتجريب والقياس والفهم، وقد قال لويد مورجان : «يختص العلم بالنظر في التغييرات التي تحدث في تركيب الأشياء، وفي تتبع ازدياد سرعات الحركات عندما يحدث هذا، ولكنه لا يجاوز هذا إلى شيء آخر، بل يترك لما وراء الطبيعة النظر في العامل المحدث إن كان هناك عامل محدث.»
13
ولا شك في أن ثمرة جد العلماء في طلب هذه الغاية المحدودة واستعمال المنهج العلمي على هذا الوجه المتناهي في التواضع كانت مما يخطف الأبصار عجبا، وبعد فكيف نقدرها؟ نعرف أننا نعيش في عصر الآلات، ونعرف أن فن الاختراع هو أعظم ما اخترعنا من الفنون، وأن ظروف الحياة في مدة وجيزة لا تزيد على خمسين سنة قد تبدلت تبدلا تاما، ولكن الذي لا ندركه على ما ينبغي له من الوضوح أن ذلك التبدل المحير للألباب أثر في عقولنا فانحرفت نحو وجهات جديدة، ولم تعد اليوم الاكتشافات والاختراعات وليدة الصدفة السعيدة نترقبها بين اليأس والرجاء، بل هي الآن شيء آخر مختلف تماما، هي جزء من علمنا الاعتيادي نتوقعها ونتعمد إيجادها، بل نوجدها في الوقت المحدد لذلك، ولا يثير جديد دهشة ما، فليس شيء يبقى جديدا، بل على العكس، لقد اعتدنا الغريب حتى انعدم الفرق بين الشيء غير المألوف والشيء المعتاد، ولا جديد في السماء أو في الأرض لم نتخيله في مختبراتنا، وإنا ليدهشنا حقا ألا يأتي المستقبل القريب أو البعيد بجديد يتحدى به قدرتنا على مواجهته، وقد علمنا العلم أن لا ثمرة ترجى من وراء محاولة إدراك ماهية العامل الخفي المحدث للأشياء التي نستعملها، أفلا يستطيع أي أنسان أن يسوق السيارة دون أن يفقه شيئا من أثر الكاربوريتر في حركتها، أو يسمع ما يذيعه جهاز الراديو دون أن يفهم سر الإشعاع؟ والواقع أن ليس لدينا من الوقت فضلة تسمح حتى بمجرد التعجب من السماء بنجومها فوقنا، أو بما في نفوسنا من عقد فرويدية، فوقتنا تشغله بأكمله الأشياء العديدة التي نستعملها في قضاء حاجتنا، بحيث لا نملك فراغا نشغله في طلب تفسير معقول للقوة التي تحرك تلك الأشياء، فتؤدي عملها على هذا الوجه الكامل، بل ولا نشعر بالرغبة في معرفتها.
ويشاركنا في استبعاد العامل الخفي المحدث - بهذا الاستخفاف - آخرون فضلاء، بل إن سدنة العلم أنفسهم كانوا إلى الاستبعاد أسبق، وفي تنفيذه أبرع من عامة الناس، ومن مفارقات الفكر الحديث العجيبة أن المنهج العلمي الذي علق عليه الناس الأمل في أن يمحو الغموض عن العالم، قد زاده غموضا كل يوم عن ذي قبل، فالفيزيقا التي ظنوها سوف تغني عن الميتافيزيقا قد استحالت في أيدي الفيزيقيين أنفسهم، إلى أبعد العلوم إيغالا فيما وراء الطبيعة، وكلما أنعم الفيزيقي النظر في مادة الكون، تضاءلت تلك المادة عن ذي قبل، وتحول في يد الفيزيقي الخبير عالم الفيزيقا النيوتونية ذو الماهيات الثابتة إلى مركب من الطاقات الإشعاعية، وبطل ما كانوا يقولون فيما مضى من أن العالم من صنع مهندس قادر أو محرك أول؛ وذلك لأنه لا يمكن فهم العالم عن طريق النظريات الميكانيكية للعالم، وفي هذا يقول وايتهد: «لا معنى للكلام في تفسير ميكانيكي للعالم إذا كنا لا نعرف ما المقصود من الميكانيكا.»
14
ويقول العلم الحديث لنا إننا إذا نسبنا لشيء ما مكانا معينا، فإن هذا الشيء لا يمكن أن ننسب له سرعة قابلة للتعيين، وإذا استطعنا أن نتبين سرعته، فلا يصح أن ننسب له مكانا قابلا للتعيين، ويقول لنا العلم الحديث أيضا: إن الكون يتكون من ذرات، وإن الذرة تتكون من نواة مركزية تدور الإلكترونات حولها في مدارات قابلة للتعيين، بيد أن التجارب قد أظهرت فيما يبدو أن من هذه الإلكترونات ما يتحرك بناء على أسباب لا يعرفها إلا هو، في مدارين في نفس الوقت! هذا هو الموقف الذي نحن فيه الآن بفضل جاليليو، اتبع الذوق والإدراك السليم؛ فقصر نظره على الحقائق التي يمكن ملاحظتها وحدها، ثم حذونا حذوه فصرنا نواجه «حقيقة» ينكرها الإدراك السليم.
وبعد فماذا نحن فاعلون؟ إن العقل والمنطق يضيقان بالموقف الراهن، ولكن ما أهمية هذا؟ لقد تعلمنا منذ عهد بعيد ألا نلقي بالا للعقل والمنطق، ولم يعد المنطق شيئا قائما بنفسه منفصلا عنا، يستطيع إن أردنا أن يأخذ بيدنا ويهدينا سبيل الحق، بل إننا نشك في وجوده، ولا نستبعد ألا يكون إلا شيئا اصطنعه عقل الإنسان، ليستعين به على إخفاء تهيبه، وليستمد منه إقداما، أو ألا يكون إلا نوعا من التعازيم تكسب ما نحن على استعداد لتصديقه بالتقليد صحة صورية، مثال ذلك: إذا كان كل الرجال فانين - فرضا - وإذا كان سقراط رجلا - بالمعنى المستعمل في الفرض - فلا شك في أن سقراط كان فانيا، وأقرب الظن أننا نعرف كل هذا على نحو ما قبل أن نتحقق من صحته، بوضعه في صورة قياس، والظاهر أيضا أن المنطق ينزع إلى التعدد تبعا لتغييرات وجهة النظر، ففي أول الأمر كان لدينا منطق واحد، ثم كان لنا بعد ذلك منطقان، ثم أكثر من اثنين، والآن يحدثنا الثقة الأمين في مقاله عن المنطق في دائرة المعارف البريطانية، إن صح لكاتب من كتاب الدائرة يخلط الجد بالهزل أن يسمى ثقة أمينا، فيقول: إن حالة المنطق الراهنة شبيهة بحالة بني إسرائيل على عهد القضاة: «في تلك الأيام لم يكن ملك في إسرائيل، كل واحد عمل ما حسن في عينه»، هذا ولو سلمنا بلزوم المنطق الرياضي وموضوعه التصورات لا الحقائق ومنطق الاحتمالات (ويؤكد لنا المستر كينز أنه محتمل الصحة)،
15
فإن الدعائم الراسخة التي كانت للمنطق القياسي وللمنطق الاستقرائي قد قوضتها الحقائق المحتملة، وعلى ذلك فلا مجال للاختيار، وليس أمامنا إلا أن نتعلق بتلك الحقائق وإن أهلكتنا.
وهذا ما يفعله الفيزيقيون، وإذا ما جاوز المنطق حده واحتج عليهم باسم القانون، فإنهم يعرفون كيف يسوون هذا معه، وينتهي الأمر بالمنطق إلى التغافل عما يفعلون، ويمضون هم في مخالفته، ها هو ذا مثال لما يفعلون، يقول السير وليام براج
16
إنه يدرس لتلاميذه النظرية الموجبة للضوء في أيام الاثنين والأربعاء والجمعة، ونظرية الكوانتوم في أيام الثلاثاء والخميس والسبت، فليس هناك إذن داع لأن نندهش إذا ما علمنا أن الفيزيقيين لا يزعجهم بالمرة أن يعتبروا النواة والإلكترون إشعاعات لا مواد، إن رأوا نفعا في ذلك الاعتبار، وعلى هذا النحو الفرضي المحض يحولون عالم الماهيات الثابتة إلى كتل من سرعات تتنافر وتتجاذب، ويطلبون منا أن نصدق هذا؛ لأنهم يستطيعون رياضيا تعيينها واستعمالها، وإذن فيجوز أن يكون عالمنا كما يقترح الأستاذ جنز من وضع مشتغل بالرياضيات، ولم لا إن كانت النظريات الرياضية أسهل طريق لفهم العالم؟ ونحن نعرف أن تفاحتين وتفاحتين تكون أربع تفاحات، ومع تسليمنا بأن التفاح سيظل دائما موجودا، فإننا نستطيع أن نتصور أن اثنين + اثنين = 4، حتى لو لم يكن هناك تفاح بالمرة، والرياضي يستغني عن التفاح، بل الأفضل له ألا يشغل نفسه به، فللتفاح خواص أخرى بالإضافة إلى خاصية العدد؛ وعلى هذا إذا ما ضيق على الفيزيقي التضييق الكافي، وأراد أن يتخلص من ورطته، فما عليه إلا أن يتحول إلى رياضي، فإنه حينئذ يستطيع أن يحسب السرعات التي يلاحظ حدوثها ويقرر حينئذ أن السرعات يمكن أن تنسب إلى إلكترونات مادية، وهذا كله بشرط واحد هو أن نعثر فعلا على إلكترونات مادية لها هذه السرعات، ترون إذن أن لا داعي لليأس، فعالمنا ممكن حسابه حتى إذا لم يكن له وجود.
ولعلي قد قلت ما يكفي لأدلكم على أن أخص ما يميز الجو الفكري في زماننا هو كونه واقعيا أكثر منه عقليا، فالفكر الحديث جوه مشبع بالواقعي، فيكفيه القليل من النظري؛ ولنزد هذا بيانا: إننا بحكم الضرورة ننظر إلى عالمنا إما بعين التاريخ وإما بعين العلم، فإذا نظرنا بعين التاريخ، رأيناه في تكوين مستديم، وهو بناء على ذلك لا يمكن فهمه إلا على وجه التقريب، فهو لم يكمل تكوينه بعد، وإذا نظرنا بعين العلم، رأيناه شيئا ينبغي أن نسلم به كما هو، على أن نبدل أنفسنا لتستقيم فيه حياتنا بقدر الإمكان، وعلى أن نعالج منه ما يمكن أن نعالج، ونسخر لمنافعنا ما يمكن أن نسخر، وطالما نحسن استعمال الأشياء فإننا نستطيع أن نتجاهل الدافع الملح لسبر غورها وكشف أسرارها.
وهذا بلا شك أهم ما يفسر تلك الظاهرة العجيبة، وهي راحة العقل الحديث في هذا الكون الغامض.
3
وجميع ما سبق جاء على سبيل تقديم الموضوع، والموضوع هو الفكر السياسي والاجتماعي في القرن الثامن عشر، اخترت أن أقول شيئا عنه أو - بعبارة أخرى - عن فلاسفة ذلك العصر أو «الفلاسفة» مجردة من أي وصف على ما اصطلح القرن الثامن عشر، وماذا أستطيع أن أقول عنهم؟ لو كنت أقدر على أن أعتزلهم، فأنظر إليهم من بعيد أو من عل، ثم أصدر حكما عاما عليهم مقدرا قيمة فلسفتهم تقديرا يستحق أن يعتد به، مبينا أوجه صحتها وأوجه بطلانها، لو استطعت أن أفعل هذا كله، لكان ذلك شيئا عظيما حقا، ولكنني لا أستطيع لسوء الحظ أن أعتزل القرن الثامن عشر على هذا النحو، فأنا رجل من أبناء القرن العشرين، تقيده الأفكار الغالبة على عصره؛ لذلك لا بد لي من أن أنظر للموضوع بعين التاريخ، وإذا كنت قد بذلت جهدا كبيرا فيما سبق من هذه المحاضرة؛ لأقابل الجو الفكري في عصر دانتي بالجو الفكري الحديث، فما ذلك إلا لكي أعين مكانا تاريخيا أضع فيه آراء فلاسفة القرن الثامن عشر، وتوضيحا لهذا أقول: إن المؤرخ لا يستطيع أن يعرض آراء نيوتون وفولتير
17
قبل أن يبين بالضبط أنهما - من حيث الزمان - يأتيان بعد دانتي وتوماس الأكويني، وقبل أينشتين وه. ج. ويلز،
18
ويصح أن أنسب لطريقتي هذه ميزة أخرى، هي أني إذ أدرج نيوتون وفولتير في هذا النسق التاريخي، أجاري استحسان العقل الحديث لها، والظاهر أنه يجد في انتهاجها راحته، وراحة العقل في ذاتها جديرة بأن تطلب؛ إذ إن العقل إذا ما ارتاح إلى نسق ما للأشياء، ظن أنه قد حصل على تعليلها، وهذا بالضبط ما سأحاوله، أريد أن أقدم تعليلا تاريخيا لفكر القرن الثامن عشر، ببيان اتصاله بشيء سبقه وبشيء آخر لحقه.
هذا؛ وقد اعتدنا أن نعتبر القرن الثامن عشر عصرا طابعه الطابع الحديث، والثابت فعلا أن فلاسفته أعلنوا براءتهم من خرافات الفكر المسيحي في العصور الوسطى وشعوذته، واتخذوا من هذا ما يباهون به، ونحن نميل - عادة - إلى تصديق ما نسبوه إلى أنفسهم، ولم لا نصدقهم ونحن أنفسنا نقول: إن عصرهم كان - فوق أي شيء آخر - «عصر العقل»، وإن فلاسفته كانوا لا أدريين، بل كانوا سرا ملحدين، وإنهم عكفوا على طلب المعرفة العلمية، وتمسكوا بالمنهاج العلمي، وإنهم نفروا لسحق الممقوتة (وهو الاسم الذي أطلقوه على الكنيسة المسيحية)، وإنهم البواسل المدافعون عن الحرية والمساواة والأخوة وحرية القول وكل ما تشاء؛ وهذا جميعه صحيح، بيد أني أعتقد أن هؤلاء الفلاسفة كانوا أقرب إلى العصور الوسطى، وكانوا أقل انطلاقا من أفكار نصرانية العصور الوسطى مما تصوروا هم، وما نظنه نحن فيهم، وإن كنا قد ألحقناهم بعصرنا، فأعطيناهم بذلك أكثر من حقهم (أو إن شئت أقل من حقهم)، فإن ذلك يرجع إلى أنهم يتكلمون لغة أقرب إلينا من أي لغة أخرى، وإنا لنقبل على قراءة فولتير أكثر مما نقبل على قراءة دانتي، وإنا لنتبع استدلالا لهيوم
19
أسهل مما نتبع استدلالا لتوماس الأكويني، ومع ذلك فإني أعتقد أن هذا التقدير من جانبنا لا ينفذ إلى صميم فكر هيوم وفولتير وغيرهما من كتاب القرن الثامن عشر، بقدر ما هو متعلق بصفات الفكر السطحية؛ ولذا كنا أدنى إلى أن نرضى عنهم ظرفاء ساخرين، لا جادين متعمقين، وحالهم منكرين أدعى إلى إلحاقهم بأنفسنا من حالهم مثبتين.
على أننا لو فحصنا أصول مذهبهم لتبينا عند كل خطوة أثر فكر العصور الوسطى فيه، وإن كانوا هم عن هذا التأثير غافلين، فعندما فضحوا مثالب الفلسفة المسيحية، فعلوا ذلك بمقدار من الغلو يثبت عليهم أنهم ما فتئوا بعد في غل «الخرافات» التي هم بها يستهزئون، وهم حينما طرحوا عن أنفسهم خشية الله، كانوا يحافظون على ما ينبغي للربوبية من تأدب، وحينما سخروا من فكرة خلق العالم في ستة أيام، كانوا يرون في الكون آلة بديعة التركيب صنعها الكائن الأعظم بتدبير خبير حكيم، لتكون الأرض لبني آدم مستقرا، وحينما أيقنوا أن جنة عدن أسطورة من أساطير الأقدمين كانوا يتلفتون عبر السنين، متلهفين متحسرين على أيام المروءة الرومانية في أوجها الذهبي، أو عبر البحار إلى بنسلفانيا في العالم الجديد، حيث الناس في نعيم جنة لا تشوب طهارته شائبة من دنس، وهم حينما خرجوا على سلطان الكنيسة والإنجيل كانوا يثقون ثقة ساذجة بسلطان الطبيعة والعقل، وحينما احتقروا الميتافيزيقا كانوا يعتزون بأن يسموا فلاسفة، وجردوا السماء من جنة المأوى، ولكنهم - فيما يظهر - كانوا في فعلتهم هذه عجولين؛ لأنهم بقوا على إيمانهم بخلود النفس.
ولم يهابوا الخوض في الإلحاد، ولكن على غير مسمع من أتباعهم، وذادوا عن السماحة في شئون العقيدة الدينية، ذود المستبسلين، ولكنهم لم يستطيعوا مع القسيسين صبرا إلا بشق الأنفس، وأنكروا حدوث الخوارق، ولكنهم آمنوا بقدرة الإنسان على بلوغ الكمال، وبعد أفلا تشعرون بأن هؤلاء الفلاسفة كانوا في نفس الوقت سريعي التصديق كثيري الشكوك؟ وأنهم استهواهم الوقوف عند حد ما هو مدرك إدراكا معاينا متعارفا فأضلهم، وأنهم على الرغم من مناهجهم العقلية وميولهم الإنسانية، ومن نفورهم من الشعوذة والحمية والغموض، ومن اندفاعهم نحو الشك والارتياب، ومن كونهم لا يقدسون شيئا (وإن جرى هذا في أسلوب جذاب) ومن تطاولهم بالتجديف على المقامات السامية، (وإن جرى هذا على نحو ما يجري على ألسنة الشباب النزق)، ومن مثل وعيدهم بأنهم سيستخدمون في خنق آخر الملوك أمعاء آخر القسيسين، على الرغم من كل هذا، فلا يزال في كتاباتهم من الفلسفة المسيحية أثر أكبر مما تصوره مؤلفو كتبنا التاريخية حتى الآن.
هذا هو الموضوع الذي سأحاول بسطه في المحاضرات التالية، وسيكون مما سأعنى بإظهاره أن الأفكار التي قامت عليها فلسفة القرن الثامن عشر هي في جوهرها أفكار القرن الثالث عشر، وهذا بشرط أن نحل محل الاعتبار تغييرات معينة مهمة طرأت على وجهة النظر، وأن الفلاسفة ما هدموا «المدينة الفاضلة» التي بناها القديس أوجسطين إلا ليعيدوا بناءها بما كان يحضرهم من مواد.
20
قوانين الطبيعة وقوانين رب الطبيعة
ما هو القانون الطبيعي؟ إنه النظام المطرد الثابت للحقائق الذي يدبر الله به الكون.
1
فولني
1
حينما ترد عبارة «فلاسفة القرن الثامن عشر» يتجه الفكر أول ما يتجه - وهو على حق في اتجاهه هذا - لأسماء أشخاص فرنسيين بالذات، وهذه الأسماء أصبحت بسبب كثرة الكتابة عن أصحابها مألوفة معروفة في كل مكان، منتسكييه، وفولتير، وروسو، ديدرو وهلفسيوس والبارون دولباك، ترجو وكينيه وكوندرسيه، هذا إن قصرنا الذكر على أشهرهم،
2
وكذلك يجوز لنا نحن ألا نلتفت إلا لفرنسا وحدها، لو كنا نعنى بفلسفة القرن الثامن عشر، أو بالاستنارة (كما يطلق عليها أحيانا) من حيث كونها سبقت ومهدت للثورة الفرنسية، يجوز لنا في هذه الحالة أن نتخفف فنغفل حقيقة يغفلها أكثر الكتاب، وهي أن فرنسا لم تكن البلد الوحيد الذي نعم (أو شقي إن شئت) بوجود الفلاسفة، ولكنني لا أعنى بآثار الاستنارة بقدر ما أعنى بالأفكار التي سبقتها وأوجدتها؛ وعلى هذا فإنه يخلق بنا أن نلاحظ أن تلك الحركة لم تكن حركة فرنسية بالذات، بل كانت جوا فكريا عم فرنسا وغيرها من البلاد، فكان من أبنائها حقا ليبنتز ولسنج وهردر وجيتة في شبابه إلى حد ما، وفي بعض من أحواله المتغيرة،
3
ولوك وهيوم وبولنجبروك وفرجوسون وآدم سميث وبرايس وبريستلي،
4
وفي العالم الجديد جيفرسون ذو العقل الحساس المرهف، يلتقط وينقل أي هزة تحدث في جو الأفكار، وفي العالم الجديد أيضا فرانكلين
5
الطباع صديق بني الإنسان - هؤلاء جميعا ينتسبون لحركة الاستنارة، على الرغم مما بينهم من تغاير، يرجع إلى خواصهم الذاتية أو القومية، فكانت دولة الفلاسفة إذن دولة عامة، وما كانت فرنسا منها إلا البلد الأم، وما كانت باريس إلا حاضرتها الكبرى، وأنى ذهبت: إنجلترا، هولندا، إيطاليا، إسبانيا، أميركا وغيرها، فأنت تلقاهم - أي الفلاسفة - يتكلمون نفس اللغة، ويعيشون في نفس الجو الفكري، ينتمون للبلاد جميعا لا لبلد بعينه، فولاؤهم للإنسانية وحدها، ولا مطمح لهم إلا أن يعدوا ضمن «أولئك الرجال القليلين الذين استحقوا شكر الإنسانية لما بذلوه في سبيلها من فطنة وعمل صالح.»
6
هم المواطنون العالميون المتحررون، يقع نظرهم على عالم يخيل للرائي أنه جد حديث، وما ذلك إلا لأن النور قد انتشر منذ زمن قليل في أرجائه، وهو عالم يجدون فيه كل ما هو جدير بالتفاتهم ظاهرا مرئيا، وكل ما هو ظاهر ألفوه صافيا واضحا لأقصى حدود الوضوح، على الرغم من كل ما قيل، ولا شبهة في أن عقل الإنسان يستطيع فهمه - أو قل عقل الفلاسفة.
وهناك أمر آخر عن الفلاسفة له شيء من الأهمية يقتضينا إنصافهم أن نذكره ولو عرضا؛ وخصوصا لأن قليلا فقط من الكتاب كلف نفسه ذكره، هذا الأمر هو - أن الفلاسفة لم يكونوا فلاسفة، بمعنى أنهم لم يتخذوا من الفلسفة صناعة تعليم، مثل أولئك الذين يرون من واجبهم أن يطلعوا على الناس في أوقات متلاحقة برسائل في نظرية المعرفة وما إليها من موضوعات، رسائل مرتبة ولو أنها تولد ميتة، حقيقة أن من فلاسفة القرن الثامن عشر من كان فيلسوفا بالمعنى الذي عرفناه، فكتابات ليبنتز ولوك وهيوم، ويصح أن نلحق بها كتابات آدم سميث وهلفسيوس، مما يندرج تحت عنوان الفلسفة، ومما يعرض له في كتاب تاريخ الفلسفة، إلا أن أكثر فلاسفة القرن الثامن عشر كانوا أدباء يكتبون الكتب ليقرأها الناس، ولينشروا فيهم آراء جديدة أو آراء قديمة في ثوب جديد، وحسبي أن أذكر أن فولتير كتب قصصا للمسرح وحكايات، وألف في التاريخ، ووضع كتابا في أصول فيزيقا نيوتون للسيدات والسادة الذين لم يرزقوا حظا من معرفة الرياضيات، وأن فرانكلين كان من رجال العلم والاختراع، وكان سياسيا وسفيرا واقتصاديا وأخلاقيا، وأول الأمريكيين اشتغالا بفن المقالة الصحفية القصيرة، وأكثرهم توفيقا في ذلك الفن، وأن ديدرو كان بالإضافة إلى عمله في الإشراف على تحرير دائرة المعارف وكفالتها، صحفيا يكتب في كل موضوع خطر على ذهنه المتوقد، فمن معارض الفنون إلى ما تضمنته نظرية الكون الآلية من اللوازم الاجتماعية، إلى ما يترتب على كبت العواطف في الراهبات من سوء الأثر، وأن روسو وهو في مجال إثبات أن الفن كان وبالا على بني الإنسان استعمل أرفع درجات الفن في كتبه في الدعوة السياسية، وفي قصصه التهذيبية، وأن مابلي وضع مؤلفا تاريخيا مطولا ليثبت أن فرنسا كان لها فيما مضى دستور سياسي خليق جدا بالإعجاب، وإن لم يتيسر لها - لسبب غير ظاهر - أن تفيد منه.
7
ومع هذا ومع كون فلاسفة القرن الثامن عشر غير فلاسفة، فقد كانت لهم كما لنظرائهم اليوم رسالة فلسفية نهضوا لإبلاغها وحملوا إلى بني آدم أنباء البشرى بما هو آت، وإن تساءلنا: أنزهوا أنفسهم عن الغرض؟ أأخلصوا للفكرة وحدها؟ قلنا قطعا: لا، فلا تفتشن إذن عن تلك الصفات السامية في كتاباتهم، وخصوصا عندما يدعونها، لقد تجدها أحيانا هنا وهناك مثل عرض نيوتون وزملائه لنظرياتهم العلمية عرضا علميا خالصا، وربما صدق هذا أيضا على بعض آثار فرانكلين وهيوم، أما أن الفلاسفة عموما كانوا قوما اعتزلوا الناس واكتفوا بمعاينتهم والتلهي بهم، فإن هذا لم يكن من خصائصهم، حقيقة تفيض آثارهم دقة فهم وبراعة حديث وسخرية، وكان فولتير كما نعرف جميعا مبرزا في هذا، بيد أن السخرية لم تعرض للأشياء في صميمها، ولم تمس إلا المثالب الظاهرة التي يسهل على أي إنسان أن يطلع الناس على سخفها، وعلى ذلك لم تكن في أيديهم الدواء الشافي، بل كانت فقط ذلك النوع من الدواء الذي يهيج الجسم لعله يقضي على الداء، وإنا لنرى أيضا أن فلاسفة القرن الثامن عشر لم يمسهم التشاؤم إلا مسا خفيفا، ولم يستقر في نفوسهم كما فعل في «إباحيي»
8
القرن السابع عشر، فإن قيل إن عدم اغترار هيوم وفرانكلين بالدنيا كان شيئا عميقا حقا، أجبنا أن هذا صحيح، ولكن الرجلين استطاعا أن ينفسا عنه باتخاذ أسلوب من التهكم الخفيف يمر دون أن يزعج أحدا، بل دون أن يزعج صاحبيه على وجه ما، ولقد استخف فولتير بكل شيء، ولكن أين استخفافه من استخفاف فردريك الأكبر،
9
لقد كان استخفاف فريدريك شيئا سرى في الدم، حتى صار جزءا لا يتجزأ منه، وأين هو من استخفاف لاروشفكو،
10
وكان هذا استخفاف نبيل من سراة القوم، لا يشعر نحو بني الإنسان قاطبة إلا بعدم الاكتراث المجسم، وأين هو من استخفاف بسكال،
11
لقد كان هذا أثر داء روحي قتال، أثر هم في الفؤاد، والواقع أن استخفاف فولتير لا يدل على أكثر من عبث عقل مرن طليق، أو على ضجر رجل مثالي ضاق ذرعا بما هو قائم في زمانه، وكان فولتير رجل تفاؤل حقا، وهذا على الرغم من «كانديد»
12
وأخواتها، ولكنه لم يكن من المتفائلين السذج، هب للذب عن قضايا وعن مبادئ، على أنه لم يختر القضايا الخاسرة، كان في زمانه كالصليبيين في زمانهم، مجاهد أقسم ليسترد للدين الحق دين الإنسانية مدائنه ومعابده ومنازله، فولتير رجل شك! يا للخطأ الغريب! كلا، إن فولتير رجل إيمان، ورسول دعوة وكفاح لم تفتر له همة حتى النهاية، وهذه مؤلفاته في سبعين مجلدا، فيها بلاغ للناس، فيها الحق الذي سيجعل من بني الإنسان رجالا أحرارا.
والآن وقد بلغت هذا الموضوع، يخلق بي أن أذكر الكلمة الكثيرة الاستعمال «الحمية»، ما رأي القرن الثامن عشر فيها؟ إني أعلم أن كتاب هذا العصر وبصفة خاصة كتاب صدره، يحرصون عموما على التزام القسط والهدوء، وعلى ألا يشردوا بعيدا عن نداء الإدراك الفطري السليم، وإني أعلم أن مشاهد الحمية تهيجهم وتدفعهم للسخرية، ولكن ألا يدل هذا على أن التزامهم الهدوء، كان شيئا متكلفا من جانبهم؟ فمعنى أن يسخر الإنسان من شيء أنه مهتم بذلك الشيء، وكان إذن نفور الفلاسفة من الحمية أبعد شيء عن عدم الاكتراث، أو أن هذا النفور كان في ذاته الحمية، كان دليلا على عزمهم ألا يسلموا إلا بما هو ظاهر للحواس، وعلى مجاهدتهم الحميدة ليفتحوا للعقل نوافذ تتطهر بها حناياه العفنة الموصدة، وإن جاز لواحد منهم أن يقنع بمشاهدة دنيا بني الإنسان دون أن يشغل قلبه بقليل أو بكثير من أمرهم، كان هيوم الخليق بهذا؛ إذ كان له من أصالة الرأي النصيب الأوفر، كما كان يختال بقدرته على ضبط نفسه وصيانتها من الانفعال كما لو كان زفس بعينه، كان كذلك بطبعه، وكان ينبغي أن يكون كذلك بحكم فلسفته، فإن نظره فيها قاده إلى القول «بأن السبب الأول للأشياء يستوي في اعتباره الخير والشر كما تستوي لديه الحرارة والبرودة.»
13
فقائل بهذا لا يمكن أن يخضع لوهم ما، ومع ذلك فقد رأى هيوم - على الرغم مما اصطنعه من برود الطبع - أن رأيا كهذا لا يدع مجالا لاهتمامه بشيء ما قد جاوز في الإسراف حدا بعيدا، فأدرك وجوب تلطيفه نوعا ما، فكتب في سنة 1737:
أعمل الآن في تهذيب مؤلفي، أو بعبارة أخرى، أحاول أن أقلل ما استطعت من إغضابه للناس، وهذا جبن، ولكني لا أستطيع أن أغلب الحمية على نفسي في كتبي الفلسفية، بينما آخذ على الغير خضوعه لأنواع أخرى منها.
14
وأظن أن اعتذار هيوم عن عدم السير بحجته المتشائمة حتى نهايتها المنطقية بسبب رغبته في تجنب الظهور بمظهر الحمية ينطوي على شيء من الدهاء المكشوف، وأعتقد أن السبب الحقيقي الذي جعله يخفف من شكه هو شعوره بأن النتائج السالبة لا تنفع، يؤيد هذا قوله: «من سوء الخلق أن ينشر الإنسان رأيا يفضي بالناس إلى ارتكاب ما هو خطر أو ضار، ولم التنقيب في خفايا الطبيعة التي لا ينبعث منها إلا ما يشيع في الناس القلق، ولا ريب أن الحقائق التي تؤدي إلى إيقاع الضرر بالمجتمع - إن صح أن هناك حقائق من هذا النوع - سوف تتراجع أمام الأباطيل إن كانت طيبة نافعة.»
15
ومهما يكن فقد ترك هيوم عند منتصف عمره المباحث الفلسفية لغيره، واشتغل بعلوم أخرى كالتاريخ، والأخلاق؛ أي بعلوم يمكن العمل فيها بلا مواربة دون أن يغضب أحدا، فضلا عما فيها من عبر وعظات، وهكذا انحرف أمير المتشككين المبغض للحمية بغضا حادا خالصا عن جادته، ليتخذ سبيلا آخر في صحبة أولئك الذين نفعوا الإنسانية، فاستحقوا عنها خير الجزاء.
وما كان هيوم في هذا إلا ممثلا لعصره، يمثله في أن خاصية العصر لم تكن عدم الاكتراث الناشئ من معرفة الدنيا على حقيقتها، بل كانت السعي المتلهف لوضع أمورها في نصابها، وهاكم كلمتين قيل إنهما من اصطلاح القرن الثامن عشر: «فعل الخير والإنسانية»، صاغهما فلاسفته للتعبير عن مثل أعلى مسيحي قديم هو السعي في مصالح الخلق، وفي هذا السياق نتذكر على وجه الخصوص الأب دي سان بيير، كان رجل جد ووداعة، جم النشاط على غير كبير طائل، «يضحكون منه، ولكنه لا يرى في جده ما يستوجب الضحك.»
16
وكم من مسعى لهذا القديس في حرث الدنيا وفي مصالح الناس الدنيوية، وكم من مشروع وضع، وكم من فكرة اقترح، لتحسين أحوال الإنسان: «مشروع لتمهيد الطرق في فصل الشتاء»، «مشروع لإصلاح الاستجداء»، «مشروع لجعل الأمراء رجالا نافعين»، وذات يوم خطر بباله بغتة مشروع بهت لجماله، وقضى خمسة عشر يوما كاملة في درسه وصياغته
17
ثم طلع باقتراحه المشهور «مشروع لإقرار سلام أبدي في أوروبا».
وبعد فلنا إن شئنا أن نضحك نحن أيضا من الأب مع الضاحكين، ولكن ألا يذكرنا كلفه بالمشروعات برجل منا نحن الأمريكيين، بجيفرسون وشغفه بالإصلاح، وبأمريكي آخر هو فرانكلين، وبالفوائد التي ملأ بها التقويم الذي سماه تقويم ريتشارد المسكين،
18
ولنضحك منه ما شئنا على أن نكون واثقين من أننا لا نضحك منه وحده، بل من العصر كله، فما كان الأب دي سان بيير إلا مثلا لعصر شغله صلاح أمر الإنسانية، وولع بوضع مشروعات عديدة لخيرها، ولن نستطيع أن نجد رجلا ما في ذلك الربيع المزهر من تاريخ الإنسانية لم تكن له يد في تدبير مشروع أو في تخيل مشروع، بل وماذا كانت تصنع أكثر الأكاديميات العلمية في فرنسا سوى بحث المشروعات والتخاصم على المشروعات والتمتع بالمشروعات، بل وماذا كانت دائرة المعارف، وماذا كانت الثورة الفرنسية نفسها؟ مشروعات كبرى ولا شك، وفي الجملة وفي لب الموضوع ماذا كان يشغل ذلك القرن الثامن عشر المستنير؟ وما هي أهميته بين العصور سوى أنه وقف كل ما ملك من جهد لتوطئة السبل لبلوغ بني الإنسان السعادة والتمتع بنعم الحرية والإخاء والمساواة، وأن رجاله آلوا على أنفسهم أن يحققوا ذلك، وأنهم واصلوا البحث في وسائله مواصلة لا تنقطع، ودعوا الناس إليه دعوة تفيض حرارة وإيمانا، وأنهم حين قدروا أن الأجيال المقبلة ستعرف لهم جميل صنعهم سعدوا بذلك، وسكبوا دموعا لم تكن دموع محزون، وكان من أمرهم أنهم لم يغفلوا شيئا ما حتى ذلك المشروع البسيط بساطة السذاجة لجعل الأمراء رجالا نافعين، ولك أن تسأل هل كانت مشروعات العصر في جملتها أكثر غناء من مشروعات الأب دي سان بيير، أو هي كذلك في الظاهر فقط؟ ومهما يكن فمنبعهما جميعا كان ذلك المثل الأعلى المسيحي، وهو السعي في مصالح الخلق، وذلك الدافع الإنساني نحو تقويم المعوج.
هذا وإني لست بغافل عما حدث من تغيير خلال القرن الثامن عشر في مظاهر التعبير عن ذلك الدافع التقويمي لإصلاح الفساد، وذلك أنه منذ حوالي عام 1750 بدأت العاطفية تطغى على الإدراك السليم، وبلغ من قوة تأثيرها في السلوك أن كانت دموع القوم تنهمر لأي انفعال، وقد قيل إن روسو هو المسئول عن تلك الظاهرة العجيبة، والظاهر أن الرجل مظلوم، فالثابت أن ديدرو - مثلا - عرف البكاء قبل أن يتصل بروسو، وبقي يسكب الدموع حتى بعد أن تخاصما وانفصلا، والثابت أيضا أن الظاهرة كانت أمرا ذائعا من زمن، ففي عام 1760 حينما اعترف القسيس الصغير الأب جالياني
19
لديدرو بأنه لم يبك في حياته قط، وقع ذلك أسوأ وقع في نفس صاحبه، وقبل هذا بأعوام حين قال فونتنيل إنه يستبعد العواطف من كل شيء إلا من الشعر الوصفي للحياة الريفية
20
أثار هذا القول في نفس جريم شعورا يقرب من الكراهية، وهذا على الرغم مما كان عليه جريم من برودة الطبع واستقامة النظر، هذا على أنه لا ينبغي لنا أن نبالغ في أمر هذه المظاهر، والمهم هو أن ندرك أن كتمان رجل كفونتنيل ما في نفسه، واستفاضة عواطف رجل كديدرو كانا كلاهما آية انشراح صدر الرجلين لنوع من الإيمان جديد يفوق في نظر العصر انشراح الصدر للدين قوة وتأثيرا، بيد أن الفلاسفة كانوا إلى روح الدين أدنى مما علموا، كانوا حملة الرسالة التي خلفها المذهب البروتستنتي والمذهب الجانسنيوسي
21
وإن جردوها من صبغتها الدينية، وما كان نفورهم من الحمية في حقيقة الأمر إلا علامة الغيظ، لقد غاظهم وهم جماعة المستنيرين أن الإنسانية ظلت دهرا طويلا يضلها القسيسون وبطانة القسيسين من الدجالين الذين تولوا عن القسيسين قضاء مآربهم، وما زالوا بعد يتولونه، ووسيلتهم إلى هذا أن يختموا على عقول العامة وأن يجعلوا عليها غشاوة فيمتنع عنها نور العقل، وتبقى ناعمة في ضباب العاطفة. ويصرخ جريم من أعماق نفسه: «لقد استغرق إخضاع بني الإنسان لجبروت القسيسين أزمانا، وسوف يستغرق خلاصهم منه أزمانا، ويقتضي جهدا موصولا ونجاحا بعد نجاح.»
22
فيتعين علينا إذن ألا يحملنا عبث القوم وظروفهم وأدب أسلوبهم ورصانة نثرهم على ألا ندرك ما وراء هذا كله من نار تتقد ومن أسى يملأ الجنوب، وما أحراهم بأن تجري على لسانهم صيحة اليأس التي فاه بها القديسون من قبل طلبا للفرج والخلاص: «إلى متى يا رباه! إلى متى!»
ولو قدر الفلاسفة أن تجري الأمور وفق ما اشتهوا لما طال أمد انتظار الفرج، على أنهم عكفوا على تحقيق ما تصبو نفوسهم إليه، فهبوا ينشدون الحقائق في ذاتها، وقاموا يفسدون على المضلين ناشري الغموض تدبيرهم، بيد أنهم خشوا الظهور بمظاهر الحمية فأخفوها وراء حجاب من الهدوء المتكلف، كان مطلبهم الحق، ولكن أي حق يطلبون؟ ذلك الحق الذي تستقيم معه دعوتهم، ويستطيعون أن يتخذوا منه منافع شتى، فقد حذرهم إدراك فطري سليم من أخطار معرفة كل شيء، ألا يقول المثل السائر: «من يفهم كل شيء يعف عن كل شيء»، وكانوا بعد على قرب من العهد بسلطان الأباطيل، لا يطيقون معه صبرا على ترك باطل ما وشأنه، وكان جهدهم في نشر النور قد استنفد قواهم، فحال بينهم وبين لذة إرجاء الحكم على الأشياء، وما إن تحررت نفوسهم من رق الأوهام حتى أدركوا أن عليهم رسالة يخلق بهم أن يؤدوها، رسالة خلاص البشرية بأسرها، والرسالة تحمل خصائص الحركات المهدوية، بذلوا في سبيل أدائها قدرا من قوة اليقين والإخلاص والحمية لا يقدر، وكلما تقدم القرن الثامن عشر نحو نهايته، زادت الحمية تأججا وزاد ولههم بالحرية والعدل، وبالحق والإنسانية، إلى أن برح بهم الوجد فكان ذلك المشهد التاريخي الرمزي يوم 8 يونيو 1794، حين نهض المواطن روبسبير في محفل من قومه حاملا في يد باقة من الأزهار، وفي الأخرى مشعلا، وأشعل النار رمزا لتطهير العالم من الجهل والإثم والسفه، وكان هذا إيذانا بقيام دين جديد، دين الإنسانية، وكان مشهدا خليقا بالإعجاب والأسى معا!
23
لقد أسرف الكتاب في تأكيد جانب السلب من كفاح أولئك المجاهدين في سبيل نصرة العقل، أسرف هذا الإسراف كتاب القرن التاسع عشر؛ لأنهم كرهوا رجال عصر الاستنارة، وأسرفنا نحن في القرن العشرين؛ لأننا لا نحب رجال العصر الفيكتوري، والواقع أن هذا السلب من جانب رجال القرن الثامن عشر لم يعد في أكثر الأحايين أن يكون حكما تهكميا على قشور الأشياء، وأنه لم يجاوزها إلى اللب، خذ مثلا تلك النفثة الخاطفة البراقة من نفثات ذكاء فولتير: «ما التاريخ في نهاية الأمر، وبعد أن نقول كل ما يمكن أن يقال فيه، إلا حاصل احتيال الأحياء على الأموات.» نسمع هذا فنقول: ما أصدقه! ونعجب لعمق فكرة فولتير، ثم يهدينا بعد ذلك قليل من البحث إلى أن نرى أنه لم يعن بالضبط ما نعنيه نحن، أما هو فإنه لم يرد أكثر من أن يدمغ بأسلوبه الظريف المؤرخين غير الأمناء، وأما نحن فإنا نرى أن فولتير قد عبر بأوجز عبارة عن حقيقة خطيرة ألا وهي أن أي تاريخ مهما كان أمينا لا بد أن يكتسب شيئا من ذاتية كاتبه، حتى ولو لم يتعمد هذا ذلك، وأن كل جيل من الناس لا يجد محيصا إذا ما شاء أن يحصل على نوع التاريخ الذي يرضيه من أن يحتال على الأموات، فينسب إليهم الأفعال والأقوال التي تكون نوع التاريخ الذي يريد، وخذ مثلا آخر قوله: «لا شيء أدعى لحنق الإنسان من أن يشنق سرا.» ترى هل فهم فولتير جميع ما انطوى عليه هذا القول الوافر؟ ترى هل أدرك ما ندرك نحن الآن - أو ما نظن أننا ندرك - وهو أنه هو وزملاءه الفلاسفة قد استمدوا غير قليل من التشجيع على مواصلة الجهاد في سبيل الحرية والعدل من توقعهم أن يكون جزاء سفاهاتهم أن يشنقوا (أو في الأغلب تماثيلهم فقط) علانية لا سرا.
ولكننا إذا كنا قد فهمنا من سالبهم معاني تزيد كثيرا على ما أرادوا، فقد تقبلنا موجبهم وإشهادهم على أنفسهم طبقا لما أرادوا، خذ مثلا تحديد فولتير للدين الطبيعي: «أفهم من الدين الطبيعي مبادئ الأخلاق كما هي مقبولة لدى بني الإنسان عموما.»
24
وإذا لم يتطرق إلينا كثير من الضجر فلنلق هذا السؤال العابر: «وما الأخلاق؟» دون انتظار للإجابة على سؤالنا؛ إذ قد ثبت بالاختبار أن تقريرات الفلاسفة تحير، وخذ مثلا آخر: تحديد فولني للقانون الطبيعي، وأقرنه بتحديد الحبر الملائكي (أي القديس توماس الأكويني) الذي سبق لنا ذكره، قال فولني: «(القانون الطبيعي) هو النظام المطرد الثابت للحقائق، وبه يدبر الله الكون في النظام الذي اقتضت حكمته أن يظهره لإدراك الإنسان الحسي والعقلي، لكي يكون لبني الإنسان قانونا موحدا مشتركا، يضبط تصرفاتهم، ويهديهم جميعا دون اعتبار ما لألوانهم وألسنتهم وشيعهم نحو الكمال والسعادة.»
25
عبارات هذا التحديد في ذاتها لا غرابة فيها، ولكن لو نفذ نظرنا إلى الفكرة نفسها، فهلا نرى أنها غريبة عنا، بعيدة بعد فكرة توماس الأكويني، ولا بأس بتحديد فولني إن استطعنا إثباته فلنسأله: كيف اكتسبت هذه المعرفة التامة بالله وبشئونه؟! ومن أنبأك أيها الرجل الشاك - اسمح لنا أن ننعتك هكذا؛ إذ إنك أنت الذي حملتنا على أن نتصورك شاكا - من أنبأك أن هناك نظاما ثابتا مطردا في الطبيعة؟ وهذا الحيوان الإنسان (ذلك النوع الممقوت كما وصفه فردريك الأكبر) كيف استطعت أن تثق - كما أنت واثق - من أنه يفهم معنى الكمال أو أن الكمال - بفرض أنه يبلغه - يجعله سعيدا؟
على هذا النحو من البساطة كانت تقريرات الفلاسفة تدعي صحة كل ما هو محتاج أشد الحاجة لإقامة الدليل على صحته، فكانت كما في اصطلاح علم المنطق مصادرات على المطلوب، على كل مطلوب يمكن أن يخطر ببالنا أن ننكره أو نتشكك فيه أو نثيره، فلا عجب أن يكون أول ما تتصور عقولنا المتصنعة عن أولئك الشاكين المسلمين بالكثير أنهم كانوا قوما سريعي التصديق سهلي الاقتناع جدا، وأنهم بالرغم عن كل شيء كانوا بسطاء جدا، وأن عواطفهم الإنسانية ساقتهم دون تفكير وروية إلى الترحيب بكثير من الكلام المعاد، وتقبل أنواع هزيلة من الدواء الذي يشفي من كل داء. ويحملنا رأينا هذا فيهم على أن نستشف - نحن المولعون باستجلاء كل سقيم - حقيقة حالهم، نريد أن نعرف علة هذا التفاؤل الهش، نريد أن نعرف سر قوام هذا الإيمان الصبياني وسر هذه الأهواء التي جعلتهم يرون فوضى هذا العالم المعقد نسقا واضحا بسيطا متماثلا. ترى هل جاءهم الوحي بنبأ فاستمدوا منه سلطانا للكلام باسم الله؟ والظاهر أنهم ادعوا شيئا من هذا، فهذا - مثلا - شريد جنيفا تراه على هوان قدره على نفسه يتحد كبيرا من كبراء الأساقفة بصوت متهدج النبرات قاصف كالرعد، وبعبارة أسرف فيها علوا: «أسألك أهو الطريق المستقيم، أهو الشيء الطبيعي أن يجد الله في البحث عن موسى ليكلفه إبلاغ أمر إلى جان جاك روسو.»
26
سؤال لا نستطيع نحن أن نجد له جوابا، وظاهر أن روسو كان يخفي في جيبه الجواب الذي يراه هو ويراه أصحابه الفلاسفة كافيا شافيا، وها نحن أولاء قد بدأنا نشعر أن أصحابنا هؤلاء اعتقدوا أن لهم وحدهم سببا يرتقون به للسماء أو مدخلا خفيا يلجون منه إليها، بابا موصدا دوننا، ولكنه يفتح لهم وحدهم حين يقرعونه قرعا متعارفا عليه بينهم، وإنا لنريد أن ندخل منه، نريد أن نعرف ماذا كان في صدر جان جاك روسو حينما طلب أن يعرف - رأسا ودون وسيط - رسالة الله له.
2
إن شئنا أن نحصل على المداخل الخفية الخلفية التي يلج منها أهل عصر من العصور خفية إلى دار المعرفة، فيحسن بنا أن نبدأ بالتفتيش عن كلمة السر بين كلمات معينة مبهمة المعنى، خفية المنزلة، تدور على الألسنة، وتجري بها الأقلام، دون تردد واستقصاء، كلمات فقدت بالتكرار المستمر معناها المجازي، فتوهمها الناس حقائق - ذات ماهيات ثابتة، كان للقرن الثالث عشر من هذا النوع من الكلمات: الله - الإثم - النعمة - النجاة - الجنة - وما إليها. وللقرن التاسع عشر: المادة - الحقيقة - الحقيقي - التطور - التقدم المطرد. وللقرن العشرين: النسبية - تعاقب الظواهر الملاءمة - الوظيفة - المركب. وللقرن الثامن عشر كلمات لا يستغني عنها مستنير ما، يبغي نتيجة يمكنه الوقوف عندها هي: الطبيعة - القانون الطبيعي - العلة الأولى - العقل - العاطفة - الإنسانية - القابلية للكمال. ولعل الثلاث الأخيرة كانت ألزم الكلمات لأصحاب القلوب اللينة منهم.
ومن خواص هذه الكلمات السحرية أنها تظهر وتذيع ثم تغيب وتختفي، وهي تفعل هذا وذاك خلسة، ولعل العلامة الوحيدة التي تنبئ باقترابها منا أو ابتعادها عنا، أننا نشعر أول ما تذكر بشيء قليل من الحرج، بشيء من الارتباك الذي يصحب الإتيان بما ليس مألوفا، فمثلا كلمة «التقدم المطرد»، نعمت بمنزلة طيبة منذ زمن طويل، ولكنا قد بدأنا نشعر حينما نستعملها بين الخاصة بضرورة التهوين من أمرها بعض الشيء، فنضعها - مثلا - بين علامتي حصر، والعلامتان كما نعرف هما الاعتذار التقليدي الذي يخلصنا عادة من الارتباك، أما الكلمات الأعرق نسبا، فإنها تسبب لنا عنتا أكبر، وإنا لنذكر كيف كان الرئيس ويلسون في خطبه في أثناء الحرب العالمية الأولى يسبب لنا ارتباكا غير قليل، حين كان يتحدث عن «الإنسانية» حديث صحبة وألفة، وحين كان يجهر صراحة بحبه لبني الإنسان. فإذا ما انتقلنا للكلمات: الإثم - النعمة - النجاة، كنا كمن يستحضر أشباحا من عالم الموتى، ولا عذر مطلقا لمن يفعل ذلك، فإن الالتقاء بأولئك المحضرين في مشهد لا عهد لأحد بشهوده مفزع حقا يعقل اللسان مهما كانت ظروف الالتقاء مواتية.
وهذه الكلمات السلطانية الكبرى لم تختف تماما في القرن الثامن عشر، ولكن استعمالها بدأ يبطل عند أرقى المثقفين على الأقل، حقيقة ظل اللاهوتيون - كما هو لازم - يكثرون من استخدامها، ولكن حتى هؤلاء شعروا بالحاجة إلى تبرير ذلك الاستعمال تبريرا عقليا، ومن الأمثلة على هذا كتاب الأسقف بطلر المشهور: تمثيل الدين طبيعيا ومنزلا (1737)،
27
وما كان هذا الكتاب إلا محاولة من محاولات عديدة للتبرير بالعقل، وإن كانت من أكثرها بسطا وأوفرها جهدا، هذا ما كان من أمر اللاهوتيين، أما غيرهم من رجال الأدب أو من رجال الطبقة الراقية، فإن عقولهم المتصنعة مجت تلك الكلمات الأساسية، كما لو كانت لا تتفق مع حسن الذوق، اجتنبها المستنيرون العقلاء واستخدموا عوضا عنها مترادفات أو كتابات أقل تحديدا وإثارة للشبهة، فجعلوا من صورة الإنسان ناجيا ناعما في الدار الإلهية، تخيلا مبهما «للحياة المستقبلة» أو «لخلود النفس»، أو «للسعادة الدنيوية» أو «للكمال الإنساني» في اجتماع دنيوي بحت، وأما النعمة الإلهية فيرادفها عندهم «الفضيلة» بالمعنى الذي عرفه الرومان إلى حد ما - فهي في تعريف مارمونتيل «جماع الاستقامة والطيبة الخلقية - هذا هو أساس الفضيلة»،
28
وعلى هذا فإن ما اعتبر إنسان «رجل فضيلة» كان هذا كفيلا بتزكيته اجتماعيا دون أن يكلف نفسه عناء استطلاع خفايا قلبه، ليعرف حقيقة حاله، بل يجوز لنا أن نقول: إن «رجل الفضيلة» قد يبلغ درجة القديسين إن اشتهرت حاله الشهرة الكافية، وفي ظني أن هيوم وفرانكلين حينما كانا في فرنسا كان لديهما من الدلائل على أنهما قد بلغا من هذه الدرجة مثل ما بلغ أي قديس من قديسي الكنيسة تماما.
وهكذا أقام الفلاسفة مدينتهم الفاضلة على دعائم ترتكز على هذا الثرى، وجعلوا «تزكية الإنسان» من شأن الإنسان نفسه، وتصوروا «الربوبية» على ما يشتهون، ثم استحوذ عليهم ما أنساهم الله، ومنهم من قسا قلبه فجحده، إلا أن أكثرهم لم يهو إلى هذا الحد، وقد حال دون انحدارهم أنهم نشئوا وعاشوا في مجتمع مستقر ناسه بعضهم فوق بعض درجات، ولآداب المخالطة والمعاشرة فيه أوضاع، ولفنه قواعد وضوابط، فلا بدع أن نفروا من الجحود المطلق، فالجحود المطلق معناه كون بلا نظام لا يطيقون أن يتصوروه، فالأسلم إذن - حتى في نظر المستنيرين - أن يبقى للكون رب أو شيء ما يقوم مقامه، يكمل للكون صورة يطمئن لها الإدراك الفطري السليم، على أن كونا على هذه الصورة لا تلزم ربه الصفات الفاخرة البشرية التي نسبها أهل العصور السابقة للرب الأب، وما حاجة رجال العصر إليها وخالق الكون عندهم ما هو إلا مبدؤه الأول! وما دام هذا المبدأ الأول قد أدى ما ينبغي لمبدأ أول أن يقوم به فبدأ الأشياء، فلا ينبغي بعد ذلك أن يكون له بها شأن، بل حسبه أن يأوي حيث الوجود المطلق، وإذن فلا يدبر للناس أمرا ولا يرهقهم، ولا حاجة به إلى قرابينهم وزلفاهم، وحسب ذوي الألباب منه أنه العلم أو الخير، يتأملونه مقدسين، ولكن غير خاشعين أو قانتين، وكان لا بد لأولي الألباب أن يطلقوا عليه اسما يغنيهم عن اسم الرب الأب، ولكنهم لم يتفقوا على شيء، فأحيانا هو الكائن الأعظم، وأحيانا موجد الكون، وأحيانا المقتدر الكبير، وأحيانا المحرك الأول، وأحيانا العلة الأولى، وهي جميعا تؤدي المعنى، وإن كان عدم اتفاقهم على اسم منها يحيرنا كثيرا.
وبعد أن فعل الفلاسفة فعلتهم، وجعلوا من الرب الأب تجريدا رقيقا سموه العلة الأولى، كانوا على استعداد للاستغناء عما نزل الله في كتبه، وعما أبلغ الناس عن طريق الكنيسة، والواقع أن هذا الاستغناء كان مدار فعلة الفسوق التي فعلوا، فشرط الاستنارة عندهم هو إنكار ما أنزل إلى السلف، والاستنارة هي أن يرى الإنسان النور في تمامه، والنور في تمامه يكتشف حقيقتين بسيطتين بديهيتين، إحداهما أن ما زعم عن إظهار الله خلقه على مشيئته في كتبه المنزلة، وعن طريق كنيسته زور وبهتان، أو - إن أحسن الظن - وهم منشؤه الجهل، ألقاه القسيسون في روع الناس، أو - على الأقل - زينوه لهم لكي يزيدوهم هواجس، فيبقى لهم السلطان عليهم، وهذه الحقيقة تجمع المسائل التي أنكروا، وقد قلنا: إن فهمنا لها ليس بالشيء العسير، وأما الحقيقة الأخرى فهي أن الله أظهر الخلق على مشيئته عن طريق أعماله، وهو طريق أكثر بساطة واستقامة وأقل غموضا وإشكالا من طريق الوحي، وهذه الحقيقة تجمع المسائل التي أثبتوا، وقد قلنا: إن فهمنا لها أصعب من فهمنا لصاحبتها، والمستنير هو الرجل الذي يدرك هاتين الحقيقتين، وأن سنة الله مسطرة لا في الكتب المقدسة، وإنما في كتاب الطبيعة الأكبر، وهو كتاب منشور للعالمين، هذا هو التنزيل الجديد، وهكذا ظهر لنا باب المعرفة بعد أن كان خفيا وآن لنا أن نلجه.
وهكذا عرفنا أن جان جاك روسو وأصحابه الفلاسفة، حينما خرجوا يبتغون معرفة رسالة الله إليهم، كان مقصدهم الحصول على هذا الكتاب، كتاب الطبيعة المنشور.
الطبيعة والقانون الطبيعي، ما أشد ما سحرت هذه الكلمات ذلك العصر الفلسفي، وأيما أثر لذلك العصر تطلع عليه، فإنك لواجد لأول نظرة الطبيعة والقانون الطبيعي مرقومتين في كل سطر من سطوره، لقد قرأت عليكم في موضع آخر مختارات من آثار هيوم وفولتير وروسو وفولني، وفي كل ما قرأت عليكم تشغل كلمة «الطبيعة» مكان الصدارة لا ينازعها فيها منازع، كما لو كانت أخلق الضيوف جميعا بالحفاوة، وحينما ابتغيت عنوانا يليق بموضوع محاضرتي هذه، كان حسبي أن أرجع لإعلان استقلال الولايات المتحدة، فأقرأ في ديباجته هذه العبارة:
لكي تشغل (أي الولايات المتحدة الأمريكية) بين دول العالم ذلك المكان المستقل المكافئ غيره من الأمكنة، والذي تؤهلها لشغله قوانين الطبيعة، وقوانين رب الطبيعة.
وإذا ما انتقلت إلى النص المقابل له، وهو إعلان الجمعية الوطنية الفرنسية حقوق الإنسان الطبيعة، فإنك لتقرأ فيه:
إن الغاية من كل اجتماع سياسي، هي صون حقوق الإنسان الطبيعية غير القابلة للتقادم.
وإذا ما تركت هذين النصين إلى المصنفات في علم ناشئ إذ ذاك، هو علم الاقتصاد، فإنك لواجد الاقتصاديين أيضا يطالبون بإزالة القيود المصطنعة التي قيدت حركة التجارة والصناعة؛ وذلك لكي يصبح الإنسان حرا في أن يتجه حسبما يوجهه قانون طبيعي آخر، هو قانون المصلحة الذاتية، وإذا ما تحولت من الاقتصاديين إلى ذلك الحشد المؤلف من كتب ورسائل، وضعها أناس من أهل العصر في الدين والأخلاق، ثم صارت نسيا منسيا، فإنك لواجد فيها حججا لا تنتهي إلى شيء وآراء تتضارب، ونتائج تتغاير، ولا تقبل فيما هو ظاهر أن يوفق فيما بينها، تجد هذا فيها جميعا، ولكنك تجد أيضا اتفاقا بين هؤلاء المتجادلين المختلفين المتشيعين لشيع متعددة، على شيء واحد هو تحكيم الطبيعة، لتفصل بينهم فيما هم فيه مختلفون، وها هو ذا الأسقف النصراني بطلر يقرر في وثوق «أن التمثيل بالطبيعة يؤيد تماما أن لا شيء غير قابل للتصديق في العقيدة الدينية العامة (النصرانية) الخاصة بإثابة الله الناس، وعقابهم في الدار الآخرة على أعمالهم في الحياة الدنيا.»
29
وها هو ذا الإلهي فولتير يرفض النصرانية، ولكنه يؤكد في جزم مماثل لجزم النصارى «أن القانون الطبيعي وهو ما تلقاه الناس عن الطبيعة هو دعامة الإيمان بالأديان.»
30
وها هو ذا الملحد هولباك يرفض الإيمان الديني بجميع أنواعه، ولكنه يعتقد «أن الأخلاق الملائمة للإنسان يجب أن تستمد من طبيعته.»
31
وهكذا يشترك النصراني والإلهي والملحد في الاعتراف بسلطان كتاب الطبيعة، وإن كانوا قد اختلفوا فيما بينهم في هذا الشأن، فإن اختلافهم كان على مدى حجية هذا السلطان، أهو مضاف ومؤيد بسلطان التنزيل؟ أم هو ناسخ له؟ ففي كلتا الحالتين للطبيعة شأن، وفي كلتا الحالتين هي المحك والمقياس، وهكذا هيأ الجو الفكري في القرن الثامن عشر لقادته الاعتقاد بأن ما من فكرة أو عادة أو سنة من سنن الإنسان ببالغة الكمال، إلا إن اتفقت اتفاقا تاما على تلك القوانين التي «تطلع الطبيعة البشر كلهم عليها في جميع الآباد.»
32
ولم تكن فكرة الطبيعة أو القانون الطبيعي شيئا طرأ على القرن الثامن عشر، فأرسطاطاليس يقر الرق على اعتبار أنه يطابق الطبيعة،
33
والقيصر الروماني الرواقي ماركوس أورليوس يرى أن «أي شيء يجري على سنن الطبيعة لا يمكن أن يكون شرا.»
34
والفقهاء الرومانيون بذلوا الجهد لكي يوفقوا بين القانون الوضعي والقانون الطبيعي (وقانون الشعوب الذي اهتدى بنو الإنسان إلى ضرورة خلقه بمحض عقولهم.)
وتوماس الأكويني كان يرى «أن إشراق القانون الأزلي في المخلوق العاقل هو الذي يسمى القانون الطبيعي.»
35
وكالفن يذهب إلى أن «النصفة الطبيعية تقتضي أن يتخذ الأمير ما استطاع من عدة القتال ليحمي الرعية الموكولة إلى رعايته من أي اعتداء يقع عليها.»
36
وروبرت باركلاي المنتسب لجماعة الخلان أو «الكويكرز» يقول: «إن حمل الناس على اعتقاد ما لا ترضاه ضمائرهم مضاد للقانون الطبيعي بالذات.»
37
وفيتوريا وهو معلم دومينيكي يحدد قانون الشعوب بأنه: «القانون الذي سنه العقل الطبيعي، ليسري على جميع الشعوب.»
38
وسواريز الفيلسوف اليسوعي يرى «أن نور الفهم الطبيعي حينما يبين من تلقاء نفسه ما هو واجب الفعل يمكن أن يسمى القانون الطبيعي.»
39
وجروتيوس أقام الاجتماع المدني والاجتماع الدولي، كليهما على الطبيعة الإنسانية «وهي أم القانون الطبيعي»،
40
وأصحاب الحركة المعروفة في التاريخ الإنجليزي في القرن السابع عشر بحركة المسوين بين الناس، استندوا في تبرير حركتهم إلى «قوانين الله والطبيعة»،
41
وهوبز احتج بقوانين الله والطبيعة في تقرير أن الحكم المطلق نظام مشروع»،
42
ولوك احتج بها نفسها في تقرير أنه باطل، ومنتني - وكان رجلا مولعا دائما بأية فكرة تخطر - يرى أن ليس من العقل في شيء «أن تتحكم الصناعة في الطبيعة أمنا الكبيرة القوية.»
43
وأخيرا ولكيلا أزيد صبرك احتمالا أذكر رأي باسكال، هدته صحبته الطويلة للطبيعة وسننها إلى أن يقرر في شأنها هذا الحكم: «وبعد فما هي الطبيعة؟ ولم لا تكون العادة أمرا لا طبيعيا؟ إني أخشى كثيرا ألا تكون الطبيعة إلا العادة الأولى، وألا تكون العادة إلا الطبيعة الثانية.»
44
وإذن فلم تكن هذه الصورة المثالية للطبيعة شيئا خاصا بالقرن الثامن عشر وحده، ولكن كان للطبيعة في ذلك القرن شأن لم يكن لها فيما سبقه من العصور، كانت صورتها في القرن الثامن عشر أتم وأوفى مما كانت من قبل، خليقة بأن تستهوي أهله حقا، كانت صورتها في العصور السابقة له أقرب لتمثيل «شبح» الطبيعة - إن جاز القول - منها لتمثيل الأصل نفسه، وكان الإدراك الفطري يشعر الناس حتى القرن الثامن عشر بأن مظهر الطبيعة يدل على أنها ليست سلسة القياد، بل على أنها غامضة محفوفة بالمكاره، أو في أحسن الأحوال - شيء متنافر مع بني الإنسان، فاحتاج الناس إلى توكيد جازم مصدق بأن لا داعي يدعوهم للخوف، وأتاهم اللاهوتيون والفلاسفة بهذا التوكيد؛ قالوا لهم: إن الله خير وعقل، فكل ما يخلقه لا بد أن يكون على نحو ما خيرا وعقلا، حتى ولو ظهر لعقلنا المحدود أنه ليس كذلك، واستنبطوا بناء على هذا نظام الطبيعة من الصفات التي نسبوها للخالق؛ ولذا كان القانون الطبيعي عندهم متعلقا بكون تصوري مفارق للكون الحقيقي؛ أي بتركيب منطقي مثاله في العقل الإلهي، ينعكس انعكاسا أقل جلاء في عقول الفلاسفة، فلا علاقة إذن للقانون الطبيعي بالظواهر الطبيعية؛ أي بما يحدث فعلا في الطبيعة.
ومهما كان من أمر توكيد اللاهوتيين والفلاسفة القدامى أن منظر «شبح» الطبيعة أسوأ من مخبره، فإن الناس اطمأنوا حقا في القرن الثامن عشر إلى أنه لم يعد يطرقهم ليخيفهم؛ إذ قد تحول إلى ما هو أثبت من خيال، صار ذا ماهية ثابتة، وتكرر طروقه فألفوه وعرفوه، وإن شئت أن تدرك حقيقة أمر الطبيعة في ذلك العصر فلا خير من الرجوع إلى «هيوم»؛ وهذا لأن الرجل أنعم النظر فيها أكثر مما فعل أي رجل آخر من معاصريه؛ وهذا أيضا لأنه أدرك قبل غيره أنها وهم، وعلى ذلك فقد صدر عنه، على لسان كليانتيس أحد الأشخاص الخياليين الذين أدار هيوم بينهم المحاورات في الدين الطبيعي، وصف للصورة المثالية للطبيعة، لا نجد خيرا منه في آثار الفلاسفة.
يقول كليانتيس في معرض الانتصار للدين الطبيعي: «انظر فيما حولك من العالم، تأمله كلا، وتأمل كل جزء من أجزائه، ألا تراه يزيد في نظرك عظمة، وأن هذه الآلة العظيمة تتكون من آلات أصغر، وكل من هذه الآلات تتكون من أصغر منها، وهكذا على نسق وإلى حد تعجز الملكات البشرية عن متابعته وحصره وتفسيره، وكل هذه الآلات كبيرها وصغيرها تدخل في تراكيب دقيقة تخطف أبصار المتأملين حقا، وثم حقيقة أخرى، هي أن ما نشاهده في الطبيعة من تجاوب بين الغايات والوسائل له ما يماثله تماما فيما يوجده ذكاء الإنسان، مع مراعاة ما بين النوعين من تغاير في المقدار، وعلى ذلك فلنا أن نقول: إنه بما أن المعقولات تتماثل، فلنا أن نذهب إلى أن عللها تتماثل، أو بعبارة أخرى - إلى أن موجد الطبيعة مماثل على نحو ما لعقل الإنسان، مع مراعاة ما بينهما من فرق في القدرة يتناسب مع ما بين أفعالهما من فرق العظمة.»
45
ولهذا النص دلالتان؛ نلاحظ أولا أنه يدل على أن عملية الاستدلال المنطقي قد عكست، فكليانتيس لا يستدل على أن الطبيعة يجب أن تكون عاقلة بكون الله عقلا أزليا، بل هو يعكس ويقول: إن الله لا بد أن يكون مهندسا؛ لأن الطبيعة آلة؛ أي إنه جعل من القانون الطبيعي، ومما يحدث فعلا في عالم الطبيعة شيئا واحدا، ويؤيد هذا التأويل للاتجاه الجديد أن الذي يثير في نفس كليانتيس الإعجاب، لم يكن جمال الصورة المنطقية للعالم، بل كان دقة التركيب وانسجام الأجزاء الكلية التي شاهدها فعلا فيما هو قائم، فالطبيعة هذه ليست إذن تصورا منطقيا بل حقيقة مادية، والقانون الطبيعي ليس تركيبا من تراكيب المنطق القياسي، بل هو الأفعال المنتظمة المشاهدة الملاحظة التي تفعلها الأشياء المادية.
وهكذا استحالت الصورة المثالية للطبيعة صورة أخرى، وهذه الاستحالة - كما نعرف جميعا - من أثر مكتشفات القرن السابع عشر العلمية وأساسها الملاحظة، لاحظ جاليليو فعلا معينا للبندول، واستنبط من ملاحظاته قانون البندول وصاغه في حدود رياضية، وكان نيوتون رجلا مؤمنا يوقن حقا بأن السموات تسبح بجلال الله، ولكنه آثر لتحقيق أغراض البحث في أفعالها أن يتأملها بعدسة التلسكوب، وأن يسجل تأملاته في صيغ رياضية، وقد هداه هذا إلى أن كل جسيم في السموات وفي غير السموات يفعل كما لو كان يجذب إليه كل جسيم آخر بقوة متناسبة طرديا مع حاصل ضرب الكتلتين وعكسيا مع مربع المسافة بينهما. كان هذا نوعا جديدا من قانون الطبيعة، ويعبر عن هذا التطور الناشر للطبعة الثانية من كتاب «المبادئ» لنيوتون في قوله: إن الفلاسفة فيما مضى شغلتهم تسمية الأشياء عن البحث في ماهياتها. ويعبر عنه نيوتون نفسه في قوله: «إن هذه المبادئ ليست خاصيات خفية تنشأ عن صورة الأشياء بالذات، بل هي قوانين طبيعية عامة تشكل الأشياء على ما هي عليه.»
46
كان هذا مدخلا جديدا للعلم فتحته الفلسفة الطبيعية، فعبر عنه بالعبارتين «البحث في ماهيات الأشياء»، ثم صياغة «القوانين الطبيعية العامة التي تشكل الأشياء على ما هي عليه.»
وحق لهذه الفلسفة الجديدة أن تبهر الأنظار إعجابا، وكان أعجب ما كان من أمرها أن الطرائق التي اتبعت للكشف عن الحقائق العظيمة التي اكتشفت كانت في حد ذاتها بسيطة عادية جدا، فمثلا أن يكتشف نيوتون طبيعة الضوء، كان في ذاته أقل إثارة لإعجاب معاصريه من كونه توصل إليه بتحريك منشور بين يديه، فكأن الطبيعة قد غدت لأول مرة قريبة جدا من بني الإنسان يستطيعون أن يلمسوها بأيديهم، وأن يطلعوا على دقائقها العجيبة بأعينهم، وأنها ليست في حقيقة الأمر إلا تلك الأشياء العادية التي يراها أي واحد من الناس بعينه، ويلمسها بيديه كل يوم، وأن القانون الطبيعي ما هو إلا الكيفية المطردة التي تقع بها أفعال تلك الأشياء، البخار يدفع بعضه بعضا من بزبوز غلاية الماء، الدخان صاعدا خفيفا خفيفا من المدخنة، ضباب الصباح منقشعا عن المرعى، ها هي ذي الطبيعة في كل ما حولنا تجري على سنن لا غموض فيها لتأتي بعجائبها، تطلع آحاد الناس جاهلهم وعالمهم على حد سواء على قوانينها النافذة في كل شيء معقولية وخيرا، وإلى حد ما غرابة وتعقيدا أيضا.
وحينما أضحت الفلسفة تستخدم أنابيب الاختبار بدلا من فن الجدل كان لأي إنسان - بالقدر الذي يسمح به ذكاؤه واهتمامه - أن يصبح فيلسوفا، ويقول جيتة: «أقنع كثير من الناس أنفسهم بأن الطبيعة وهبتهم فعلا قدرا من الإدراك السليم المستقيم، يكفيهم فيما يظنون لكي يكونوا رأيا واضحا عن مختلف الأشياء، وأنهم بهذا قد أصبحوا قادرين على تسخيرها لمنفعتهم ومنفعة أبناء جنسهم، دون حاجة إلى عناء التفكير في القضايا الكونية، ولم يقفوا عند حد الاقتناع، بل طبقوا فعلا منهجهم البسيط الذي وصفت، ففتحوا أعينهم وتوجهوا بأبصارهم نحو الأشياء لا يتلفتون عنها يمنة ولا يسرة ملاحظين مجدين نشيطين.
وبلغ من هذا أن ادعى كل إنسان لنفسه الحق، لا في التحدث في الفلسفة فحسب، بل في أن ينتحل شيئا فشيئا اسم «الفيلسوف»، وبلغ من ذلك أيضا أن صارت الفلسفة لا تختلف في الكثير ولا في القليل عن مجرد الإدراك السليم البسيط العلمي، ولم يتردد واحد من الناس في أن يعالج القضايا الفلسفية العامة والتجارب الباطنة والظاهرة بهذه الأداة التي يملكها الناس جميعا، وكانت خاتمة المطاف أنك تجد الآن الفلاسفة في جميع الكليات الجامعية، وليس فيها فقط، بل في مختلف الطوائف وبين أصحاب مختلف الحرف.»
47
ويذكر كلام جيتة بقول أفلاطون المشهور: «إلى أن يصبح الفلاسفة هم الملوك، فلن ينقطع للمدائن فساد.» أما وقد صار كل زيد من الناس فيلسوفا، فقد حق للفلسفة أن تحدث أثرا سواء للخير أو للشر؛ وذلك لأن زيدا ونظراءه لا يصطنعون الفلسفة - إذا هم اصطنعوها - حبا فيما تكسبه عقولهم من مرانة في الجدل، ولكنهم يفعلون ذلك أملا في الحصول عن طريقها على حياة أفضل، وهم حين تروقهم فلسفة ما ينزعون إلى إضافتها لعظيم من عظماء الرجال يستهويهم حبا أو كرها إن أخرج الناس مذهبا جديدا، وهم حينما يأخذون بهذا المذهب ينسبون له من المعاني ما لم يخطر على بال صاحبه، ولنا في شيء حدث في الخمسين سنة الأخيرة شاهد بهذا عندما قرن الجمهور «فلسفة التطور» باسم داروين،
48
وجعل الداروينية تفيد إما «القردية» أو تسلسل البشرية من فصيلة القرود أو تحميل الرجل الأبيض أعباء البشرية (أو تبرير استعباد الأوروبيين للشعوب الأخرى)، والمعنيان يدهش لهما داروين لو أتيح له أن يطلع عليهما، فقد كان الرجل مستغرقا في علمه، ومثل هذا حدث في القرن الثامن عشر، ربط الجمهور الفلسفة الجديدة باسم نيوتون، على اعتبار أن الرجل بكشفه عن «القانون العام للطبيعة»، رفع حجاب الغموض، وأثبت بالبرهان أن لا شيء فيها غير معقول، وغير قابل لأن يفهم، وأنها تبعا لذلك قابلة لأن تسخر لمنافع الناس، وبرهن هو على هذا فيما ظن الجمهور على حين أن غيره من العلماء لم يتعد فيما يظن الجمهور حد تقريره فقط.
وأصبحت الفلسفة النيوتونية - على هذا النحو - شيئا مألوفا لدى الجمهور في منتصف القرن الثامن عشر، مثل الفلسفة الداروينية في زماننا، ويقول فولتير: إن آثار نيوتون لا يقرأها إلا قليل من الناس، وسبب ذلك أن فهمها يقتضي من القارئ أن يكون عالما، ولكن في الوقت نفسه يتحدث في نظريات نيوتون كل إنسان، ولم يقرءوا كتبه، هم لا يهمهم كثيرا ما قرره من أمثال أن «رد الفعل مساو دائما ومقابل للفعل»، بل الذي يهمهم حقا هو الفلسفة النيوتونية، وهذا شيء آخر، وليس هناك ما يدعوهم إلى أن يرجعوا لكتابه «المبادئ» لكي يجدوا الفلسفة النيوتونية، بل الأفضل لهم ألا يفعلوا ذلك، وأولى بهم أن يتركوا هذا لناشري آراء نيوتون بين الجمهور، هؤلاء أقدر من العامة على أن يحصلوا من الكتاب على ما شاءوا من الفلسفة، بل لعلهم أقدر على هذا من نيوتون نفسه! فليرجع إذن من شاء إلى الكتب من أمثال «تمهيد مبسط سهل للفلسفة النيوتونية في ستة فصول، وتوضيحه ستة ألواح نحاسية»، (من وضع بيامين مارتن ونشر في 1751 وطبع خمس مرات)، أو «علم الفلك مقاما على مبادئ السير إسحاق نيوتون، وميسرا لمن لم يدرسوا الرياضيات»، (من وضع جيمس فرجوسون ونشر في 1756 وطبع سبع مرات)، أو «أصول فلسفة نيوتون» من وضع فولتير، ونشرت له ترجمة إنجليزية في 1738، أو «النيوتونية للسيدات»، من وضع الكونت الجوروتي، وطبع بالإيطالية ثلاث مرات، ونشرت له ترجمة بالفرنسية في سنة 1738، وأخرى بالإنجليزية في 1739 بعنوان «نظرية الضوء والألوان»، أو لمن يفضلون العلم نظما - «النظام النيوتوني للكون - الصورة المثالية للحكومة - قصيدة رمزية»، (من إنشاء ج. ت. دساجلييه وتاريخها 1728).
49
يجد الناس في هذه كلها وأمثالها ما كانوا يبتغون من الفلسفة النيوتونية، وهم لم يبتغوا من هذه الفلسفة النظريات العلمية لذاتها، وإنما لعلاقتها بقضية القضايا، بالقضية الأساسية، ألا وهي علاقة الإنسان بالطبيعة، وعلاقة الإنسان والطبيعة كليهما بالله، ويبسط الموضوع على خير وجه كولن مالكورين أستاذ الرياضيات في جامعة أدنبرة في كتابه «عرض اكتشافات السير إسحاق نيوتون الفلسفية»، ولعل هذا الكتاب أحسن ما أخرج بالإنجليزية لتقريب فلسفة نيوتون من الأذهان، (وقد نشر في 1775)، قال:
موضوع الفلسفة الطبيعية وصف الظواهر الطبيعية وشرح عللها، وبحث النظام العام للعالم، وقد دفع حب الاستطلاع الإنسان في جميع الأذهان دفعا قويا نحو النظر العلمي في الطبيعة، ولا توجد صناعة نافعة للإنسان إلا ولها ارتباط بهذا النظر العلمي، وللموجودات جمال لا ينفد، ولها فيما بينها اختلاف وتنوع وتعدد، وهذا الجمال وهذا التنوع يكسبان النظر العلمي في الطبيعة متعة وطرافة وجدة دائمة.
ولكن الفلسفة الطبيعية تخدم غايات أسمى من هذا، وأسمى هذه الغايات هي أنها تضع أساسا للدين الطبيعي وللفلسفة الأخلاقية؛ وهذا لأنها تهدينا بطريقة مرضية لمعرفة موجد الكون ومدبر أمره، وأن أداء الفلسفة الطبيعية لهذا لهو أهم ما يكسبها اعتبارا.
إننا يجب علينا أن نلتمس معرفة الله عن طريق النظر في صنعه، وليس خليقا بنا أن نتخذ مما أوتينا من العلم القليل القاصر عن هذا الكائن العظيم الباطن مادة لتعليل قضائه وقدره ووصف أفعاله.
وإن ما نراه في الطبيعة على كل ما يشوب نظرنا من نقص لكفيل بأن يدلنا دلالة محسوسة على تلك القدرة النافذة في كل شيء الفعالة بقوة وسداد، ولا يعييها أعظم أبعاد الفضاء أو الزمان، وتلك الحكمة الجلية - على حد سواء - في تركيب الأشياء جليلها ودقيقها التركيب الرائع وفي إحكام حركاتها، وهذه القدرة والحكمة توجههما - على ما هو مشاهد - إرادة الخير المطلق.
ومن هذا جميعه يتكون المقصد الأسمى لنظر الفيلسوف، وإن الفيلسوف حين يتأمل هذا النظام الكامل ويعجب به لا يلبث أن يهتز حمية وشوقا ليماثل في نفسه الانسجام العام السائد في عالم الطبيعة.
50
والكلمات التي اختتمت بها هذه القطعة تعبر تعبيرا صادقا عن حالة الشعور عند منتصف القرن الثامن عشر، ونستدل بها على أن مريدي الفلسفة النيوتونية ما زالوا بعد أهل عبادة وتهجد، بيد أنهم خلعوا على ما يعبدون شكلا آخر واسما جديدا، فهم إذ نزهوا الله عن الطبيعة، اتخذوا من الطبيعة ربا، ولهم - إن شاءوا - أن يرددوا دون تكلف وبيسير من التعديل دعوة صاحب المزامير: «أرفع عيني إلى الطبيعة من حيث يأتي عوني.»
51
فإذا هم رفعوا أبصارهم نحو السماء وتأملوا هذا النظام الكامل وأعجبوا به، اهتزوا حمية وشوقا ليماثلوا في أنفسهم الانسجام العام السائد في عالم الطبيعة.
3
وللرغبة في أن تماثل النفس الانسجام الطبيعي العام منبع دائم في قلب الإنسان، ولقد هوت أفئدة القديسين في جميع عصور التاريخ إلى الاتحاد بآلهة أزمانهم، وكان الطريق إلى الاتحاد بالله في العصور الوسطى الصوم والصلاة وحرمان الجسد من ملذاته وقهر «الإنسان الطبيعي».
وجاء في الآثار:
من ذا الذي سيخلصني من الجسد الحال فيه هذا الموت! والجسد - مقام الروح إلى حين - كل ما فيه متنافر، هو لباس من البلى دنس ملوث مطبق على الروح حاجب لها، فلا تجد في أثناء رحلتها الدنيوية وسيلة للاتحاد بالله إلا بعناء، هذا إن وجدت، ولكن أصحابنا أهل الاستنارة اعتقدوا شيئا آخر؛ وذلك أنهم حينما كشفوا عن أعينهم الغطاء، رأوا أن الإنسان الطبيعي والإنسان الروحي ما هما إلا مظهران متباينان لكائن واحد منسجم في ذاته.
وقد تولى جون لوك وضع إرادة الإيمان هذه في قالب عقلي، وتم له هذا في كتابه التاريخي «مقال في موضوع الفهم الإنساني»، الذي أصبح المرجع الأساسي للقرن الثامن عشر في علم النفس، وكان أهم ما أفاده أهل العصر من الكتاب بسطه لقضية المعاني الغريزية، وقد جاء فيه أن العقل لا يحصل على شيء ما من المعرفة بالوراثة، فليست هناك معان غريزية، ولكنه يحصل على المعرفة من وجوده في بيئته، ومن الإحساسات التي تتوالى وتتدفق، ويقول أحد النقاد المحدثين: «إن نظرية المعاني الغريزية التي أثبت لوك فسادها ليست إلا صورة ساذجة ممسوخة من المذهب الحقيقي للغريزية، لدرجة أنه يصعب أن نتصور أن أحدا من رجال الفكر الجادين اعتقد في الغريزية على الوجه الذي عرض له لوك.
52
وقد يكون هذا صحيحا، ولكن الذي يهم تاريخيا هو وجود تلك الصورة الساذجة الممسوخة فعلا، وذيوع أمرها وتصديق الناس لها. والواقع أن الشيء الذي سعى لوك لهدمه، ونال بذلك تهليل القرن الثامن عشر كان العقيدة النصرانية التي تقرر أن الإنسان آثم خسيس بجبلته، وقد تتابعت الأجيال وهذه العقيدة جاثمة على صدر الإنسان، تنقض ظهره كأنها السحابة السوداء تطبق الجو، ثم جاء لوك وقرر أن النفس عند الميلاد تخلو من أي معنى مغروس فيها، وليست في الحقيقة عندئذ إلا كالصحيفة البيضاء من الورق، الخالية من أي نقش، ثم ينقش العالم الخارجي الطبيعي والإنساني على هذه الصحيفة البيضاء جميع المعاني والمبادئ، خيرها وشرها المرقومة في النفس، فإن كان المحيط الخارجي مضطرب النغم، متنافر الألحان، فالنفس تكون كذلك، ولو تحقق ما ينبغي أن يتحقق - وليس ذلك بعزيز - فاستقام النغم وانتظم اللحن، فإن النفس تستقيم أيضا. هذا ما انتهى إليه لوك، وبه نال ما نال من علوم الصيت في عصره، وقد قدر له معاصروه أنه هيأ لهم أن يصدقوا ما كانت أنفسهم تواقة لتصديقه دون أن يخدعوها أو يكلفوها ما لا تطيق، هيأ لهم أن يصدقوا أن الإنسان ونفس الإنسان تسويهما وتصورهما الطبيعة، والطبيعة خلقها الله فلبني الإنسان إذن المقدرة على أن ينشئوا بين النظام الطبيعي العام وأفكارهم وأفعالهم توافقا وانسجاما لا يقتصر على الأفكار والأفعال فحسب، بل يمتد أيضا إلى مختلف أنظمة الحياة، «ولا يحتاجون لبلوغ هذا لأكثر من استعمال ملكاتهم الطبيعية.»
53
وقد رحب عصر الاستنارة بهذا المذهب أيما ترحيب، وآمن به إيمان بساطة وتصديق، ونهض الناس شجعانا متسامين وتنادوا: هلموا إلى العمل، فقد صار في الإمكان أن نشكل كل شيء من جديد طبقا لقوانين الطبيعة وقوانين رب الطبيعة.
والصيحة: «هلموا إلى العمل» شيء والعمل شيء آخر، فالعقبات كثيرة جدا لا حصر لها، هذا من حيث العمل، ولكن الأمر ليس أمر عمل فحسب؛ فسلامة الفكرة ذاتها كانت موضع شبهة، فإنك إن دققت النظر في استدلالات لوك الطويلة العريضة، فلن تستطيع أن تخفي عن نفسك ملاحظة تبعث على القلق والحيرة، هي هذه: بما أن الطبيعة صنع الله، وبما أن الإنسان صنع الطبيعة فكل ما يخطر ببال الإنسان، وكل ما يفعله الإنسان في الماضي والحاضر والمستقبل، لا بد أن يكون شيئا طبيعيا ومتفقا مع قوانين الطبيعة وقوانين رب الطبيعة، جال شيء من هذا في صدر باسكال حينما ساءل نفسه: «لم تكون العادة أمرا لا طبيعيا؟» ومهما يكن الجواب فإننا لا يزال عند السؤال: إن كان كل شيء جرى ويجري وسيجري طبيعيا، فكيف يتأتى أن يكون للإنسان أفعال وعادات متنافرة مع الطبيعة؟ وهل يجوز لنا أن نعتبر مخرجا من الإشكال ما ذهب إليه الشاعر إسكندر بوب من عدم وجود تنافر؟ إذ جاء في قصيدته المشهورة «الإنسان» ما يأتي:
ما الأشياء جميعها إلا أجزاء من كل واحد ترد عظمته الطرف كليلا
هذا الكل الطبيعة جسده والله روحه
وما يظهر لأبصارنا شقاقا هو ائتلاف خفيت عنا حقيقته
وما الشر إلا شيء جزئي غايته الخير العميم.
وعلى الرغم مما يذهب إليه الغرور، وعلى الرغم من العقل الضال، فإن هناك حقيقة واحدة واضحة كل الوضوح هي: أن كل شيء كائن حق.
54
والشاعر يخاطب العقل، ولكن كلامه ليس جوابا، بل هو هروب من الإجابة، هو مصادرة على المطلوب، فإن تقرير الشاعر أن كل شيء كائن حق سلب كلمة حق أي معنى تفيده، اللهم إلا أن عندنا سيرتنا الأولى، فجعلنا على أعيننا غطاء من الإيمان النصراني، وهذا ما فعله الشاعر بوب في الواقع، تأثر خطا القديس توماس حين كتب عشرين مجلدا، لينزل السكينة على عالم كان على شفا جرف هار من الشك، عشرين مجلدا ليعلن للناس أن وجود الباطل حق، هكذا الدنيا، وعلم ذلك عند الله وحده.
وللشاعر رخصته، له إن أراد إرسال المثل السائر أو التماس راحة الضمير أن يرجع إلى اللاهوتيين السالفين، ولكن هل يستطيع الفلاسفة أن يفعلوا هذا دون أن ينكروا مقدمات استدلالاتهم وشهادة الإدراك الفطري، وكيف يتأتى لهم هذا وقوام فلسفتهم أن وجود الله وإرادته الخير يستدل عليها المؤمنون بما يشاهدون من أحوال العالم، لقد قالوا في هذا ما قاله نيوتون، وكرروا القول حتى صار حديثا معادا، وشارك الفلاسفة فيه اللاهوتيون المسيحيون المستنيرون، حين سعوا جهد سعيهم للإتيان بحجج ترد لليقين المفرطين في الشك،
55
وهل يستطيع الفلاسفة أن يقولوا إن كل شيء خير في نظر الله، دون أن يقولوا أن لا شر مطلقا في عالم الطبيعة والإنسانية يقع عليه الحس؟ وكيف يمكن أن يقولوا أن لا شر مطلقا في هذا العالم؟ ألم يبلغهم نبأ الزلزلة التي دكت مدينة لشبونة العامرة الآهلة، وجعلتها أثرا بعد عين، ونبأ الباستيل وما يجري فيه،
56
ونبأ الحشود من بني الإنسان تشهد عذاب رجال تفكك عجلة العقاب أوصالهم وتميتهم موتا بطيئا متمهلا، فيطول كربهم إلى أن تزهق أرواحهم، والناس من حولهم حاشدون شاخصة أبصارهم، لكيلا تفوتهم فائتة مما هم به مستمتعون ؟ أبعد هذا يقال أن لا شر في الدنيا؟ إن من يقول بهذا يشهد على نفسه بأن لا ذرة لديه من الإدراك الفطري، وجملة القول أن لوك مهما كان فضله، لم يأت بحل مقبول لمشكلة وجود الشر في العالم، هذا إن لم يكن قد زادها إشكالا على إشكال، بالنسبة لغير الحذرين من قرائه.
ولم يفت هيوم أن يعالج تلك القضية القديمة قدم العالم نفسه، فعل هذا قبل منتصف القرن الثامن عشر، وقلبها على جميع وجوهها، ثم سلط عليها في «محاوراته في الدين الطبيعي»، جميع ما ملكته الفلسفة الجديدة من وسائل الجدل، وأنفذ فيها نظرا ثاقبا، تزينه الرجاحة وأدب المتحضرين، وانتهى إلى أن قرر في غير هوادة ولا لين عجز العقل عن إثبات وجود الله وإرادته الخير، قال: إن الأسئلة التي سألها أبيقور قديما ما زالت بعد بلا جواب، سأل أبيقور: أيريد الله أن يمنع حدوث الشر ولكنه لا يقدر؟ إذن هو غير قادر، أيقدر على منعه ولكنه لا يريد؟ إذن هو غير مريد للخير، وإن كان قادرا ومريدا، فمن أين جاء الشر؟
57
وحشر هيوم المتصوفة المسيحيين والملحدين في فرقة واحدة بناء على اتفاقهما التام على المسألة الأساسية، وهي عجز العقل عجزا كاملا عن تعليل المسائل الأساسية، وختم كلامه بكلمة جمعت كل ما أوتيه من تهكم: «لكي يصير الأديب مسيحيا متين الإيمان سليم العقيدة، يجب عليه أن يبدأ فيلسوفا شاكا.»
58
فلو انتقل الإنسان لمحاورات هيوم من قراءة فهم وتقدير لكتب الإلهيين المخلصين والفلاسفة المتفائلين الذين كتبوا في العقود الأولى من القرن الثامن عشر، فإنه ملاق عند هيوم ما تبرد به حميته، وما يبعث في نفسه القلق والذعر.
وكان مثل الناس في عصر الاستنارة، وقد هبوا مذعورين مثل قرية أوى أهلها للقيلولة آمنين مطمئنين، وفجأة أحسوا بدعائم مساكنهم تتخلخل، وبالرجفة قادمة من بعيد لتزلزل أقدامهم.
طلعت إذن على الناس من ثنايا المقدمات البديعة للفلسفة الجديدة مشكلة نكراء حاروا بين طرفيها، فإن هم قالوا: إن الطبيعة خير، اقتضى هذا ألا يكون في العالم شر ، وإن هم قالوا: إن العالم فيه شر، اقتضى هذا ألا تكون الطبيعة خيرة بقدر ما في العالم من شر، وماذا فعل أصحابنا المستنيرون والحال كذلك، وماذا كان من أمرهم بعد أن هبوا - والعقل رائدهم وهاديهم - واثقين بأنفسهم راضين عن ألمعيتهم ليسووا عالما غير متناسب القسمات طبقا لما رسمت الطبيعة، كانوا بين حالين، إما أن يغضوا بصرهم عن وجود الحقائق الغفل، فيزعموا أن لا شر في العالم، وعندئذ فلا معوج يقومونه، وإما أن ينظروا بأعينهم فيسلموا بوجود الشر في العالم، وعندئذ لا يجدون في الطبيعة معيارا للإصلاح، لقد تبعوا العقل حيث وجههم، أهم تابعوه حتى النهاية؟ والنهاية وجهتان لا ثالثة لهما، إحداهما العودة للإيمان المسيحي، والأخرى التقدم نحو الإلحاد، فأي الوجهتين يختارون؟ وسواء اختاروا هذه أو تلك، فإن العقل سوف يختفي عن أنظارهم، ويتركهم يواجهون الحياة بلا سند، سوى الرجاء أو عدم المبالاة أو اليأس.
ولكن الفلاسفة وجدوا بعد ضيق فرجا، وعثروا على مخرج من مأزقهم، شأن بني الإنسان دائما، فهم حينما يضيق عليهم الخناق يلتمسون الخلاص عن طريق تطويع العقل، وقد طوع الفلاسفة العقل بأن أضافوا العواطف إليه، فجعلوا الحكم لا له وحده، بل له وللقلب معا، وبأن قيدوه بقيود من التجارب، فجعلوا للتجارب القول الفصل، وبأن استمهلوه مناشدين إياه أن يرجئ أحكامه إلى أجل، متعللين بأن أقرب الظن أن العالم لا يعدو بعد أن يكون رواية لم تتم فصولا أو آلة لم يكمل صنعها، هو بعد شيء ناقص آخذ في سبيل الاكتمال، وتعللوا عند اللزوم «بأقرب الظن هذا»، كما لو كان هو الواقع، وسيكون همنا في المحاضرتين التاليتين، أن نزيد هذا كله بسطا، وأن نطلعكم على ما كان من أمر الفلاسفة، وكيف آثروا اتباع العقل، ولعلهم أحسنوا عندما اختاروا سبيله، وإن كانوا لم يحسنوا العمل تحت لوائه، وكيف ساروا قدما لبناء صرح المدينة الفاضلة التي خطرت على قلوبهم، وجعلوها آية التمام والبهاء والكمال.
التاريخ الجديد: تعليم الفلسفة
التاريخ الجديد أو الفلسفة تعلم الناس بضرب الأمثال، فالتاريخ يطلعنا على الإنسان تفصيلا - إن صح القول - بعد أن تطلعنا الأخلاق عليه جملة.
فونتنيل
فائدة التاريخ الكبرى هي مجرد الكشف عن المبادئ الثابتة العامة في طبيعة الإنسان.
هيوم
1
يذكر برونيتيير في إحدى كتاباته أن الوثائق الرسمية مهما اختلفت أغراضها، لم يدونها كاتبوها لكي يتخذ منها المؤرخون مادة كتبهم،
1
ويؤيد هذا ما تحققته من أن مسلك الناس وفعالهم تدل على أن تيسير عمل المؤرخين في الأزمنة المستقبلة آخر ما يبالون به، فمثلا لو أن هيوم نشر كتابه «المحاورات في الدين الطبيعي»، وقتما أتم تصنيفه لأراحني من عناء كبير، فلو كان قد نشر الكتاب لاستطعت أن أقول إن غيره من الفلاسفة - ديدرو وهولباك مثلا - قرأه، أو أن جفرسون اقتنى نسخة منه لخزانته، أو أن فرانكلين ذكر الكتاب في إحدى رسائله، وأنه تأثر بتعمق البحث، ولكنت استطعت أن أتتبع بناء على هذا وأمثاله ما يسمونه أثر محاورات هيوم إلى أن أنتهي - وأنا راض بما قدمت - إلى أن الفلسفة قد انصرفت - بعد أن بين لها هيوم أن ما هي آخذة في سبيله لا مخرج منه - عن النظر العقلي المحض إلى دراسة التاريخ والأخلاق والسياسة، ولو كان هيوم قد نشر الكتاب وقتما أتمه؛ لأتاح لي أن أعين بلا مشقة تاريخا محددا لانصراف الفلسفة إلى تلك الدراسات، ولكن هيوم لم يبال بتيسير أمري، فبمجرد أن أكمل المحاورات أودعها خزانته دون أن يطلع عليها سوى نفر من أخص أصحابه، وبقي الكتاب مجهولا في حياته.
وهكذا حرمني هيوم من تاريخ معين بسيط، أبدأ منه عملية استدلال تاريخي أنيقة.
وهذه مأساة، ولكنها لا تحدث كثيرا، فمن البين أن أكثر المصنفين لا يفعلون مثل ما فعل هيوم، ولكن هل هي مأساة حقا؟ أظن لا، فلئن فوت علينا هيوم تعيين سنة لبدء اتجاه جديد في الفلسفة، فقد عوضنا عن ذلك غنما كبيرا؛ إذ إن عدم نشر الكتاب حال دون أن نقع فيما يتوهمه السذج من أن فريقا من الفلاسفة ساقته قراءة الكتاب للإلحاد، وهذا الضرب من الوهم شائع بين المشتغلين بتاريخ الأدب، فهؤلاء يجدون متعة أيما متعة في تسجيل انتقال الأفكار من كاتب إلى كاتب، كما لو كانت الأفكار دراهم تنتقل من يد إلى يد، فإذا ما ثبت لديهم مثلا أن زيدا من الناس قرأ كتاب عمرو، أو كان من المحتمل أنه قرأه، فلا بد أن زيدا أخذ عن عمرو الفكرة الفلانية، وهم إذ يفعلون ذلك يغفلون عن حقيقة أساسية هي أنه لولا أن تلك الفكرة أو ما يقرب منها كانت تتشكل في ذهن زيد على نحو ما، لما اهتم بأن يقرأ كتاب عمرو مطلقا، أو لو قرأه لرماه جانبا أو أصدر عنه نقدا ليظهر أنه كتاب رديء ضال، وكم من كتاب أثر في قارئه على عكس ما قصد الكاتب! وهذه مدام رولان قرأت كتب هولباك وهلفسيوس، ولكن هذه الكتب لم تجعل منها امرأة ملحدة، بل - على الضد - ثبتتها في إيمانها بالله، وصرفتها لكتب روسو تبتغي فيها شفاء، ولولا كتب الملحدين لصح جدا أن مدام رولان ما كانت لتقبل على روسو على النحو الذي فعلت.
2
وبعد فلا بأس بأن نعرف أن هيوم أخفى كتاب المحاورات، ولكن الأهم من هذا أن نعرف لماذا اهتم بأن يصنف الكتاب، فإن إخفاءه في زمانه لم يقدم ولم يؤخر شيئا، كما هو الحال بالنسبة لإعادة طبعه في زماننا، ولنا أن نقرأ «المحاورات» اليوم إن شئنا، ولكن لن يقرأه إلا القلة منا التي تهمها - تاريخيا - القضايا التي عالجها، وفي عصر هيوم لم يتمكن الناس من الاطلاع عليه، ولكنهم لم يكونوا بحاجة إلى هذا؛ لأن القضايا التي عالجها كانت من الخطورة والذيوع، بحيث تغنيهم عن قراءة الكتب، وما هي تلك القضايا؟ كانت حقا جد أساسية، تساءل عنها الناس، واختلفوا فيها كما لو كانت نبأ لا يعلم أحد متى بدأ، ولكنه عظم واستقر، فلم يعد أحد يستطيع إغفاله، تساءل الناس: أحق ما يزعمه الملحدون والمبطلون أن لا إله؟ وكان شعورهم شعور قوم من الوثنيين فارقهم معبودهم بليل إلى حيث لا يعلمون وتركهم بلا راع ولا نصير.
فالقضية - وينبغي أن ندرك هذا جيدا - هي قضية العصر العقلية الكبرى، هي قضية وجود الله، اهتزت لها العواطف على نحو يصعب علينا فهمه تماما، لم يكن الذي أزعجهم الإشكال العقلي أو المنطقي الذي اهتم به هيوم وديدرو وباركلي،
3
فالإشكال لم يهم في ذاته الجمهور كثيرا، بل يهم جمهرة الفلاسفة عموما، إن الذي أهم الناس - كتابهم وقراءهم - هو الجواب عن السؤال، هل يوجد إله يرعى أنفسهم الخالدة حق الرعاية، أو لا يوجد إله، ولا توجد نفس خالدة؟ هذا في نظر الجمهور هو وضع الإشكال المنطقي الذي قام على مقدمات الفلسفة الجديدة، والذي حدثتكم عنه في محاضرتي السابقة، وثم وضع آخر: هل العالم الذي يعيشون فيه يحكمه عقل خير أو تتحكم فيه قوة لا تعرف خيرا ولا شرا؟ سؤال حير الألباب في عصر زعموه عصر عقل متثبت من نفسه ومما حوله، متعال ساخر، سؤال أخرج أهله عن صمتهم، سؤال كان موضوع جدلهم وخصامهم أينما كانوا، في الكتب وعلى المنابر وفي سامرهم وحول موائد الطعام حين يطاف عليهم بالنبيذ وبعد انصراف الخدم، وجملة القول أننا لا نتصور فيلسوفا من فلاسفة ذلك العصر جهل السؤال أو تجاهله، كما أننا لا نتصور فيلسوفا من فلاسفة أيامنا يجهل أو يتجاهل نظرية الكوانتوم، وينبغي علينا الآن أن نعرف كيف تصدي فلاسفة القرن الثامن عشر لسؤالهم هذا البعيد الغور، وكيف فصلوا فيه.
وأولا في الملحدين، كان هؤلاء في فرنسا فيما بعد منتصف القرن الثامن عشر شرذمة من رجال شتى، قالوا أن لا حكم إلا للعقل وحده، وافتتنوا به أيما افتتان، وجهر هؤلاء المفتونون «المسعورون» بإلحادهم، فذاع أمرهم أو افتضح إن فضلت، وكان أكبرهم اعتبارا هولباك وهلفسيون ولامتري
4
وميلييه،
5
ولم يخش «المسعورون» العواقب، بل ساروا وراء منطق مذهبهم أينما ساقهم واقتضتهم الرجولة أو الاختيال ألا يذروا معبودهم العقل بعد أن انتفعوا به خير انتفاع، لقد أخرجهم من ظلمات الخرافة إلى نور الحقيقة، وأسدى إليهم بهذا يدا يشكرونها، ومهما شكروا فلن يكونوا في الشكر مسرفين، أفينبغي لهم بعد هذا أن يعرضوا عنه، لا لسبب سوى أنه أطلعهم على عالم ناقص لم يقهر بعد، ولم تعين تقاسيمه ولم تنتظمه في جملته صورة، وإن كان النور قد غمر جميع جنباته؟ كلا! سيتبعون العقل حتى النهاية، سيتبعونه، ولو تبينوا أنه ليس إلها يعبد، بل ما هو إلا عقلهم، وسوف يدخلون تحت رايته عالما غير مأنوس، لا يدل مظهره على أنه خير أو شر، بل يحمل معاني الخير والشر، وهو قابل لأن يكون خيرا لو عرف الإنسان كيف يسخره بجهوده وحده لمنافعه، وقابل لأن يكون شرا لو قصر في ذلك.
وهنا نتساءل: هؤلاء الملحدون، ألم تقرأ كتبهم؟ ألم يكن لهم أثر في القارئين؟ بلى لقد قرأ الجميع مؤلفاتهم - أو بعبارة أدق سمعوا الناس يتهامسون في مذاهبهم، وماذا كان الأثر؟ كان أن ملئ السامعون والقارئون رعبا، وينبغي ألا ننسى أن الملحدين كانوا بمعزل عن الجماعة، وأن الناس اعتزلوهم وأعرضوا عنهم مستنكرين، وكأنما كانت تقام تحت ستر الظلام في دار هولباك سوق للكفر والفسوق، وبلغ من هذا أن كثيرا ممن كانوا يحضرون ولائمه المشهورة - ومنهم بعض الفلاسفة - كانوا ينصرفون منها كما ينصرف مستخفيا مستخزيا من أقدم على لقاء قوم مسرفين، لا يزعهم وازع من خلق ودين، وإن شئنا شاهدا على تأثير الملحدين، فلنحاول أن نتصور - إن تيسر ذلك - ما استولى على قلب جيتة في شبابه من استيحاش، عندما قرأ كتاب هولباك «نسق الطبيعة»،
6
وتحدث فيه إلى إخوانه الطلاب، والكتاب - كما نعرف - خرج عن كل الحدود، وقد أسرف فيه هولباك أيما إسراف، فأنكر وجود الله وخلود النفس، ويقول جيتة إنه وإخوانه الطلاب استغربوا ما ذهب إليه الناس من أن الكتاب يفضي إلى فساد العقيدة، استغربوا هذا؛ لأن الكتاب لم يستدرجهم ولم يستهوهم، بل - على الضد - ودوا لو أن بينه وبينهم أمدا بعيدا، قال: «وجدناه شيئا أغبر لا ينفذ فيه نور ما، كليالي أمة الكمري لا تطلع عليهم الشمس أبدا، بل وجدناه أشبه بجثة أخرجت من قبرها، فكدنا ألا نطيقه في أيدينا وأخذت فرائصنا ترتعد لرؤيته، كأن زائرا طرقنا من عالم الأشباح.»
7
هكذا كان تأثير كتب الملحدين، جعلت فرائص الناس ترتعد، ولكن هل كان الفلاسفة بدعا فيما فعلوه؟ إن كانوا قد تبعوا العقل، فالعقل لم يكن معبودهم وحدهم، بل كان أيضا معبود الفلاسفة جميعا - فيما عدا روسو إن جاز استثناؤه، وقد وصف مورلي كتاب هولباك فقال: «إن الكتاب لفت نظر الناس إلى إصبع معبودهم العقل يخط على الجدار أحكاما قضى بها، قرءوها (كما قرأ سنحاريب في حلمه المشهور ما قضت به الآلهة في شأنه)، قرءوها ويا لهول ما قرءوا! قرءوا أن لا إله، وأن الكون ليس إلا مادة تتحرك من تلقاء نفسها، وأن ما يسميه الإنسان نفسه - وهذا أشنع ما قرءوا - تموت بموت الجسد، كما يموت النغم حين ينكسر العود.»
8
نعت مورلي الأحكام - كما رأيت - بأنها تبعث الهول، وهي قد فعلت ذلك بلا شك - في قلوب الكافة، ولكن الفلاسفة رفضوا أن يسلموا بما قرءوا على الجدار، ولم يخرج على إجماعهم هذا إلا القليل الذي لا يعتد به.
تظاهروا بأنهم لم يقرءوا ما هو مكتوب، أو أداروا ظهورهم نحوه، واتخذ كل واحد منهم سبيله لشأنه متعللا بما شاء.
ولا بد أن كان لكل واحد منهم عذره الخاص في تخليه عن المعبود، ففيما يختص بفرانكلين مثلا نعرف عنه أنه لما حطته الأسفار في إبان الشباب في مدينة لندن، نشر رسالة الحادية، ثم ندم فيما بعد على هذه الفعلة من غرور الشباب وتطاوله، ولم يكتف بالندم، بل اعتقد أنه قد فض الموضوع الخطير الذي أثاره في رسالته حينما قال عرضا إن النظرية الآلية للكون قد تكون صحيحة، ولكن الأخذ بها ليس في المصلحة، وهذا حق، فإن الاعتقاد بها والكتابة عنها ليسا بلا شك في مصلحة فرانكلين، وقد استقر في مدينة فيلادلفيا طباعا ذا اعتبار ومواطنا مشتغلا بالسياسة، أو عندما ذاع صيته مناضلا عن حرية بلاده لدى بلاط سانت جيمس، ونحن نعلم فيما يختص بهيوم - وهذا مثل آخر - أنه استنفد جميع الوسائل الجدلية المؤدية للمعرفة، وأنه لم يطمئن تمام الاطمئنان إلى أن النتائج التي حصل عليها تقوم على أساس مكين، ونعلم أيضا أن الرجل كان يحس بوحدة في مقره بعيدا عن مراكز الحركة السياسية والفكرية، وأنه كان يصبو إلى احتفاء الناس به، ونعلم أن كتبه الفلسفية خيبت رجاءه، فهي من جهة لم تلق رواجا، وهي من الجهة الأخرى لم تلق من أصدقائه حسن القبول، وقد قال له صديقه هتشنسون عنها قولا صريحا، وصفها بأنها باردة لا تسري فيها حرارة الانتصار للفضيلة، والانتصار للفضيلة هو ما يقدره الأخيار في المؤلفين،
9
وكان آخر شيء يوده هيوم لنفسه أن يعتبره الناس رجلا بارد الطبع، لا هم له إلا تبديد الأوهام وإثارة الشكوك والشبهات، بل كان يفضل أن يشتهر بالانتصار للفضيلة على شهرته كاتبا جيد الذوق، ولما وجد أن مؤلفه في التاريخ نال من إقبال الجمهور الشهرة التي كان تواقا لها، زاده هذا يقينا بأن من العبث أن ينبش الباحث حنايا الطبيعة التي قد ينتشر منها الأذى فيما حولها، من أجل هذه الأسباب - بلا شك - أخفى هيوم كتاب «المحاورات»، وثم سبب آخر هو أن معاصريه لو أتيح لهم أن يطلعوا على الكتاب لوجدوا هيوم ينتهي من استدلاله الرائع حقا إلى نتيجة محيرة للب غير متوقعة، ومؤداها هدم نظرية الدين الطبيعي من أساسها.
وقد أوجز هذه الخاتمة في قوله:
إن أي إنسان ملم بقصور العقل الطبيعي يندفع متلهفا متشوقا نحو الدين المنزل.
وهيوم لم يفعل ذلك تماما، فلم يندفع نحو الدين المنزل، ولكنه رفض أن ينشر الكتاب وكان حريصا ألا يخل - في العلانية على الأقل - بواجب التأدب الدقيق نحو موجد الكون.
وفولتير؟ ماذا عنه، كان أخشى ما يخشاه أن يظنه الناس مخدوعا؛ ولذا كان حريصا أن يجعلنا نعرف - تلميحا - أنه مدرك تماما لتلك الأحكام المخطوطة على الجدران، يشير إليها المعبود بإصبعه، يدرك أنه يشير إلى أن لا إله، ولكن لا يهمه إن كان هذا حقا أو باطلا في ذاته، أما الذي يهم حقيقة، فهو أن نصدق بوجوده، فهذا أمر لا بد منه للناس ولعامتهم على وجه الخصوص، فالعامة لن تحصل أبدا على القدرة من الاستنارة الذي يمكنها من أن تفهم أن الطبيعة - على عماها - إن هي جادت بفولتير وأمثاله من وقت لآخر، فإنها بهذا محسنة إلى البشرية خيرة، ولا لزوم في رأيه لأن يشغل الفلاسفة أنفسهم بحل ما هو غير قابل للحل، فليدعوا هذا لسبيله، وليعملوا فيما ينبغي لهم وفيما لهم به طاقة، وللفيلسوف حرثه إن هو انصرف إلى تعهده - وأخلق به هذا - آتى أكله، وعلى الفيلسوف أن يستيقن من أنه سيجد متعة أيما متعة - كما وجد فولتير نفسه - في اجتثاث ما قد ينبت فيه من خبيث النبات.
وأما ديدرو فكان له شأن آخر، أكثر متعة وأجدر بالدرس، يحشره الرأي الشائع في زمرة الملحدين، والظاهر أنه كان كذلك على الرغم من أنفه، وظاهر أيضا أن رأيه في نفسه لم يكن قاطعا كما قطع الرأي الشائع حقيقة من مؤلفاته ما يشهد عليه بالإلحاد، فكان له - كما كان لهيوم - مصنفات (مثل كتابه الفسيولوجيا ورسالته الحديث بين فيلسوف وماريشاله)
10
ذهب فيها إلى أن العالم نظام آلي، وأن الإنسان حدث اتفاقا محضا، وأن النفس لا توجد مفارقة للجسد، وأن إرادة الخير لا تعدو أن تكون آخر ما تبعثه الشهوة أو الكراهية، وأن الإثم والفضيلة مجرد لفظين لا يفيدان شيئا، حقيقة هذا كله كلام ديدرو رجل العقل، ولكن كان هناك ديدرو آخر رفض أن يذيع هذا الكلام، وكان هذا هو ديدرو رجل الفضيلة، الرجل الذي دله قلبه ذو الرأفة والرحمة دلالة أقطع من دلالة عقله على أن الإثم والفضيلة حقيقتا الحقائق، وكان بين الرجلين - بين العقل الخصب والقلب الجياش - صراع دائم يكشف عنه كتابه «ابن أخي رامو»،
11
وهو أبدع ما كتب إطلاقا، والكتاب عبارة عن حوار متألق في أسلوبه تألق محاورات هيوم في أسلوبها، وكلاهما يدور على مشكلة واحدة، ولكن على خلاف المحاورات لا ينتهي «ابن أخي رامو» إلى شيء محدد، لا ينتهي حتى إلى بساطة ما انتهى إليه ديكنز في صحف بيكويك، وهو الإيمان بالقيم الخلقية الأولية، بالمحبة والمودة، بأن يسعد الإنسان بإسعاد غيره.
12
هذا؛ ولم يكن لديدرو نصيب من رصانة هيوم، فبقي حتى آخر عمره مشتت الفؤاد يلتمس عقله قاعدة كافية يبني عليها الفعل الفاضل، ولكنه لا يحصل عليها، ولا يستطيع قلبه أن ينكر الإيقان بأن لا شيء في هذا الوجود يفضل أن يكون الإنسان رجل خير.
13
وإنا لنحس في كل ما كتب ديدرو أن الرجل كان قلقا على مصير الأخلاق، وقد قال: إن أكبر ما كان يتمنى أن يضع كتابا جامعا في هذا الموضوع، وإنه لو أتيح له ذلك، لكان هذا أعظم ما يعتز به في آخر أيامه، وهاك وصفه لما حدث: «لقد هبت الشروع، ولم أجرؤ على أن أسطر الكلمات الأولى من الكتاب، فقد قلت لنفسي: إنني إن فشلت أو لم أخرجه للناس على أكمل وجه، كنت عدوا للفضيلة من حيث لا أحتسب، وزينت لهم الرذيلة دون أن أقصد، ولم أرني أهلا للقيام بهذا العمل الرفيع، وهكذا كانت هذه أمنية شغلت خاطري دائما دون أن تتحقق.»
14
وديدرو يمثل قلق رجال عصره على الأخلاق واهتمامهم بها أتم تمثيل، فإن الفلاسفة عموما كانوا حريصين على أن يعدهم الناس «رجال الفضيلة» حرص ديدرو وهيوم على هذا؛ ولهذا الحرص علته، فهم جميعا يدركون أن خصومهم يعتبرونهم أعداء للأخلاق والفضيلة، وأنهم إن عجزوا عن أن يوجدوا بدلا من المبادئ الأخلاقية المستندة إلى النصرانية، مبادئ تقوم على قواعد جديدة أكثر توطيدا كان هذا العجز إقرارا منهم على أنفسهم بأن كل ما أتوه من سلب وطعن في عقائد النصرانية كان مجرد عبث عابثين، وكان الفلاسفة يعرفون تماما أن أنفذ تهمة وجهها إليهم أولياء المسيحية هي أن الكفر يهدم أسس المبادئ الخلقية والنظام الاجتماعي، ولذا ذهب ديدرو إلى أنه يجب على الفلاسفة أن يواجهوا هذا الاتهام، وأنه لا يكفيهم أنهم أعلم من رجال اللاهوت، بل يلزمهم أن يثبتوا أنهم أفضل منهم، وأن الفلسفة أقدر على تكوين الأخبار من النعمة الإلهية الموصوفة بالغناء والنفوذ.
15
وكيف تثبت الفلسفة أنها أقدر من النعمة الإلهية المستغنية النافذة، إن كانت كل بضاعتها ما قررته من «أن المبدأ الأول للوجود سيان لديه الخير والشر، كما هو سيان لديه الحرارة والبرودة»؟ ولذا كان ديدرو بعيد النظر سديد الرأي حقا، حينما أحجم عن وضع كتابه الجامع في الأخلاق خشية الفشل، فالفشل أسوأ أثرا من ترك الموضوع، والفيلسوف الذي يهدم قواعد الأخلاق المستمدة من الدين، ثم يعجز عن أن يحل محلها مبادئ مستمدة من الطبيعة يستحق أن يسمى «ولي الشر»، وقد قامت الأخلاق، وقام النظام الطبيعي منذ أن عرفه الإنسان على الإيمان بالله، واقترنت الحياة الطيبة في يقين الناس بالعناية الإلهية العلية على كل شيء، فإذا ما قيل للناس أن لا إيمان ولا عناية إلهية ماذا يكون الحال؟ ماذا يكون الحال إذا ما ترك الإنسان لأحكام تقديره لا يقيه واق شر جبلته، إن دنيا هذا حالها لا يستطيع إنسان عاقل أن يتصورها بلا جزع؛ ولهذا كله - وبغض النظر عن الاعتبارات الشخصية والبواعث الخصوصية - أحس الفلاسفة أن إعلانهم الكفر، لا يقل اعترافا بالفشل عن عودتهم للجماعة النصرانية عودة الخراف الضالة لحظيرتها، فأشفقوا جد الإشفاق من أن ينعتوا بالإلحاد، والنعت «ملحد» يفيد في الجو الفكري إذ ذاك كل ما هو منذر بسوء، كل ما هو فحش، كل ما هو بغي، كل ما يفضي للفتنة وشق عصا الجماعة، ولكن ألا يتنافى إشفاقهم هذا مع كونهم مستنيرين؟ لا يتنافى قطعا، فجوهر الاستنارة هو اطمئنان الضمير، وأثمن ما يطلبه الفيلسوف هو المعرفة اليقينية، وكيف يستقيم هذان مع الكفر.
وما الكفر إلا الاعتراف بالجهل! وإن شئت برهانا على هذا، فإنك لواجده فيما أخفاه هيوم في خزانته، وها هو ذا المتصوف النصراني ديميا، والشاك فيلو،
16
آثرا أن يسير في ركب العقل مهما كان المآل، وماذا كان المآل؟ إن العقل عاجز عن أن يجيب عن أي مسألة أساسية تتعلق بالله أو بالأخلاق أو بكنه الحياة، وهل يخلق بالفلاسفة أن يسلموا بهذا؟ أخليق بهم أن يفعلوا هذا بعد أن مضى عليهم ما يزيد على خمسين سنة، وهم يرشقون بسهام العقل والإدراك السليم معاقل الجهل والخرافة، ويملئون الدنيا ضجيجا لكي ينبهوا الغافلين، ولكي يقيموا المجتمع الإنساني على أسس أثبت بنيانا، ولكي يجعلوا الأخلاق والفضيلة في حصن أمين؟ ألا يكون فشلهم ذريعا إذا ما جاءوا بعد عجيج هذه الحرب كله، فألزموا أنفسهم بأن ينفضوا عنها تفاؤلهم، وأن ينبذوا دعواهم، وأن يبطلوا صخب الشكوى والطلب، وأن يعلنوا لعالم مترقب بصوت خافت: «أيها الناس، إن العقل ينبئنا بعد كل ما كان بأن لا إله، وأن الكون ما هو إلا مادة تتحرك من تلقاء نفسها، وبأننا - معشر الفلاسفة - لا ندري شيئا، ومثلنا مثل القسيسين الذين فضحنا جهلهم.»
على أنني لا أود أن أجعلكم تظنون أن الفلاسفة قد فتر ولاؤهم للعقل المحض؛ لأنهم اصطدموا بإشكال منطقي حال دون متابعة السير، فلم يكن هذا الاصطدام السبب الوحيد لفتورهم، بل لم يكن أهم الأسباب، كذلك لا أود أن تظنوا أن ولاءهم للفضيلة زاد اتقادا؛ لأن العقل لم يدلهم على علة مبدئية لوجود شيء اسمه الفضيلة، لا أود أن تظنوا هذا، لا لأن هذه الأسباب لم يكن لها تأثير فيهم، فالواقع في رأيي أنها كان لها تأثير، ولكنني لا أريد أن أغلو في قدرها، ويكفيني في شأنها أن أقول: إن الفلاسفة أحسوا بلا شك حاجتهم إلى سند عقلي إضافي يدعم وعود البشرى التي وعدوها للناس، ويحفظ لصناعة الفلسفة سمعتها، فلا يقولن عنها أحد إنها أفلست، فإذا ما سلمنا بهذا القدر من التعليل، وجب علينا أن نتجه اتجاها آخر لفهم موقفهم، وهذا نستطيع أن نتبينه إذا عرفنا أن التيارات الاجتماعية التي كانت تدفع الناس في ذلك العصر نحو أهدافها دفعت الفلاسفة أيضا.
وإنا لنجد في ترك هيوم للنظر الفلسفي وإقباله على دراسة التاريخ والاقتصاد والسياسة ما يدل على حدوث تغيير في الجو الفكري، وعلى ازدياد انصراف العناية نحو شئون الأمم العملية اجتماعية كانت أو سياسية، هذا بشرط أن تعالج تلك الشئون على نحو يجمع بين الجد وتدفق العاطفة، ويمثل روسو هذه الحالة الفكرية الجديدة، وإن لم يكن هو الخالق لها، وإن شئنا برهانا على هذا فلنا أن نلتمسه في صحيفة الأخبار الأدبية التي كان يشرف على نشرها فيما بين 1753 و1768 - ملشيور جريم، فلنقف هنيهة خلف هذا الرجل الكاد الجلد الشديد العزم، وهو يقلب ما ظهر من الكتب بعد منتصف القرن بقليل، لنقرأ ما يدونه عن بوالو
17
في سنة 1755، يقول: إن قراءه قليلون، فالناس قد أصبحوا قليلي الإقبال على مطالعة الهجاء، وأهم من تقرير هذه المشاهدة تعليق جريم عليها؛ قال: إن الهجاء يتطلب استخدام أخس ملكات الذهن، وهو في نفس الوقت لا يؤدي إلا إلى الهدم؛ ولذا كان في حقيقته قليل الفائدة،
18
ودون في نفس السنة أن كتاب كوندياك «في الإحساسات»
19
لم يتقبله الجمهور قبولا حسنا، وعلل هذا بأن الكتاب فضلا عن سوء ترتيبه بارد الطبع ينقصه «الخيال الفلسفي»،
20
وأسف جريم في موضع آخر لقلة العناية بعلم السياسة، مما أدى إلى تأخر
21
هذا العلم، ولكنه اغتبط؛ لأن العناية بالعلوم النافعة الأخرى، (الزراعة والتجارة والتاريخ والأخلاق) لم يسبق لها أن نالت من إقبال الجمهور ما تناله الآن،
22
وهكذا كانت سمات الاتجاه الجديد: دراسة الأشياء النافعة، ومعالجتها معالجة جدية تليق بالفلاسفة، وإكسابها قدرا من حرارة الخيال، أليس هذا أجدى من أن نفضح قصور العقل وضعف دعائم المعرفة!
وهكذا لم يجاوز عصر العقل منتصف عمره، إلا وقد أقر الفلاسفة بقصور العقل، واستنكروا الخفة وانصرفوا إلى دراسة العلوم النافعة - أو بعبارة أخرى - العلوم التي تقبل الإحصاء والملاحظة، وكلما تقدم العصر نحو نهايته تأكدت هذه الاتجاهات، فزاد الاهتمام الواقعي العملي، وزاد انشغال المفكرين بشئون الإصلاح السياسي والاجتماعي، وارتفعت حرارة الجو الفكري كل عام عن ذي قبل، وانقضى زمان استطاع رجال الحكم فيه ألا يفعلوا شيئا، فلا يوقظوا نائما ولا يحركوا ساكنا، وانقضى زمان استطاع الملوك فيه أن يقولوا: «أنا الدولة» دون استحياء، ولكن جاء زمان آخر، وبعد أن كانت فلك الملوك «تجري بهم بريح طيبة وهم بها فرحون، جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان»، فلا عجب أن وجدوا أنفسهم ملزمين بأن ينادوا بما نادى به فردريك الأكبر: «أنا خادم الدولة الأول»، وانقلب الملوك «ملوكا خيرين »، تلطيفا لذلك الحكم المطلق الذي حيل بينهم وبينه، وكثر كلامهم في «الإصلاح»، وإن هم لم يصلحوا شيئا واستحثوا أولياء عهدهم الأمراء الفتيان أن يدرسوا التاريخ طبقا لما رسمته مناهج مؤدبيهم الفلاسفة؛ وذلك لكي يتعلموا من تجارب الإنسانية ما هو «لازم لأمير عهد إليه بإصلاح حال المجتمع.»
23
ولما كان إصلاح حال المجتمع أقرب شيء لقلوب الفلاسفة، فقد كان عملا مناسبا أن يختارهم الملوك مؤدبين لأبنائهم، مدربين لهم في فنون الإصلاح، ولكن الاختيار وقع في وقت غير مناسب؛ ذلك لأنهم اختيروا لأداء هذه المهمة العملية في الوقت الذي أدركوا فيه عجز العقل المحض عن التوفيق بين العادة والطبيعة، وهو التوفيق الذي طالما دعوا الناس موقنين إلى اعتبار الغاية الخليقة بسعي الإنسان، فإن قال الفيلسوف المؤدب لتلميذه الفتى الأمير: «ينبغي أن يقوم الدين والأخلاق والسياسة على القانون الطبيعي، وينبغي أن تكون هذه الأشياء كلها منسجمة مع طبيعة الإنسان»، حق للفتى الأمير أن يجيب إن كان قد حفظ ما تعلمه من فلسفة: لقد أنبئت أن الكون ما هو إلا مادة تتحرك من تلقاء نفسها، وأن الإنسان أحدثته الطبيعة إحداثا آليا؛ وبناء على ذلك فكل ما هو كائن منسجم فعلا مع الطبيعة، يستوي في هذا إذن القسيسون والفلاسفة، والخرافة والاستنارة، الطغيان ومحكمة التفتيش من جهة والحرية ودائرة المعارف
24
من الجهة الأخرى، فماذا يقول الفيلسوف في هذا؟ عليه أن يسعى أولا لإصلاح العقل المحض، قبل أن يسعى لإصلاح المجتمع، فإن مجتمعا ظاهر الاعوجاج إلى هذا الحد لا يمكن تقويمه إلا إذا تيسر التمييز بين العادة الصالحة بالطبع والعادة الفاسدة بالطبع.
وصلنا إذن للتمييز بين الصالح والفاسد، بين الطيب والخبيث، أو بالأحرى عدنا إلى ذلك، فالفكرة قديمة جدا دينية مسيحية تماما، وهل يفيد ذلك وجوب عودة الفلسفة للدين المنزل - على حد تعبير هيوم؟ ربما لم تبلغ الضرورة إلى هذا، ولكن كان لا بد من إجراء حركة ارتداد من تلك المواقع الأمامية التي احتلها العقل المحض، كان لا بد من العدول عن ذلك الرأي القائل بأن الطبيعة سيان لديها الفضيلة والرذيلة، كما هو سيان لديها الحرارة والبرودة، فإن لم يعدلوا عن هذه، فالأولى بهم أن يتركوا الميدان، فالمعركة لبعث مجتمع جديد خاسرة حتما، والمشروع العظيم لجعل الأمراء مواطنين نافعين مجرد حلم، فهم روسو هذا كله خيرا من غيره، ولعل ذلك يرجع إلى أنه أفهمه بالذوق وبلا كبت من العقل، وبذا كان روسو هو الواضع لخطة الارتداد التي أشرنا إليها، قال: «إن لم يعين الفلاسفة حدودا للطبيعة امتلأت بعجائب الكائنات: وحوش بشعة وعمالقة وأقزام وسائر ما هو عجيب من أمثال ذلك الحيوان ذي رأس الأسد وجسد الجدي وذيل الثعبان، وهكذا يصبح كل شيء فيها ممسوخا، ولن نجد فيها مثالا مشتركا للإنسان، وأعود فأقول: إن الصورة الحقة للطبيعة الإنسانية هي الصورة التي يجد فيها كل إنسان شبيهه، وبعبارة أخرى ينبغي أن نفرق بين أفراد النوع الإنساني، وبين ما هو مشترك بين الأفراد.»
25
معنى هذا أن المعاني الغريزية التي أخرجها لوك بلطف من باب الدار الأمامي، أعادها غير خلسة من نافذة المطبخ، وأن النفس التي سلبها المنطق الديكارتي من الفرد عادوا يلتمسونها في الإنسانية، وقد تكون نفس الفرد شرا، وقد تكون شيئا زائلا، بل وقد تكون وهما، ولكن النفس الإنسانية ذلك الشيء الأصيل في الطبيعة الإنسانية، ذلك «المثال المشترك للنوع الإنساني»، ثابتة وعامة، فهي يقينا خالدة، أوليس هذا هو المذهب الواقعي الذي عرفته العصور الوسطى قد بعث من جديد؟ فحق على الفلاسفة إذن أن يضربوا في الأرض ملتمسين، وفي يدهم مصباح يستمد نوره من استنارتهم، الإنسان المثالي، كما فعل مونتاني من قبل، والوسيلة لذلك هي أن يعينوا ويحصوا ويصفوا الصفات المشتركة لبني الإنسان عموما؛ وذلك لكي يحددوا أي الأفكار وأي العادات وأي النظم في زمنهم لا تتفق مع النسق الطبيعي العالمي، وشرط السعي للحصول على هذا العلم الثمين أن تملكهم الرغبة فيه، كما ملكت أولئك الذين ابتغوا في مشارف الأرض ومغاربها الحصول على الصحفة المقدسة التي تناول منها السيد المسيح «العشاء الأخير»، والشرط الآخر أن يضيفوا إلى النور المستمد من العقل المحض النور المستفاد من التجارب، ويقول قائلهم بريستلي في هذا: «ما نفيده من ملكاتنا العقلية وحدها دون التاريخ قليل.»
26
وليس التاريخ المقصود من هذه العبارة مطلق التاريخ، بل كان ما طلبه الفلاسفة تاريخا جديدا، كانت الفلسفة تعلم الناس بضرب الأمثال.
2 «والتاريخ الجديد» إنما هو قصة قديمة؛ ذلك لأنه لما كان التاريخ لا يعدو أن يكون تأليفا خياليا لأحداث ماضية، وليس حقيقة ذات ماهية ثابتة، فإن التاريخ الذي يعده عصر من العصور نافعا وممتعا، قد لا يكون كذلك بالنسبة لعصر آخر، وقد سبق أن أشرنا إلى ما تحتويه نكتة فولتير من صدق عميق: «ما التاريخ إلا حاصل احتيال الأحياء على الأموات»، ولا أظن أن هذا الاحتيال مما يؤذي الموتى، ولكني أوقن أنه ينفع الأحياء، فهو في أحسن الظروف معين على قهر صعوباتنا، وفي أسوئها معين على احتمالها بما يبعثه فينا من الأمل في مستقبل أزهر، ويتوقف نوع الاحتيال الذي نختار على موقفنا من حاضرنا، فإن كنا راضين عن هذا الحاضر، فالمحتمل أننا لا نحفل كثيرا بأسلافنا، بل المحتمل أن نتعمد إظهار ذلك، وهكذا نجزيهم عما قدموا لنا إن كان هذا جزاء، وإن كنا ساخطين على حاضرنا، فإما أن نعد أسلافنا مسئولين عما أصابنا فنلومهم، وإما أن نتخذ منهم مثلا يحتذى، وننسب إليهم فضائل لم يتحلوا بها، وربما لو بلغهم أمرها لما عدوها فضائل مطلقا. «التاريخ الجديد» تاريخه قديم، وتاريخ التاريخ الجديد في الوقت الحاضر معروف لنا جميعا، ولا حاجة لأن نعود في حديثنا عنه لأبعد من عشرين عاما، حين أعلن جيمس هارفي روبنسون شكواه وأسفه للوقت الذي يضيعه المؤرخون في تحقيق أحداث من نوع: «أين كان تشارلس السمين في اليوم الأول من يوليو سنة 887؟ أكان في أنجلهايم أو في لستناو؟» وأضاف إلى أسفه اعتقاده أن المؤرخين يعرفون الكثير عن الماضي، ولكنهم لا يعرفون عن الإنسان إلا القليل، وأن ما يعانيه زماننا من الارتباك والاضطراب يقتضي منهم أن يقبلوا على دراسة العلوم الإنسانية الجديدة، وأن ما يصرفونه من وقت في تحديد مقام تشارلس السمين كان أجدى عليهم أن يصرفوه في تأمل فك «رجل هيدلبرج»
27
مثلا، إنهم لو فعلوا هذا لأحسنوا استغلال الماضي في سبيل تقدم الإنسانية.
وقد قلنا: إن «للتاريخ الجديد» تاريخا قديما؛ ولذا فلا لزوم لأن نشير إلى أن روبنسون لم يكن أول المتحدثين في التاريخ الجديد، فقد سبقه القديس أوجسطين في القرن السادس - أي في ظروف ظاهرة الاختلاف عن ظروفنا - إلى تبين فوائد تاريخ جديد، ولم يتبين القديس الفوائد فحسب، بل كتب فعلا «تاريخا جديدا» - وإن سماه الدار الإلهية، «والدار الإلهية» أحذق وأتم احتيال أتاه حي على موتى، وقد ظلت تفي بما يطلبه الناس من التاريخ حتى القرن الخامس عشر والسادس عشر، حينما طلب الناس «تاريخا جديدا» آخر، فطلب الإنسانيون
28
تاريخا يخدم دراسة الحضارة اليونانية الرومانية، وطلبت العصبية القومية تاريخا يمجد الملوك أو الشعوب، وطلبت البروتستنتية تاريخا يثبت صحة المذاهب الجديدة، وطلبت الكاثوليكية تاريخا يؤيد المذهب القديم، ثم بعد أن خفت حدة ما بين الأمم والفرق من شقاق، قلت الحاجة إلى استغلال التاريخ على هذا الوجه المكشوف.
وظهر في القرنين السابع عشر والثامن عشر مؤرخون من طراز جديد، غزيرو العلم حقا، ولكن - ويجب أن نقولها - فاترون كليلون، كانت تلك أيام مابيون وديكانج واليسوعيين البولانديين والرهبان البنديكتيين أيام فريريه الذي نشرت أكاديمية النقوش مباحثه الدقيقة وتحقيقه في ثمانية عشر مجلدا طواها الناس طوعا في زوايا الإهمال، وهل يلامون؟ أنا لست قطعا ممن يلومونهم بعد أن رجعت إلى بعض ما وضعه المؤرخون الثقاة من رجال ذلك العهد، وبعد أن قرأت منها ما قرأت لم أعجب لسخط الفلاسفة عليها، فإنهم لم يجدوا فيها ما ابتغوه، فلا أثر بالمرة لنداء القلب في تحقيقات فريريه وديثو ومزراي،
29
هذا من جهة، وأما من الجهة الأخرى فإن المثال الإنساني المشترك الذي صوره بوسويه
30
في مقاله في التاريخ العام كان بالنسبة لهم مثالا باطلا، فنادوا كما نادى جيمس هارفي روبنسون فيما بعد، واستعملوا نفس الألفاظ التي استعملها تقريبا أن لا بد من «تاريخ جديد»، وكان فينيلون بلا شك من أوائل الذين قالوا بهذا
31
على أنه كان فيلسوفا بالولاء فقط إن صح التعبير، أخذ فينيلون على من سماهم «صانعي الحوليات المكتئبين اليابسين» أنهم لا يعرفون نظاما في التأليف سوى نظام التسلسل الزمني، وكان من رأيه أن الأولى بالمؤرخ أن يتتبع التغيرات العامة في تاريخ الأمة، من أن يسجل الأحداث الفردية
32
هذا ما نادى به فينيلون، ولكن صرخته ذهبت في واد زمنا ما.
ثم حينما اقترب القرن الثامن عشر من نصفه، قام آخرون يرددون آراء فينيلون فقال فونتنيل: «أن تكدس الحقائق في الذهن حقيقة فوق أخرى، وأن تحفظ تواريخ الأحداث بالضبط، وأن يشرب الإنسان في قلبه روح الحروب ومعاهدات الصلح والمصاهرات والأنساب - هذا كله ما يسمى «العلم بالتاريخ»، وعندي أن هذا لا يفضل بالمرة حصول الإنسان على تاريخ الساعات التي تطلع أهل باريس على الوقت.»
33
وقال جريم: «تتكون مادة كتب مؤرخينا من تحقيقات ثقيلة متحذلقة لأحداث هي في الغالب تافهة بقدر ما هي مشكوك في أمرها، وأما براعتهم فتنحصر في أن يظهر الواحد منهم بمظهر الظافر بتفنيد ما ذهب إليه الآخر.» وقال أيضا: «يجب ألا يتولى كتابة التاريخ أحد سوى الفلاسفة مهما قال المتحذلقون.»
34
وقال فولتير: «أنت تفضل ألا يكتب التاريخ القديم إلا الفلاسفة؛ لأنك تريد نوعا من التاريخ يستطيع الفيلسوف أن يقرأه، أنت تطلب الحقائق النافعة، بينما لا تجد في معظم ما قرأت سوى الأباطيل التي لا تغني شيئا.»
35
وقال ديدرو: «أي فولتير! غيرك من المؤرخين يروي الوقائع بلا غرض سوى إطلاعنا على الوقائع، أما أنت فترويها لتثير في صدورنا بغضا شديدا للكذب والجهل والنفاق والخرافات والطغيان، وإن نار الاستنكار التي أوقدت لتبقى متقدة في صدورنا حتى بعد زوال ذكرى الوقائع المنكرة.»
36
ويردد الفلاسفة جميعا نفس المأخذ على المؤرخين الثقات المعتمدين، وهو أنهم يجمعون الوقائع لغرض الجمع فقط، ويبتغي الفلاسفة جميعا نفس المطلب، وهو أن يتولوا هم كتابة التاريخ ليستخرجوا من رواية الوقائع تلك الحقائق النافعة التي «تهدينا إلى معرفة أنفسنا وغيرنا من بني الإنسان.»
37
ولم يذهب هذا المطلب سدى، ففي النصف الثاني من القرن الثامن عشر انقلب الفلاسفة مؤرخين - أو المؤرخون فلاسفة إن شئت - وأحاط المؤرخون الجدد من أولئك وهؤلاء بالبشرية جمعاء ما بين الصين وبيرو، كما كانوا يقولون ترى إذن أن لا صحة لما زعمه المؤرخون في القرن التاسع عشر من أن القرن الثامن عشر كان (عصرا لا تاريخيا)، وقد بنوا زعمهم هذا على أن القرن الثامن عشر، كان يعمل على قطع صلته بالماضي ليبدأ بالإنسانية من جديد، بيد أن هذا الزعم لا يستقيم مع ما هو ثابت من كثرة ما صنفه رجال القرن الثامن عشر في التاريخ، ومن إقبال القراء على تلك المصنفات، مما دعا إلى إعادة طبع بعضها عدة مرات، ومما نسبه زعماء العصر للتاريخ من فضل وقيمة، وإنا لنستطيع دون أن نكلف أنفسنا شيئا من عناء التذكرة، أن نذكر عددا غير قليل من المؤرخين المشهورين المبرزين: جيبون وهيوم وروبرتسون من البريطانيين، رولان وفولتير ومنتسكييه ومابلي ورينال من الفرنسيين، وهردر من الألمان
38 - وهؤلاء أشهرهم.
وإذا ما رجعنا لصحيفة الأخبار الأدبية التي كان يؤلفها جريم، تبينا أن التاريخ لقي من عناية العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر كتابة عنه وقراءة ما لم يلقه أي علم آخر، وقد قلت: كتابة عنه، متعمدا، لأبين لكم أن جل الفلاسفة - سواء أوضعوا مصنفات تاريخية أم لم يضعوا - عنوا بأن يتحدثوا للناس في الغرض من كتابة التاريخ، وفيما يجب اتباعه في كتابته، وقد أجمعوا بلا استثناء - فيما أعرف - على أن التاريخ مضافا إلى الأخلاق من أهم ما يدرس من العلوم.
وقد يصح أن الفلاسفة عملوا على قطع الصلات بالماضي، والبدء بالإنسانية من جديد، وأنا أسلم بهذا على وجه معين، ولكن هذا لا يفيد أنهم لم يهتموا بالتاريخ، فالإنسان يضيق بالأغلال في عنقه ويديه، ولكن ضيقه بها يمنعه من أن يغفل ولو لحظة عن مصدره، وعلى هذا النحو كان إحساس الفلاسفة بالماضي، فابتغوا من درسه أن يعرفوا لم لا تزال البشرية - بالرغم عما مرت فيه من التجارب خلال عدة قرون - مغلولة بأغلال من حماقات السلف وأباطيلهم، ولفولتير أن يقول - إذا أراد - إن تاريخ الأحداث الكبرى التي وقعت في هذا العالم لا يزيد كثيرا على أن يكون تاريخ جرائم، ولكن هذا لم يمنعه من أن يكلف نفسه مشقة كتابة تاريخ العالم في ستة مجلدات، ولم يكن أحد أسوأ رأيا في ماضي الإنسانية من شاتلو، الذي ذهب إلى أن الأفكار والعادات السائدة بين أهل زمانه، لا تعدو أن تكون كتلة متراصة من الجهل المكتسب، وقال: «من يروم السعادة يحتاج إلى النسيان أشد مما يحتاج إلى التذكرة.» «فإن الغاية الكبرى التي يسعى إليها المستنيرون هي إقامة صرح العقل فوق حطام الظنون»، ولم ينس شاتلو أن يقوم بنصيبه من هذا المسعى، فكتب تاريخا عاما في مجلدين بعنوان «في سعادة الأمم»، قال فيه:
إن هذه السعادة ستكون من حظ الأجيال المستقبلة، ولا سبيل للحصول عليها إلا بقطع الصلة بالماضي، ولكنه اعتقد في نفس الوقت أن لا شيء يغري الناس بالتبرؤ من ماضيهم، إلا بأن يظهرهم المؤرخ على مقدار فساده، وبناء على هذا الاعتقاد وجد شاتلو حينما كتب في «السعادة» أنه يتحتم عليه أن يتتبع تاريخ «شقاء» الإنسانية.
39
على أن شاتلو لم يلتزم هذا التحديد الضيق، فلم يقصر عرضه على إظهار فساد الماضي فقط، بل أفسح لنفسه بعض الشيء؛ ذلك لأنه كان أيضا يرى أن من العبث أن يدون المؤرخ تاريخ عدد كبير من الوقائع الفردية دون أن يستخرج منها حقائق عامة جديدة أكبر صحة من تلك التي عني الرواة بنقلها لنا.
40
وبينما لم يبلغ أكثر الفلاسفة الآخرين في سوء الظن بالماضي الحد الذي بلغه شاتلو، فإنهم يقرونه على ما ذهب إليه من وجوب استخراج تلك الحقائق العامة التي يمكن الاعتبار بها والانتفاع منها، ونستطيع أن نجد شواهد عديدة تؤيد هذا في كتابات كل من فونتنيل وبريستلي وبولينجبروك وكوندياك وجيبون وروسو ورولان على ما بينهم من اختلاف فيما عدا ذلك، ولكن ليس هناك ما يدعو لهذا كله؛ إذ هي جميعا تتفق في المعنى، وتختلف في المبنى، وشاهد واحد منها يغني عن سائرها، ولنقتبسه من مقدمة ديكلو لكتابه في تاريخ لوليس الحادي عشر؛ إذ هي تعبر عن مقصدهم خير تعبير،
41
قال:
لن أتولى إثبات فائدة التاريخ ففائدته حقيقة نالت من اعتراف عموم الناس ما يجعلها بلا حاجة لبرهان، (والمطلع على التاريخ) يقع بصره على عدد معين من المناظر، تتوالى على مسرح العالم متكررة تكرارا مستمرا، فإذا ما شهدنا نفس الأخطاء تتبعها حتما نفس المصائب كنا على حق إن بنينا على تلك المشاهدة هذا الحكم، إننا لو تجنبنا الأخطاء لتجنبنا المصائب المترتبة عليها، فالتاريخ إذن ينير المستقبل أمامنا، ومعرفة التاريخ إذن ما هي إلا معرفة المتوقع حدوثه.
ويجمل هيوم هذا كله في جملتين: «بلغ من مماثلة بني الإنسان - أيا كان زمانهم ومكانهم - بعضهم البعض الآخر أن التاريخ لا يطلعنا أبدا على جديد أو غريب يتعلق بهم، فتكون الغاية الكبرى منه إذن
42
الكشف عن المبادئ الثابتة العامة في الطبيعة الإنسانية.»
ونعود للسؤال، أصحيح ما زعمه المؤرخون في القرن التاسع عشر من عمل الفلاسفة على (قطع الصلة بالماضي)، مما لا شك فيه أنهم رغبوا في التخلص من الآراء والعادات الفاسدة التي أورثهم إياها الماضي، ومما لا شك فيه أيضا أنهم رغبوا في التمسك بالصالحة منها إن وجدت، ولكننا أعدنا إثبات السؤال لغير هذا، أثبتناه لأنه ما كان ينبغي أن يسأل؛ وذلك لأنه ينسب إلى جو القرن الثامن عشر فكرة لم تكن قد وجدت فيه بعد، فهذه العبارة (قطع الصلة بالماضي) تجري من تلقاء نفسها على ألسنة المؤرخين في القرن التاسع عشر؛ لأن نظرية اتصال التاريخ، وتطور النظم كانت مما شغلهم كثيرا، ولهذا تعليل نفهمه إذا تذكرنا حاجة الشعوب الأوروبية إلى الاستقرار الاجتماعي بعد ثورات وحروب دامت خمسة وعشرين عاما.
وتكفل المؤرخون والفقهاء المشتغلون بدراسة الأصول الاجتماعية في القرن التاسع عشر بتشكيل تلك الحاجة تشكيلا عقليا على النحو الآتي: تساءلوا: كيف تطور المجتمع عموما، والمجتمع في هذه الأمة أو تلك خصوصا، إلى أن صار ما هو عليه الآن؟ وينطوي السؤال على فكرة باطنة سابقة لوضعه، ألا وهي أن الناس لو فهموا كيف تتطور عادات شعب من الشعوب إلى أوضاعها الراهنة؛ لأدركوا الحمق الذي تنطوي عليه أي محاولة من جانبهم لإعادة تشكيلها جملة ودفعة واحدة طبقا لخطة مرسومة، وهذا ما دعا المؤرخين والفقهاء في القرن التاسع عشر، لتقرير نظرية اتصال التاريخ، وعلى هذا كان طبيعيا أن يعتبروا الاعتقاد في إمكان قطع الاتصال التاريخي عملا لا تاريخيا، وأن يعدوا محاولة ذلك عملا وخيم العاقبة، كما لو قطعت شجرة طيبة ما يصلها بالجذور التي تمدها بالغذاء، وهكذا كانت نظرية اتصال التاريخ لازمة لحاجات القرن التاسع عشر، ولكنها لم تكن كذلك بالنسبة لفلاسفة القرن الثامن عشر إلا قليلا، على أنهم لم يكونوا بها جاهلين، فكانت موجودة فعلا، وكانت تحت تصرفهم إن صح التعبير، فمثلا فكرة تفوق المحدثين على الأقدمين بحكم أن المحدثين لديهم كل ما كان للأقدمين من علم وتجارب، هذه الفكرة تتضمن اتصال التاريخ، كما يتضمنها ذلك الحلم البراق، قابلية الإنسان للكمال المطلق، ونجدها كذلك في كتابات فيكو
43
وجرين وترجو وديدرو وهاردر ومنتسكييه وليبنتز، وأكثر من هذا عثر ديدرو على جميع العناصر التي تكونت منها نظرية داروين في التطور، قلت: «عثر»، وكان التعبير الصحيح أن أقول: إنه «تعثر بها» لا عثر عليها، كما لو كانت عقبات في سبيله لا معابر لغاياته، وفي الواقع كانت هي كذلك بالنسبة له، وقد لاحظ الأستاذ فون
44
أن منتسكييه اعترضت بسط قضاياه صعوبات كان يسهل عليه التغلب عليها، لو أخذ بفكرة «تفتح» النظم تفتحا مطردا، ولا يدري الأستاذ فون لم لم يفعل منتسكييه هذا، فجميع عناصر الفكرة بين يديه، بل هي تحدق إليه من أوراقه، وهذا صحيح، فالفكرة حقيقة في مخطوط كتابه، ولكن الشيء الذي له دلالته هو أنه أغفلها إغفالا يكاد يكون تاما، وأن غيره من الفلاسفة فيما عدا «ليبنتز» لم يستعملها كثيرا، وهكذا كانت الفكرة موجودة في القرن الثامن عشر، ولكن أحدا لم يرحب بها، حامت وحيدة يائسة بائسة حول أطراف الشعور، واقتربت متهيبة من مدخله، ولكنها لم تدخل فيه تماما أبدا.
وأصل هذا كله أن فلاسفة القرن الثامن عشر - على خلاف نظرائهم في القرن التاسع عشر - اهتموا بالتغيير لا بالمحافظة، كانوا رجال «حركة» لا رجال سكون، فلم يهمهم أن يسألوا لم تطور المجتمع إلى ما هو عليه بقدر ما أهمهم أن يبتغوا سبل جعله أفضل مما هو، ولا أجد خيرا لإيضاح اتجاههم الفعلي هذا من الجمل المشهورة التي افتتح بها روسو عقد الاجتماع «يولد الإنسان حرا، ولكنه أينما كان مكبل بالأغلال، كيف حدث هذا؟ لا أدري، كيف نجعل المجتمع نظاما مقبولا؟ أعتقد أنني قادر على أن أجيب عن هذا السؤال»، فلا تسألن إذن الفلاسفة ذلك السؤال الذي أولع به القرن التاسع عشر «كيف تطور المجتمع إلى ما هو عليه؟» فإنك لو فعلت لأجابوك كما أجاب روسو: «إنا لا ندري»، ويقولونها كما لو كانوا على وشك أن يضيفوا إليها: «ولا يهمنا الموضوع في قليل أو كثير» أي انصرف يرحمك الله، وبعد فكأني بهم يقولون، وما جدوى البحث عن كيفية تطور المجتمع؟ ها هو ذا أمام أعيننا، لا يستطيع أحد أن يخطئه أو يراه على غير ما هو: قائم على غير المعقول مرهق ظالم مضاد لطبيعة الإنسان، معوج لا بد من تقويمه وتقويمه سريعا، وكل ما يلزمنا أن نعلمه كيف نقومه، ولا نرجع للماضي إلا لنهتدي بما يعين على العمل، نرجع للماضي لا للعلم بأصول المجتمع بل بمستقبله، ولا يهمنا من الماضي إلا هذا فقط، فلا نريد أن نتصل به، ولا أن ننفصل عنه، وإنما نريد أن نفيد منه نريد أن نستخرج من ذلك الماضي تلك الأفكار، وتلك العادات، وتلك النظم الواسعة الانتشار الثابتة بدلالة التجارب الإنسانية التي يمكن أن نعتبرها متفقة مع المبادئ الثابتة العامة للطبيعة الإنسانية، فإذا ما حصلنا على ما التمسناه في التاريخ أعاننا هذا على إنشاء نظام أفضل مما هو قائم.
هذا هو موقف الفلاسفة من التاريخ، وأعتقد أننا لو فهمناه على وجهه لأقبلنا على قراءة مؤلفاتهم التاريخية دون سآمة أو ضجر، فإن مصنفاتهم تخلو من السرد المحض والتحقيق الخالص، والسر في ذلك - كما شرحنا - أن الاهتمام ببيان الاتصال التاريخي وتطور النظم وتفتحها وتفرقها، لم يكن المبدأ الذي بدءوا منه؛ ولذا نجدهم يغفلون رواية الوقائع لذاتها، ولا يشعرون بأن واجب الذمة يقتضي منهم أن يبذلوا في تحقيق التواريخ ما يبذله المحدثون، وأن يشعروا نحوها بما يشعر به بعض رجال التاريخ في زماننا من عناية تدليل وولع، بل كان شغلهم الشاغل أن يعثروا على الإنسان «مطلق الإنسان»، ولا يحق لنا أن ننتظر منهم ألا يلتمسوه إلا في أنجلهايم أو في لستناو أو في اليوم الأول من يوليو سنة 887، إنهم إن التمسوه في أحد المكانين أو في أي مكان آخر، وفي ذلك اليوم من تلك السنة أو في أي يوم آخر ما وجدوه قطعا، فهو - مثل الرجل المثالي للاقتصاديين - لا يوجد إلا في عالم التصورات، وإن شئت أن تعثر عليه، فلا بد لك من أن تبدأ بأن تستخرج من بني الإنسان، أينما كانوا ومتى كانوا الصفات المشتركة بينهم.
ولا شك أنك عندئذ لن تغفل تشارلس السمين، فهو إنسان مثل سقراط، وهو سواء أكان في أنجلهايم أو في لستناو يشارك سقراط في بعض الصفات، والمهم هو تبين تلك الصفات وتسجيلها، وليس المهم أنه شارك فيها غيره من بني الإنسان في أثناء وجوده بأنجلهايم أو بلستناو أو في اليوم الأول من يوليو أو في يوم آخر، فالمكان أو الزمان الذي كان فيه من الأغراض الزمنية، وتستعمل على الأخص على سبيل الإيضاح، وعلى هذا فمنهج الفلاسفة المؤرخين لا يقتضي مراعاة الترتيب الزمني بالمرة، وإن كان منهم من راعاه استسهالا واختيارا، فعل ذلك هيوم وجيبون وفولتير ومابلي، إن تماما أو بعض الشيء، ولكن كان للفيلسوف المؤرخ أن يغفل مراعاته إن شاء، دون أن يعرضه ذلك لأن يفقد لقب المؤرخ، وقد أغفل الترتيب الزمني منتسكييه ورينال، بل إن المنهج الذي اتبعه منتسكييه اعتبر المنهج الخليق بالفيلسوف المؤرخ أو المنهج المثالي لكل فيلسوف مؤرخ، ويتلخص نظريا في ملاحظة جميع ما كان للشعوب في جميع الأزمنة والأمكنة من أفكار وعادات ونظم، ثم المقارنة بينها، ثم حذف ما يبدو منها خاصا بمكان واحد أو بعصر واحد، والحاصل هو المشترك بين بني الإنسان أجمعين، وهذا القدر المشترك هو زبدة التجارب الإنسانية، ونستطيع إن شئنا أن نستخرج منها على حد تعبير هيوم «المبادئ الثابتة العامة للطبيعة الإنسانية»، وعلى أساس هذه المبادئ يبنى المجتمع الجديد، فكان المنهج المثالي للفيلسوف المؤرخ إذن منهجا مقارنا، وهو على وجه التدقيق الطريقة الموضوعية الاستقرائية العلمية.
بيد أن هذا المنهج المثالي الذي وصفنا لم يجاوز أن يكون منهجا مثاليا، فلم يتبعه الفلاسفة، بل إن منتسكييه تكلف جهدا ليظهر أنه متبعه، ومما تنبغي الإشارة إليه لعظيم دلالته أن تلك الأقسام من «روح الشرائع» التي وفق فيها منتسكييه أكبر توفيق في استعمال طريقة المقارنة والاستقراء، فجاءت فصولا موضوعية علمية حقا، كانت بالضبط أقل ما في الكتاب إرضاء للفلاسفة، بل إن «روح الشرائع» عموما تركت قراءته في فم الفلاسفة طعما مريرا؛ لأن منتسكييه يؤكد في أكثر من موضع أن المبادئ الثابتة العامة للطبيعة الإنسانية في جوهرها «نسبية»، وبناء على ذلك فما يوافق الطبيعة الإنسانية في بعض الأقاليم لا يوافقها في أقاليم أخرى، ومن هذا وأمثاله أحس الفلاسفة بأن صاحبهم مولع هو أيضا بتحقيق الوقائع لذاتها، وأنه أولع بها إلى حد جعله يتجنب الحكم على بعضها بما تستحق من صرامة، وقد ساءهم منه حقا أنه مس مسا خفيفا أحداثا لم تكن خليقة بأن يحسن بها الظن أو يلتمس لها العذر، ثم يأتي فولتير فيأخذ على منتسكييه الخفة، وفولتير آخر من يجوز لهم أن يأخذوا على الآخرين الخفة، ويأخذ عليه أيضا أنه أكثر ميلا لإثارة الإعجاب في قرائه منه لإفادتهم، وينكر عليه إنكارا شديدا أنه سمى الملوك والأمراء الإقطاعيين «آباءنا» وأما كوندرسيه فكان ما أخذه على منتسكييه أنه عني بتعليل ما هو كائن أكثر مما عني بالبحث عما يجب أن يكون، وكان الأولى به أن يعكس.
45
وروسو نفسه - مع أنه كان أكثر إعجابا بمنتسكييه من أقرانه الفلاسفة - عابه بالإسراف في إقامة الحق على الواقع، وهو عيب وقع فيه جروتيوس من قبل.
46
وإن هذه المآخذ لتوقعنا في حيرة؛ لقد أعلن الفلاسفة مرارا وتكرارا أنهم يطلبون التاريخ ليقيموا الحقوق المناسبة لطبيعة الإنسانية على واقع التجارب الإنسانية، وها هم أولاء حينما أقام منتسكييه الحقوق على الواقع ينكرون عليه هذا! فكيف نعلل التناقض؟ أيرجع إلى أن الفلاسفة كانوا في حقيقة الأمر يبطنون غير ما يظهرون، وأنهم لم يهمهم أن يقيموا الحقوق الملائمة للطبيعة الإنسانية على واقع التجارب الإنسانية؟ أيرجع إلى أنهم على النقيض مما زعموه لم يحيدوا مطلقا عن السنة المنكرة التي اتبعها رجال العصور الوسطى؛ ألا وهي تحريف التاريخ بحيث يتفق واقع التجارب الإنسانية مع تلك الحقائق المفارقة له، والتي كشفت لهم على نحو ما؟ وبعد أيمكن أن يكون هذا صحيحا أو معقولا؟
3
وهذا وا أسفاه، كان الواقع! فإن الفلاسفة كان لديهم ما كان لدى المدرسين في العصور الوسطى، مادة من العلم نالوها عن طريق الكشف، ورفضوا أن يتعلموا من التاريخ إلا ما استطاعوا بحيلة بارعة من احتيال الأحياء على الموتى أن يجعلوه متفقا مع ذلك العلم الذي كشف لهم، وكان وجه تمسكهم بهذا العلم، وجه الإيمان به - وهم في هذا لا يختلفون عن أي جيل من الأجيال - كونه ينبعث من تجاربهم، وكونه يفي بحاجاتهم، ولما كانت تجاربهم وحاجاتهم في حرب حياة أو موت مع النظرية السائدة التقليدية للدولة والكنيسة، وكانت بعد لا تزال محتفظة بقوتها وقع التعارض بين عقيدة الفلاسفة وتلك النظرية في كل حرف منها، وهذه هي أهم مبادئ الإيمان عند الفلاسفة: «أولا» أن الإنسان ليس آثما خسيسا بالفطرة. «ثانيا» أن غاية الحياة هي الحياة نفسها، غايتها الحياة الطيبة في الدنيا لا حياة الغبطة والرضوان بعد الموت. «ثالثا» أن الإنسان قادر بهدى العقل والتجربة وحدهما أن يبلغ بالحياة الطيبة في الدنيا حد الكمال. «رابعا» أن الشرط الأول الضروري للحياة الطيبة في الدنيا إطلاق العقول من أغلال الجهل والخرافة، والأجساد من قهر السلطات الاجتماعية وجورها. ويجب أن تتفق المبادئ الثابتة العامة للطبيعة الإنسانية التي أشار هيوم بالتماسها من دراسة التاريخ مع هذه المبادئ الأربعة، ومن أجل إيضاح هذه المبادئ الأربعة يجب أن نعرف «بالإنسان مطلق الإنسان»، وليس هناك ما يدعو لتكلف أي مشقة في سبيل البحث عن «المبادئ الثابتة العامة»، فها هي ذي جلية معروفة، ولا عن «الإنسان مطلق الإنسان»، فها هو ذا موجود فعلا، وقد خلقوه من أنفسهم، فلا حاجة بهم لأن يعرفوه أو يعرفوا به، وهم يعرفون أنه طيب بالفطرة، سهل الاستنارة، ميال لاتباع العقل والإدراك السليم، كريم رءوف سمح، قيادته بالإغراء أسهل من قيادته بالقسر؛ وبالجملة هو مواطن صالح، ورجل فضيلة، فهو يدري تماما أن الحقوق التي يطلبها لنفسه ما هي إلا حقوقه وحقوق غيره من بني الإنسان، وأنها حقوق طبيعية غير قابلة للتقادم، وأن تمتعه بها يقتضي منه أن ينزل طوعا على حكم الحكومة العادلة، فيلزم نفسه بما ترسم من التزامات، ويذعن لما تفرض من حدود من أجل الصالح العام.
فكان المؤرخون الفلاسفة إذن يخدعوننا، وكانوا يفعلون غير ما كانوا يقولون، فها قد عرفنا أن ما زعموه من أنهم رجعوا للتاريخ ليجدوا فيه المبادئ الثابتة العامة للطبيعة الإنسانية كان لا أصل له، ولكننا نستطيع أن نغفر لهم خداعهم لنا، إذا ذكرنا أنهم خدعوا أنفسهم أولا، وأنهم نالوا من أنفسهم أكثر مما نالوا منا؛ إذ كانوا في الواقع لا يدرون حقيقة ما يصنعون، كانوا لا يدرون أن الإنسان مطلق الإنسان الذي ابتغوا العثور عليه كان الإنسان كما صوروه وفق ما اشتهوا، وأن المبادئ التي سعوا للكشف عنها هي المبادئ التي بدءوا سعيهم بها، فهم إذن لا يدرون أنهم «يتحايلون» على الماضي وعلى الموتى، وهم قد كشفوا أنفسهم دون أن يقصدوا حين أسرفوا في توكيد ما بين الأخلاق والسياسة من اتحاد، وعند روسو أن من يفصل بينهما يثبت أنه لا يفقه شيئا من السياسة أو من الأخلاق على حد سواء، وعند فونتنيل: «لا فائدة من التاريخ مطلقا إن لم يقرن بالأخلاق، فقد يكون المؤرخ عالما بكل ما عمله بنو الإنسان، ولكنه قد يظل جاهلا بالإنسان.»
47
ويقول منتسكييه في مقدمة كتابه الجليل: إن الحصول على «الوقائع» لم يفده شيئا إلى أن اهتدى إلى المبادئ التي توضحها تلك الوقائع، وقال: «بدأت الكتابة أكثر من مرة، وهممت أكثر من مرة أن أعدل عن تأليف الكتاب، بل إني مرارا ألقيت صحائف كاملة له، فلم أستطع التمييز بين القواعد والاستثناءات، يظهر لي الحق ثم يختفي، ولكن حينما اهتديت إلى المبادئ، انتظم كل شيء، وحصلت على كل ما طلبت.» وعند ديدرو: «يظن البعض أن العلم بالتاريخ يجب أن يسبق العلم بالأخلاق، ولست من هذا الرأي، فإني أرى أن التمييز بين العدل والظلم يجب أن يسبق العلم بمن سنصفهم بالعدل أو بالظلم من الرجال وبأفعال الرجال، وأعتقد أن هذا هو الإجراء العلمي الوحيد المؤدي للغرض.»
48
وهكذا نرى أن ما بين الفلاسفة والتاريخ جلي، هم على بينة من العدل والظلم، وهم على بينة من المبادئ العامة، وهم على بينة من الإنسان مطلق الإنسان، هم على بينة من كل هذا قبل أن يرجعوا للتاريخ لارتياد مجال التجارب الإنسانية.
وخرجوا للارتياد تحت راية نزاهة القصد والأبواق تؤذن باكتمال ما تزودوا به من علم كأنهم على سفر إلى بر مجهول، خرجوا فعلا، ولكنهم لم يجاوزوا القرن الثامن عشر أبدا، ولم يدخلوا أبدا في عصر من عصور الماضي، ولا في بر غير برهم، ومهما كانت رغبتهم في هذا، فإنهم خشوا الابتعاد عن عصرهم وإقليمهم، وكيف يجوز لهم أن يبتعدوا عنه والمعركة بينهم وبين الفلسفة المسيحية، وكل ما يدعمها من ممقوت الخرافة والتعصب والطغيان دائرة الرحى؟
والمعركة معركة حياة أو موت، ولقد سلط الفلاسفة على عدوهم كل ما أوتوه من عقل وحجا، ولكن العدو كان في موقع حصين، فكان لا بد لهم من الاستعانة بأسلحة أخرى تزيد العقل والحجا بأسا على بأس، وهذه قالوا إنهم يلتمسونها في حقائق التاريخ الإنساني، ولكنهم كانوا في حقيقة الأمر يقصدون شيئا آخر، كانوا في الواقع يقومون بحركة التفاف حول عدوهم؛ لكي يوسعوا ميدان المعركة، ولكي يكبسوا عليه من عل، ومعنى هذا كله أنهم عملوا على أن يكسبوا المعركة وضعا آخر، فلا تكون مجرد مماحكة بين قسيسي القرن الثامن عشر وفلاسفته، بل تسمو إلى أن تكون جزءا من حرب شغلت تاريخ العالم، من الصراع المستديم بين الأصلين: الخير والشر، بين دار النور ودار الظلام، أيهما يستأثر بالنفس الإنسانية، لقد أثبت العقل والحجا على الفلسفة المسيحية صبغة الشر التي صبغتها، وعلى التاريخ أن يطلعنا عليها تلافيا لشرها، وأن يفضح أسوأ ما كان من آثارها، وقد اطمأن الفلاسفة المؤرخون كل الاطمئنان إلى أن التاريخ سوف يؤيد العقل والحجا فيما ذهبا إليه، ولكن كان مما لا بد منه أن يعينوا التاريخ على أداء هذا، ومن أجل ذلك غمروا بعض عصوره بالضوء وتركوا البعض في ظلام دامس، وجعلوا للبعض نصيبا من النور، فكان أقل عتمة، كما حكموا بعض عصور التاريخ على البعض الآخر، فحكموا الرشيد منها على الضال، وفرقوا بين عصور طيبة وأخرى خبيثة، ولسنا بحاجة إلى أن ندل على أيها كان الحكم.
هذه طبعا كانت ما عرفوه باسم العصور المظلمة عصور الجهل والخرافة والطغيان، عصور تسودها الفلسفة المسيحية بلا منازع، عصور تضاد العقل والحجا، وأما العصور التي نعمت فيها البشرية بالسعادة حقا، فهي أيضا معروفة تماما، وليس هناك ما يدعو لبذل أي جهد في سبيل تعيينها، وهذه أقاموها بجانب العصور الوسطى؛ لكي يسطع نورها متألقا بإزاء ظلام الأخرى، وأشهر العصور السعيدة عندهم عصرا بريلكيس وأجسطوس الذهبيان، ولا بدع في هذا، فالفلاسفة جميعا - أو تقريبا جميعا - قرءوا في صباهم في دور التعليم كتب الأقدمين من يونان ورومان (وفي الغالب على معلم يسوعي أو بندكتي!)
49
وتعلموا من كتب الأقدمين، مما لفقه رولان من أشتات تواريخ الأقدمين أو من بلوتارك على وجه أخص، منه ومن التعليقات التهذيبية التي عشرها في المتن مترجمو بلوتارك وناشروه، تعلموا من هذه كلها أي الأبطال اليونان والرومان يحتذون، وأي الفضائل الأسبرطية أو الرومانية يبارون.
50
هذان العصران الذهبيان سبقا العصور المظلمة، وثم عصور ذهبية أخرى جاءت بعدها، من هذه حركة «البعث» أو النهضة الأوروبية، ومنها عصر لويس الرابع عشر والقرن الثامن عشر نفسه، ولا يخفى على أحد ما قدم هذا العصر الأخير إلى ما خلفه، والعصر اليوناني والعصر الروماني وعصر النهضة من نور وعلم، ومن حرية وفضيلة، وحصل بهذا الفلاسفة المؤرخون على ما سماه فولتير «العصور الأربعة السعيدة» يقابلون بها العصور المظلمة، فيظهرون الناس على ما جنت الفلسفة المسيحية على العقل الإنساني، حين كبلته في أغلال لا يجد منها فكاكا، وحين نالت منه ما ينال الكائن الطفيلي من النبات يتعلق به حتى يميته، هكذا كانت جناية الفلسفة المسيحية على العقل! ألا ترى إذن كم غنمت البشرية حين كسرت أصفادها، وانطلقت حركة «البعث الأوروبي»؟ على أن الغنم كان أكبر من هذا كثيرا؛ إذ إن حركة الكشف الجغرافي فتحت آفاقا أخرى جديدة، فلم تعد التجارب الإنسانية مقصورة على أقاليم البحر الأبيض المتوسط، ولم يكتف المؤرخون بالتاريخ الأوروبي فقط، وحصل المؤرخون الفلاسفة بهذا على عصور سعيدة أخرى وأمم سعيدة أخرى، وأضافوا هكذا إلى محصولهم ما أصابته إنجلترا ومستعمراتها الأمريكية من حظ أوفر من السعادة، كما أضافوا إليه ما كان للشعوب غير المسيحية في الأقطار البعيدة في آسيا، وفي الهند وجزائر الهند الشرقية.
وقد تبين للفلاسفة المؤرخين من روايات رحالة القرن السادس عشر والسابع عشر أن أكثر الشعوب البشرية عاشت مددا عديدة عيشة أهنأ وأليق بالإنسانية من عيشة الشعوب الأوروبية على عهد سلطان الكنيسة، وكانت شرائع تلك الشعوب غير الأوروبية أدنى للحرية وأكثر اتفاقا مع الدين الطبيعي والأخلاق من نظائرها لدى الأوروبيين في العصور الوسطى، هؤلاء الآسيويون نكبوا بفقدان استقلالهم ووقوعهم تحت نير الدول المسيحية، فشقوا وفسدوا، فإذا ما أخرجنا مدة السيادة الأوروبية من حساب السنين كان لنا أن نقول: إن غير الأوروبيين هؤلاء حظوا بالسعادة الجزء الأكبر من مدة التاريخ الإنساني المسجل؛ وهكذا تجمع لدى الفلاسفة المؤرخين بينات تؤيد حجج العقل والحجا وتثبت على العصور المسيحية البطلان والخزي، فها هي ذي العصور السعيدة الأربعة، حظ إنجلترا، حظ «أصدقائنا الأمريكيين الأفاضل»، حظ «الصينيين الحكماء» «والهنود النبلاء»، «والمتوحشين الطيبين».
فمهمة التاريخ الجديد هي أن يؤدي إلى التمييز، الذي عجز العقل المحض عن أدائه، بين ما هو صالح بالطبع، وبين ما هو فاسد بالطبع، بين العادات التي تلائم طبيعة الإنسان وتلك التي لا تلائمها.
51
وكانت مهمته أيضا أن يؤيد ما قضى به العقل، وهو أن الفلسفة المسيحية والخبائث التي دعمتها كانت عدوة لخير الإنسانية، ويبقى علي في ختام هذا الفصل أن أنتقل لشيء من التخصيص فأشير في إيجاز إلى الطرائق التي اتبعها فريق من المؤرخين في «توجيه التاريخ واستغلاله؛ لكي يؤدي المهمة الأساسية التي طلبوها منه.»
ولنبدأ بكتابين لقيا إقبالا كبيرا من الناس: تاريخ فرنسا تأليف مابلي وتاريخ إنجلترا تأليف هيوم، فأما تاريخ فرنسا تأليف مابلي، فأول ما نقول عنه: إنه لم يكن تاريخا لفرنسا، بل «ملاحظات على تاريخ فرنسا»، وكان ما لاحظه هو أن الشعب الفرنسي كان يملك منذ زمن بعيد - منذ أيام شارلمان في الواقع - جميع العناصر التي يتكون منها دستور سياسي ملائم لروح الشعب، ولكن حدث في الأزمنة التالية - في أزمنة الفوضى الإقطاعية وطغيان القسيسين والوزراء - أن طغت على ذلك الدستور أحكام لا تلائم الشعب بالمرة، وقد أخذ مابلي على عاتقه أن يستخرج ذلك الدستور الأصلي مما طغى عليه من عرف وأحكام، ثم بعد أن يستخرجه يدل مواطنيه على أنه قابل للتهذيب والصقل والتطبيق ببذل قليل من العناية، وما هذا بعزيز عليهم بعد أن استناروا، فصاروا يدرون ما يفعلون، وأما كتاب هيوم فلا يحمل في ظاهره ما يحمل كتاب مابلي من معاني الإرشاد والتعليم، بل إن أول أثر تتركه قراءته لأول مرة، أنه رواية للأحداث غير مختلفة ألوانها، حتى إن القارئ ليعجب كيف لقي قبولا من جيل من القراء كان يطلب إلى المؤرخين أن يعنوا بوصف «العرف والعادات»، بدلا من رواية الوقائع، ولكن القارئ إذا ما رجع لقراءة الكتاب فإنه يستطيع أن يتبين أسباب شهرته؛ ذلك أن هيوم توصل بلباقة خفية إلى أن دخل في نسيج الرواية كل ما شاء من استهجان للأشياء التي أنكرها القرن الثامن عشر: الطغيان، الخرافة، التعصب. وإذا كان الكتاب في جملته رواية، فهو رواية جيدة السبك، وهو فوق أي اعتبار آخر، رواية فيلسوف، فيلسوف يروي، لا يقصد إثبات تتالي الوقائع أو تعليلها بشرح أصولها وتوابعها، ولكن ليحكم عليها طبقا للتمييز بين العدل والظلم، وليقيسها بمقاييس الحكم التي اعتد بها عصر العقل، فكانت حاضرة بين يديه، وأن قارئ هيوم يكون حقا رجلا بليد الفهم إذا انتهى من القراءة دون أن يتبين فكرة هيوم ونظراته، وهذه الفكرة أنه لولا طغيان الملوك ورجال الحكم، ولولا دسائس القسيسين وغلبة الدنيا عليهم، ولولا جموح المتعصبين وإسراف عواطفهم، ولولا أوهام السفلة الجاهلة من عامة الشعوب؛ لولا هذه الشرور، وهي كما ترى - لا يمكن أن يخفى أمرها، ولا يمكن أن يستعصي علاجها - لكان تاريخ أي شعب مماثلا لتاريخ إنجلترا، هذه فكرة هيوم، وهي بالضبط ما أراده القرن الثامن عشر من المؤرخين.
ننتقل من كتابي مابلي وهيوم لثلاثة كتب أخرى، عالمية النطاق، أو على الأقل دوليته؛ هذه هي مصنفات رينال وفولتير ومنتسكييه، فأما مصنف رينال - التاريخ الفلسفي والسياسي للهند والهند الشرقية،
52
فعلى الرغم من أن أغلبه من نسج الخيال، فإنه لا يمكننا إغفاله لشدة ما لقي من إقبال؛ نقح ثلاث مرات وطبع أربعا وخمسين مرة قبل نهاية القرن الثامن عشر،
53
وحق لهوراس والبول أن يسميه «إنجيل العالمين»، والقول فيه إغراق، ولكن نغفره لهوراس والبول،
54
فقد كان يضطر إلى الإغراق ليرسل الجملة الوجيزة المحكمة أو النكتة، ومهما يكن فقد رحب الجمهور بالكتاب؛ إذ وجد فيه خلاصة ما كتبه الرحالة عن «الصينيين الحكماء» «والمتوحشين الطيبين» في القالب الخليق بالفلاسفة، وكأن رينال استصحب قارئيه في رحلة كبرى حول العالم، وتركهم أحرارا في الانضمام إليها أو مغادرتها أينما شاءوا، واخترق بهم بلاد الشعوب غير المسيحية، ولفت نظرهم - كما يلفت مرشد كوك الكفء نظر الصحب - إلى ما هو جدير بالإعجاب من عادات الناس في تلك الأقاليم، وإلى ما جلبه عليهم المتغلبون المسيحيون من مفاسد وبؤس، وهذا كله خليق بالفيلسوف أن يثبته ويأسف له، كان قصد رينال إذن، أن يثبت على الحضارة المسيحية الأوروبية أنها وليدة الصناعة لا الطبيعة؛ وذلك بمقارنتها بالفضائل الطبيعية التي كانت لدى الأقوام السذج، فشارك في قصده هذا أو في شيء منه كتابا آخرين، منتسكييه مثلا في «الرسائل الفارسية»، وبين الرجلين فرق، فلا يبلغ رينال مبلغ منتسكييه من دقة النظر وإحكام الصناعة، ولكن كتاب رينال في نوعه كان أوفى بحاجات القراء المتوسطين؛ ولذا كان بلا شك أكبر هذا النوع من الكتب تأثيرا.
هذا؛ وليس ما يدعو للإسهاب في وصف مصنف فولتير الجليل «مقال في السنن والآداب والعادات»
55
وهو كتاب في التاريخ العام، يتناوله منذ أقدم ما عرف من الأزمنة، ويقصد إلى إيضاح «مغزى» للتاريخ من نوع ما فعل ويلز في زماننا في كتاب «المجمل في التاريخ»،
56
وقد وضع فولتير المغزى الذي قصد في صيغة أحكام: أن تاريخ الأحداث الكبرى في العالم لا يعدو أن يكون تاريخ جرائم، وأن العصور المظلمة فيما خبر الإنسان هي بالضبط العصور التي كانت فيها الكنيسة المسيحية أتم سيطرة على بني الإنسان، وأنه لا توجد في الغالب عصور انتشر فيها النور والمعرفة، وارتقت فيها الفنون والعلم، سوى «العصور الأربعة» السعيدة، حين خفت حدة شر الكهنوت إلى حد ما، فانطلقت العقول من عقالها بعض الانطلاق، واهتدى الناس بهدى العقل؛ هذا - بلا شك - بعض قليل مما في المقال، ولكن هذا البعض هو أهم ما كان القرن الثامن عشر مستعدا لتلقيه وحفظه، ويصف ديدرو أول أثر للكتاب في قوله: «إنه يثير في قلوب القراء مقتا شديدا للكذب والجهل والنفاق والخرافة والطغيان.»
وأما روح الشرائع لمنتسكييه، فنقده أدعى إلى تفصيل أوفى؛ إذ إن الكتاب أصابه من تعليقات شراحه من رجال القرن التاسع عشر ما مسخه وأخرجه عن معناه، وذلك يرجع إلى أنهم اختاروا منتسكييه ليدحضوا به «الفلاسفة» كما اختار الفلاسفة فنلون ليدحضوا به بوسويه، ودفع ذلك رجال القرن التاسع عشر إلى «تصوير» منتسكييه وفق ما اشتهوا، ووصفوه في طليعة أولئك المؤرخين الموضوعيين العميين الذين يهتمون أولا بالوقائع ، ويذهبون عن طريق استعمال المنهج الاستقرائي المقارن إلى «نسبية» النظم، وإلى أن العادات يشكلها المناخ والجغرافيا تشكيلا جبريا؛ وبعد فهل نستطيع أن نجد في منتسكييه ما يؤيد تصوير القرن التاسع عشر له؟ لقد سبق لنا أن أشرنا إلى أن الفلاسفة أنفسهم أخذوا على منتسكييه إسرافه في تعليل ما هو كائن فعلا، وأنه يغلب عليه الميل لإقامة الحق على الواقع، وقد سلمنا بما في هذا النقد من صحة، ونضيف إلى هذا أن الناقد يستطيع إذا تعمد أن يجد في هذا الفصل أو ذاك من روح الشرائع نصوصا يبرهن بها على ما يريد، ويرى الأستاذ فون أن «الكتب الخمسة الأخيرة» تثبت أن منتسكييه كان مثال المؤرخ الذي لا يعنى إلا بتحقيق الوقائع وتعليلها،
57
ويحتمل أن يكون هذا صحيحا بالنسبة لهذه الكتب الخمسة، ولكن أين كتب خمسة من واحد وثلاثين كتابا تكون منها المصنف جميعه؟ ولنذكر أيضا طريقة منتسكييه في التصنيف، فالفصل عنده أحيانا لا يجاوز جملة واحدة، وقد رجع الأستاذ فون نفسه فخفض عدد الكتب التي استشهد بها من خمسة إلى أربعة، فلنسلم بهذا كله، ونقول: إن منتسكييه في كتب أربعة من روح الشرائع، وفي قطع أخرى تماثلها مثال «المؤرخ الخالص» الذي لا يعنى إلا «بتحقيق الوقائع».
وبعد أن سلمنا بهذا علينا أن نأخذ في قراءة الكتاب مغفلين الفواصل التي تفصل هذا العدد الكبير من الكتب والفصول وأرقام الفواصل، ولنذكر دائما في أثناء القراءة أن الكتاب من وضع منتسكييه لا من وضع مؤرخ من رجال القرن التاسع عشر، أو دارس متخصص في علم السياسة المقارن، وأن منتسكييه كان من نبلاء القرن الثامن عشر، وأنه كان مباشرا لشئون عامة؛ «كان من أصحاب القلانس على شكل الهاون - أي من رؤساء القضاء»، وأنه كان رجلا أريبا في تصريف الشئون، وأنه كان واسع الاطلاع، وأنه فكر طويلا في مسائل الإنسان والعالم، وأنه كان يدون أفكاره وتأملاته ويأتي بما يوضحها ويدعمها من شواهد وأمثلة مناسبة، يستحضرها من مطالعاته وتجاربه، فلو قرأنا روح الشرائع على هذا النحو ، لأمكننا أن ندرك أننا لسنا بصدد رسالة متصلة منظمة في علم السياسة، «ولا جديد في ملاحظاتنا هذه، فقد قالها كل من اطلع على الكتاب»، وإنما نحن بصدد أفكار وتأملات منفصلة أو بعبارة أدق، بصدد مجموعة مقالات، وقد نخرج من قراءتنا أيضا بفكرة عن المؤلف نفسه، وهي أنه من بعض نواحيه مونتاني القرن الثامن عشر أو هو مونتاني مطعم بقليل من بيل.
58
وإذا ما أضفنا إلى مونتاني وبيل هذين «عرقا» من سخط القرن الثامن عشر على أحواله، ومن عزم القرن الثامن عشر على تقويمها حصلنا على مؤلف روح الشرائع. هذا؛ ولو عرفنا طريقة منتسكييه في جمع مادته لعجبنا من قول كوندرسيه عنه: إنه شغله ما هو كائن عما ينبغي أن يكون، فهذا القول يفيد فيما يفيد أن منتسكييه كان شديد الحرص على استيفاء مادته وتمحيصها، والواقع غير هذا؛ إذ كان الرجل يتقبل كل ما يقع بين يديه، ويستعمل كل ما يحضره من كتب الأقدمين والرحالة والروايات الشفوية، والمادة في أكثر الأحوال سطحية جدا، لم يعالجها بأي تمحيص إلا فيما ندر؛ ولذا فإن الأولى بمن يطلب مادة خليقة بالثقة أن يرجع إلى فولتير مثلا، هذا إن لم يرجع إلى جيبون، وحقيقة الأمر أن الوقائع في ذاتها لا تحظى كثيرا بعناية منتسكييه، وقيمتها في نظره تنحصر في مقدار الإيضاح الذي تملكه، فليست إذن شيئا أساسيا، وهي ليست صحيحة أو باطلة بصفة مطلقة، ولكنها إحداهما تبعا لما تتضمنه، وعلى هذا، فليس من المهم دقة المؤرخ في تدوينها، إنما المهم كيفية استعماله لها، وهذا على اعتبار أنها ممكنة الوقوع في أحوال معينة وبشروط معينة، وأنها من الوسائل التي يتخذها المؤرخ ليجعل وصفه للسياسة العامة لحكومة من الحكومات حيا واقعيا.
وليوضح بها المبادئ العامة التي ينبغي لكل حاكم أن يتبعها في أحوال معينة، وهذه الكلمة الصغيرة «ينبغي» من الكلمات الأساسية في روح الشرائع، فأينما تفتح الكتاب تجدها، مثلا «ينبغي للدين والقانون المدني أن يتجها لجعل الناس مواطنين صالحين.»
59 «قوانين الحصانة مصدرها قوانين الطبيعة، وينبغي أن تكون مطاعة عند جميع الشعوب.»
60 «القوانين السياسية والمدنية لكل شعب ينبغي ألا تعدو أن تكون تطبيقا خاصا لقانون العقل الإنساني.»
61
مبدأ النظام الجمهوري الفضيلة، ولكن «هذا لا يستتبع حتما أن يكون المواطنون في أي جمهورية فضلاء، إنما ينبغي أن يكونوا كذلك.»
62
والشواهد المماثلة لا تحصى؛ وهكذا تتكرر كلمة «ينبغي» بحيث لا يمكن لأحد أن يغفلها، وهذا يجعل حكم دالمبير على منتسكييه أصدق من حكم كوندرسيه حين قال: «إن اهتمامه بالقوانين التي وضعت فعلا أقل من اهتمامه بالقوانين التي كان ينبغي لها أن توضع.»
63
ويجب على كل من ينقد كتابا أن يقرأ عنوانه بعناية، فما هو عنوان كتاب منتسكييه؟ لم يطلق عليه منتسكييه اسم «الشرائع»، بل سماه «روح الشرائع»، وهذا في ذاته دليل على أن قصده لم يكن الشرائع كما هي، بل البحث عن الحق المثالي الذي ينبغي أن تقوم عليه الشرائع، مع مراعاة ظروفها المختلفة من طبيعية وبشرية، وعلى ذلك فإن أولئك الذين يسعون بالطريقة الاستقرائية لإقامة علم للسياسة على أساس «حقائق» التجارب الإنسانية، لا يجدون إلا القليل مما يلزمهم في روح الشرائع، ولكن رجال حركات الإصلاح في القرن الثامن عشر وجدوا فيه الكثير مما يلزمهم، فالكتاب مشحون بعتاد الدك والهدم، ولم يكن بين يدي أي «مصلح» يعمل في تقويض دعائم الكنيسة والدولة ما هو أنفع لغرضه منه، أو خيرا منه إثباتا لأصول نظرية الحكم الدستوري في فرنسا، أو تثبيتا لها على مبادئ مشتركة بين الشعوب عموما، وهل كان يمكن أن يجد أي مصلح كتابا آخر يحتوي على ما احتواه روح الشرائع من تنوع المادة وتعدد المشابهات والمماثلات والمفارقات، ومن دحض حجج الخصوم بالأسلوب غير المباشر، ومن توجيه الطعنات الماكرة في قالب المدح، ومن تظاهر بالانحناء الساخر؟ وقد ألف منتسكييه بين هذه الأشياء كلها تأليفا دقيقا محكم الصنعة يرمي إلى إظهار سخافة الدين «الوحيد الحق» «المنزل» عقائده وسننه، وقد دلنا منتسكييه نفسه على الرأي الحق في كتابه حين روى لنا رأي أحكم رجال العصر، وأكثرهم استنارة في الكتاب فقال: «إنهم عدوا روح الشرائع كتابا نافعا، واعتقدوا أنه سليم خلقيا، وأن مبادئه عادلة، وأنه يفي بما سعى إليه من تكوين المواطنين الصالحين، ومن دحض المعتقدات الخبيثة ومؤازرة المعتقدات الطيبة.»
64
وجيبون العظيم! جيبون الذي يقرن اسمه كثيرا باسمي توكيديدس وتاسيتوس،
65
المؤرخ المثالي، المؤرخ الذي لا تشوب طريقته في التحقيق شائبة ما، المتجرد عن الغرض أو - بتعبير أدق - المتصنع التجرد عن الغرض، المتحري الدقة على الأقل في إثبات الوقائع، فماذا يمكن أن يقال فيه؟ نقول وبكل بساطة: إنه كان الرجل الذي هجم على العدو في عقر داره، وإنه هو الذي هاجم العصور المسيحية وجها لوجه، خطر له وهو بين أطلال الكابيتول أن يروي قصة تدهور الإمبراطورية الرومانية وسقوطها، ليصور بذلك مشهدا تاريخيا لعله أعظم وأروع ما في التاريخ البشري كله، وعمل في الموضوع الذي اختار عشرين سنة متواصلة إلى أن أتم كتابه، ويا له من كتاب! فكم من براعة بذل، وكم من تفصيل دقيق وافر جمع، لكي يروي قصة سقوط الحضارة من أعلى ما بلغت في القرن الثاني، أسعد وأهنأ ما رأت البشرية في تاريخها إطلاقا، وكم كان سمحا لاهيا، وفي الوقت نفسه أسيفا، ولكن غير باخع نفسه، بل مترفعا حين يكتب عمن يكره وعما يأسف له! وكم كان مرحبا بالفرص القليلة التي سمح له بها سياق الحديث ليعود «لاستنشاق هواء الجمهورية الرومانية النقي الباعث للقوة!» وكم كان رجلا متحضرا مهذبا ساخرا سخرية الرجل الراقي الرزين، عالما مستنيرا حقا كثير الاطلاع، وفي الوقت نفسه محرفا سيئ الفهم، حين وصف انتشار الدين المسيحي وانتصاره، وحين عرض إلى ما دار من المناظرات والمحاورات بين الفرق حول التثليث والتجسد، وحين حكى قصص الأفعال الصبيانية المأثورة عن رهبان العمد،
66
وعن القديسين المترهبنين، وما إلى هذا من «أفعال» عديدة جلبت الخزي على الكنيسة والضرر على الدولة، وأخلق بها أن تثير «ازدراء الفيلسوف ورثاءه لها».
هذا؛ وقد يخيل لقارئ التدهور والسقوط أنه قد سير به في سفر بعيد، ولكنه - في حقيقة الأمر - يظل حيث هو مع جيبون بين أطلال الكابيتول يطل منه على عالم طيفي زاخر بأشباه الرجال ولا رجال، يتحركون متخبطين، ويأتون غرائب الأفعال، وهكذا صور جيبون أحداث ألف سنة من التاريخ، فلا القارئ قد دخل في العصور الوسطى بالمرة، ولا هو عاش عقلا وشعورا فترة من التاريخ، وأدرك حقيقة تجاربها في نفسه، بل ظل في مقعده بين أطلال الكابيتول يصغي متململا ضجرا خدر الجسم، متقلص العضل لهذا الراوي الذي لا يكل، يقص في حزن وترجيع أنباء الكارثة التي حاقت بالبشرية، وما نكبت به قوى الشر عقل الإنسان. «والتدهور والسقوط» تاريخ، بل هو شيء أكثر من تاريخ، هو خطبة رثاء، جيبون يرثي الحضارة القديمة ويذكر بموتها، كتب لكي يعلم الأجيال المقبلة كيف انتصرت «البربرية والديانة».
انتصار البربرية والديانة، تكشف هذه الجملة تماما عن موقف الفلاسفة المؤرخين من الماضي، من ماض ذهبت فيه البشرية ضحية غواية البربرية والديانة لها، فأخرجتاها من فردوس الطبيعة، ثم أقبلت العصور الوسطى المسيحية، وكانت عصور شقاء بعد نعيم الجنة، عصورا عقيمة هامت البشرية أثناءها على وجهها، يرهقها القهر، وقد أفسدتها الغواية وأضلتها وجعلتها خسيسة القدر، ولكن ها هو ذا الفرج قد جاء، وأخذت البشرية تخرج من ظلمات الماضي وضلالاته لتدخل في نور القرن الثامن عشر ونظامه، فكان القرن الثامن عشر بذلك فاصلا بين عصرين، ينظر منه الفلاسفة إلى الماضي ويتنبئون بالمستقبل، فكانوا إذا ما ذكروا الماضي وشقاءه وضلاله تحدثوا عنه حديث الرجال عن إسراف الشباب وأزماته، حديثا قد لا يخلو من مرارة الذكرى، ولكن تصحبه ابتسامة سمحة وتنهد الرضا وشعور الاطمئنان، وأما حاضرهم فهو خير قطعا مما سبقه. والمستقبل؟ أما والحاضر خير من الغابر، ألا ينبغي أن يكون المستقبل خيرا من الحاضر؟ فليولوا وجوههم إذن نحو المستقبل، نحو أرض الميعاد، نحو عصر البعث الجديد.
فوائد الخلف أو أطوار العلاقة بين الحاضر والماضي والمستقبل
الخلف في نظر الفيلسوف بمثابة الدار الآخرة في نظر رجل الدين.
ديدرو
وأيا كان بدء الخليقة، فإن النهاية ستكون مجيدة فردوسية، يقصر الخيال عن تصورها.
بريستلي
1
الماضي والمستقبل حيزان من الزمان نفصل بينهما عادة بثالث هو الحاضر، ولكن الحاضر على وجه التدقيق لا وجود له، أو على أحسن الفروض لا يجاوز إلا برهة ضئيلة جدا من الزمان، برهة تزول قبل أن نسجل أنها حاضرة، ومهما يكن فيجب أن يكون لدينا زمان حاضر، ويمكننا أن نحصل عليه بأن نسلب الماضي شيئا منه، ونعتبر ما سلبناه حاضرا - أو بعبارة أخرى - بأن ندعي للحاضر الأحداث الحديثة الوقوع، وندرجها في سلك محسوساتنا الحاضرة، وعلى سبيل المثال أرفع ذراعي، «الرفع» سلسلة من حركات، الأولى منها وقعت في زمن مضى، في زمن سبق الأخيرة، ولكنني أعتبر «الرفع» عملية كاملة واحدة حدثت في برهة واحدة، وإدخال الأحداث المتتالية في لحظة حاضرة واحدة على هذا النحو يطلق عليه الفلاسفة اسم «الحاضر الكاذب»، وإني لا أدري أي حدود حددوها له، ولكني سأترخص وأقول: إن لنا أن نمد في الحاضر الكاذب كيف نشاء، وهذا في الواقع هو الاستعمال الجاري، فإننا نتحدث مثلا عن الساعة الحاضرة والسنة الحاضرة والجيل الحاضر؛ وهكذا، وإني لا أدري أللكائنات الحية جميعا حاضر كاذب أم لا، ولكن مما لا شك فيه أن أهم ما يفرق الإنسان عن سائر الحيوانات هو أن حاضره الكاذب قابل للامتداد والتنويع والوفرة كما يشاء، بيد أن قدرة الإنسان على حاضره هذا وتنميته تتوقف على مقدار علمه عن الماضي، وعن البلاد البعيدة، أو بعبارة أخرى مقدار ما تستطيع حافظته أن تستوعب عن الماضي، وعما هو بعيد عنه، وهكذا يستطيع المتعلم أن يستحضر حينما يشاء صورة تمثل ماضي البشرية البعيد على وجه ما من التقريب والدقة، وبذا يجعل من هذا الماضي كله حاضرا بالنسبة له.
ولا يفعل الناس هذا في المعتاد، فالشخص السليم العقل لا يحاول عادة أن يأتي بماضي البشرية كله حاضرا بين يديه، ولكن الناس لا يستغنون تماما عن الإتيان به أو ببعضه حينا ما، فمتى أراد أحدهم مثلا أن يحقق غاية من الغايات، فإنه يستعيد ذكرى طائفة من أحداث ماضية معينة، سواء أكانت حدثت حقيقة أم توهما؛ أي يستحضر ذلك القدر من الماضي الذي يعده لازما لتوجيهه لقضاء ما هو بسبيل قضائه، والتوجيه يحمل معنى الاستعداد لمواجهة ما هو مقبل، ويقتضي الاستعداد بناء على هذا شيئين: يقتضي استحضار أحداث مضت، كما يقتضي توقع حدوث أخرى مستقبلا، ولاحظ أنني قلت «توقع كذا» ولم أقل «التنبؤ بكذا»، وحاصل الكلام أن الحاضر الكاذب يحمل دائما قدرا صغيرا أو كبيرا من الماضي كما يحمل حتما في الوقت نفسه قدرا من المستقبل، بل كلما زاد مقدار الماضي فيه، تشكل فيه مستقبل متوقع حدوثه، فبين الاثنين إذن علاقة بحيث إنه إن كانت ذكرياتنا عن الماضي قصيرة المدى هزيلة ضئيلة، فإن نوع المستقبل الذي نتوقع يكون أيضا قريبا هزيلا، وعلى العكس إن كانت الذكريات زاكية وافرة متنوعة، فإن المتوقعات يغلب أن تكون كذلك تقريبا، وأهم ما في العلاقة بين هذين الشيئين الماضي والمستقبل ليس مقدار الامتداد والنماء فحسب، بل توقف صفة نسق الواحد منهما على صفة نسق الآخر، وإذا ما تساءلنا أيهما يسبق الآخر، أيهما العلة وأيهما النتيجة، أو هل نحن نكون نسقا معينا استجابة لرغائبنا ورجائنا، أم يتكون النسق بموجب من الخبرة والعلم، ومنه تصدر الرغائب والرجاء؟ ولن أحاول أن أجيب عن هذا، وأكبر ظني أن ذكرى الماضي وتوقع المستقبل يعملان معا متآزرين، لا يختلفان في أيهما يتقدم الآخر أو يتزعمه، ومهما يكن فالثابت أنهما يعملان معا، وأن أي حاضر كاذب يعيه الفرد في وقت معين هو نسق يتكون في لحظة واحدة من ماض يستذكر ومحسوس يدرك ومستقبل يتوقع، فهو قطعة واحدة نسيجها من خيوط الماضي والحاضر والمستقبل.
وإذا كان هذا صحيحا بالنسبة لعقل الفرد في معتاد أحواله، أليس هو صحيحا أيضا بالنسبة إلى العقل معمما لجيل من الأجيال في عصر من عصور الزمان أو في جو فكري معين؛ أي بالنسبة إلى عقل عام نصنعه صناعة، أو نتوهم له وجودا للزومه لأغراض الجدل الأكاديمي؟ ومهما يكن فلنفرض أن ما هو صحيح بالنسبة لعقل الفرد هو أيضا صحيح بالنسبة لعقل الجيل، وقد نجد في هذا الافتراض نفعا، وعلى هذا فإننا ننسب للقرن الثامن عشر «عقلا» وننسب لهذا العقل شعورا بحاضر كاذب يتكون من ماض مستذكر ومحسوسات بأحداث حاضرة ومتوقعات مستقبلة، وأما فيما يتعلق بالماضي المستذكر، فقد حاولت في المحاضرة السابقة أن أبين أن عقل القرن الثامن عشر، كما تدل عليه كتابات الفلاسفة تصور الماضي زمان جهل وشقاء أخذت البشرية تخرج منه إلى حاضر أفضل فيما هو ثابت عيانا، هذا بالنسبة للماضي والحاضر، وأما بالنسبة للمستقبل المتوقع، فسأحاول في محاضرتي هذه أن أبين أن الصورة التي كانت لدى القرن الثامن عشر عن ماضيه وحاضره حدت به إلى أن ينظر للمستقبل نظرة المتطلع إلى «أرض الميعاد»، إلى «أوتوبوس» أو «لا أين»؛ أي الدار التي يبنيها الخيال. هذا ما سأحاول أن أبينه، وقبل أن أفعل ذلك أحب أن أعيد ما سبق لي أن قلته - ولعلي قد قلت هذا أكثر من مرة - إن فلاسفتنا هؤلاء لم يكونوا فلاسفة بالصناعة؛ أي لم يكونوا رجالا مقيمين في بروج عاجية ظليلة، لا يشغلهم شاغل عن التأمل، بل كانوا مجاهدين كأولئك الذين نفروا تحت راية الصليب لاسترجاع الآثار المقدسة، فخرجوا هم كذلك تحت راية دين الإنسانية؛ لينتزعوا من الفلسفة المسيحية ومن المنكرات التي آزرتها سيطرتها على العقول، وكانت الفكرة التي استحثتهم - أن البشرية أفسدتها وغدرت بها العقائد الباطلة، فهبوا لسحق تلك العقائد الباطلة، ولكي يسحقوها تعين عليهم أن يقابلوها بعقائد تضادها، ولكن على أن تكون مشتقة من نفس أصل العقائد الباطلة، وكان هذا شرطا أساسيا، فإن القتال بين عدوين لا يقع إلا إن كان المتقاتلان في مستوى واحد، والقتال بين المعاني كالقتال بين الرجال، فالمعاني إن لم تكن في مستوى واحد استحال عليها أن تتقابل في قتال، فلا بد من أن تتلاقى وتتصادم وتتماس لكي تتقاتل، وإلا لا ينفع انقضاض وكر وفر، ويستمر كل منها يسبح في فلكه؛ وعلى هذا إن أراد الفلاسفة أن يدحضوا الفلسفة المسيحية، فقد وجب عليهم أن يقابلوها في مستوى أفكار معينة مشتركة بينهما، فإذا ما أنكر الفلاسفة مثلا أن الحياة البشرية تدبير محكم ذو معنى وغاية، استحال عليهم أن يتلاقوا وخصمهم، وفوق هذا كيف السبيل إلى إنكار هذه الفكرة، وهي تكاد تكون غريزية تعيها الصدور جميعا، بما في ذلك صدور الفلاسفة أنفسهم، فيتعين على الفلاسفة أن يعدلوا إلى خطة أخرى لمهاجمة خصومهم، كأن يقولوا: إن الصورة التي صورتها المسيحية للتدبير العالمي خاطئة ضالة. وأن يجيئوا لهم بأخرى أفضل منها؛ أي يجيئوا بتأويل آخر لماضي البشرية وحاضرها ومستقبلها.
ولم يدر الفلاسفة أن الموقف الذي اتخذوه من اللاهوتيين النصارى، هو موقف اللاهوتيين النصارى من الوثنية؛ وذلك أن آباء الكنيسة نالوا ما نالوا من انتصار على الوثنية بفضل انتحالهم النظرية اليونانية المشهورة، نظرية الكون والفساد المتكررين في أكوار إلى ما لا نهاية،
1
ثم تعديلها لتفي بحاجات العالم اليوناني الروماني وتجاربه عندما أخذوا على عاتقهم أن يقوموا اعوجاج هذا العالم، وكان يماثل في حاجته للتقويم القرن الثامن عشر، اقتبس الآباء فكرة اليونان والرومان عن وجود عصر ذهبي في الزمان الغابر من إنشاء أبطال أو شارعين أفذاذ ملهمين من قبيل ليكرجوس وصولون،
2
ثم أولوها وصاغوها طبقا لعقائد الكتاب المقدس وعباراته، فجعلوا العصر الذهبي للإنسانية عند بدء الخليقة، عند بدء الإنسان والعالم، وأضفوا عليه بذلك بهاء أي بهاء، وعينوا له مكانا في جنة عدن، فصار بذلك أبين حقيقة وأثبت وجودا، ونسبوه إلى الله الواحد الحق العالم المريد للخير، بدلا من البطل أو الإنسان الشارع الملهم، فأكسبوه بذلك سلطانا وكمالا، ثم انتهى ذلك العصر الذهبي المسيحي بالهبوط من الجنة وشقاء البشرية، وهذا يقابل ما ذهب إليه الكتاب الأقدمون حينما اعتبروا حاضر البشرية فسادا طبيعيا منشؤه القضاء والقدر، والضعف البشري لا مخرج منه إلا بصدفة سعيدة أخرى، فيظهر الشارع الملهم أو الملك الفيلسوف الذي ينهض بالبشرية من كبوتها، ثم يكون الفساد بعد هذا؛ وهكذا دواليك، فالزمان عندهم عدو الإنسان، والتاريخ عندهم يتكرر فسادا وكونا أكوارا إلى ما لا نهاية، ويقول ماركوس أورليوس: «النفس العاقلة تجوب آفاق الكون كله والفراغ الذي يحيط به، وتعي شكل بنيته وتوغل في أعماق الزمان اللامتناهي ، وتفهم حقيقة كون الأشياء المتكرر وتحله محل الاعتبار، وتستبين حينئذ أن أبناءها لن يروا شيئا جديدا، كما أن آباءنا لم يروا غير ما نرى نحن؛ وعلى هذا وبموجب هذه المماثلة لنا أن نتصور أن الرجل في سن الأربعين إن كانت لديه حبة من فطنة، يكون قد رأى كل ما كان وكل ما سيكون.»
3
والحياة البشرية في صورتها اليونانية الرومانية تبدو كأنها ملحمة حقيقية أساسها أن الحياة البشرية يتحكم فيها قضاء جبار لا تفلت منه أبدا، ولكن الملحمة كانت بلا خاتمة سعيدة أو بلا خاتمة بالمرة، وهذا سر ضعفها، فإذا جاز للنفس العاقلة أن تتسلى عند الأربعين وبعد اختراقها الزمان اللا متناهي بالعلم بأن لا جديد تحت الشمس، وأن لن يكون جديد تحتها أبدا، فإن بني الإنسان عموما لا يقنعهم هذا الأجر الهزيل، وكيف يرضون به أجرا؟ ألا يحق لهم وحياتهم على ما هي عليه من قصر وخشونة وضنك وخوف أن يتطلعوا إلى ما يعوضهم عن الشقاء الذي منوا به في الحياة الدنيا؟ ألا يحق لهم أن ينعموا، ولو بالرجاء والأمل فيما هو خير فيما بعد؟ أجل كان لا بد من أن يكون للمسيحية خاتمة سعيدة، وهذه وجدوها في الصورة المسيحية للحياة الإنسانية، ولا بدع في ذلك، فرسالة المسيحية كانت للمعذبين والمحرومين ومن إليهم من عامة الخلق، والمسيحية لم تزعم أن حياة الإنسان في الحاضر أقل شقاء مما هي، أو أقل خيرا مما هي، ولكنها جعلتها أيسر فهما وأجمل تأويلا، وسقوط الإنسان إذا ما نسب إلى عصيان الإنسان أمر ربه كان تعليله مقبولا، والبأساء والضراء والعذاب في سبيل الله يحتملها الإنسان صابرا، بل تتبدل أنعما إذا ما اعتبرت جزاء وفاقا، أو تكفيرا ثوابه النعيم السرمدي في الجنة، ومحت المسيحية عالما بائسا عاجزا ليس فيه من جديد أبدا، وأقامت مقامه عالم الأمل والرجاء، ووعدت الإنسانية عصرا ذهبيا مستقبلا بدلا من حلمها بآخر كان في زمان قد انقضى، فيتكفل المستقبل بذلك بإنصاف الإنسانية من حاضرها، ولم يكلف الدين الناس، لكي يستحقوا هذا شططا ، ولم يقتض منهم لكي يدخلوا الجنة الموعودة سوى أن يكونوا راضين بقضاء الله طائعين، وما ذلك على الناس عامة بعسير.
وملك هذا التأويل على الناس لبهم، وتعليل هذا يسير، فإننا مهما بحثنا لن نجد تأويلا أكبر اتفاقا منه مع ما يدل عليه واقع التجارب الإنسانية أو أعظم استجابة منه لدواعي الرجاء في صدور الناس، وبعد فما الذي تدل عليه تجارب الفرد من بني الإنسان؟ إنها تدل على حاضر يتعرض فيه الإنسان لأنواع شتى من البلاء والنوائب، وعلى شباب مضى تداعب الفؤاد ذكريات هنائه أو على الأقل هنائه المتوهم، أو على شيخوخة آمنة هادئة يتطلع إليها الرجاء، أليست هذه أدوار الحياة كما يمر فيها بنو الإنسان عموما؟ وجاءت المسيحية، فجعلتها أطوار التاريخ الإنساني، فللبشرية شبابها ونعيمها في جنة عدن تحلم به، وللبشرية حاضرها من الشقاء تعانيه، وللبشرية الأمن في المستقبل ترجوه، أمور جليلة لا غموض فيها ولا إبهام، ولا يقتضي فهمها من أي إنسان أن يفقه علما لاهوتيا، ثم هي لا يقدر الإنسان على فهمها فحسب، بل يقبل عليها ويرحب بها؛ إذ هي تكسب وجوده في الدنيا قدرا وقيمة ومعنى، فيرى أن وجوده على ضآلته وضيقه وعمقه أخرط وأجل في حقيقته منه في مظهره، وأنه جرم صغير، ولكن يتمثل فيه العالم الأكبر، يتمثل فيه جميع ما قضى به الله بالنسبة للخلق كافة، وأخرى أحبوها، أنه ستكون هناك خاتمة، وأن الله سيقضي بينهم، وأنه سيكون حساب، وأن الأشرار سيعاقبون والأخيار سيثابون، وملأ الإيمان باليوم الآخر القلوب، وزكاه في كل قلب ما ذكر وما شاهد من صنوف البغي وما عانى من ظلم، وصحب الإيمان الرجاء في أنه سيلحق بالصالحين ويدخله الله دار المقام الأمين، دارا لا عوج فيها ولا أمتا.
هذا؛ وإن نحن نظرنا للتأويل نظرا سطحيا، فاعتبرناه رواية أحداث تخضع لأصول النقد التاريخي الحديث، ما انطبق عليها هذا، وإن حاول تطبيقها طبقات المفسرين والنقاد، وقد أضافوا إلى محاولة تطبيق الأصول الحقائق التي جمعها العلماء عن أحوال العالم اليوناني الروماني وتاريخ نشأة الكنيسة وأحوال الشعوب البدائية والشعوب غير المسيحية، مما أدى إلى إضعاف ثقتهم بالتأويل المسيحي باعتباره عرضا تاريخيا، وأدى هذا أيضا إلى حركة أخرى، وهي الحركة التي بدأها الإنسانيون منذ القرن الخامس عشر أو فيما قبله، وذلك أن هؤلاء وقد بهرتهم حضارة العالم اليوناني الروماني عندما كشفوا عنه الغطاء، جعلوا منها ذلك العصر الذهبي للإنسانية الذي عينته العصور المسيحية في جنة عدن، وهكذا فعل الإنسانيون ما فعل اللاهوتيون النصارى حينما جعلوا عصرهم الذهبي جنة عدن بدلا من ذلك العصر الذهبي الذي تخيله اليونان، وكان أمرا مفهوما أن يولي الإنسانيون وجوههم نحو العالم القديم، وأن يتتلمذوا لليونان والرومان وأن يتعلموا منهم كل ما علموه، بل أن يعدوهم أفضل ما أخرجت البشرية من مثل تحتذى، وعودتهم هذه تأتيهم بالعتاد الذي يلزمهم لمهاجمة عدوهم؛ إذ هي تمكنهم من الاطلاع اطلاعا صحيحا على نشأة الرواية المسيحية، وتظهرهم على «العلم» الجاف الممل الذي نما حولها خلال العصور، وتكاثف عليها حتى أخفى حقيقة معناها، ولكن هل يكفيهم هذا لكي ينالوا من عدوهم؟ إن قوة الرواية المسيحية وصلابتها منفصلتان عن الأحداث التاريخية لا تتوقفان عليها، والنقد التاريخي مهما بلغ لن ينال منها، وكان سر قوة الرواية المسيحية أنها أعلنت للناس بما لها من سلطان (ولا يهم في هذا إن كان الإعلان صادقا أو غير ذلك) أن حياة الإنسان لها معنى وغاية، وأن دلالتها تتعدى حياة الفرد إلى الوجود كله، تتجاوزها لتشمل كل ما يعرض لها وما تكسبه في الزمان، سر قوتها الباقية أبدا هو في هذا، في إشراق الرجاء من خلال التشاؤم، في إطلاق عقل الإنسان من ربقة الأكوار التي عقدتها الفلسفة القديمة حوله، في إحلالها - حينما نقلت العصر الذهبي من الماضي للمستقبل - فكرة مستبشرة عن مصير الإنسانية محل أخرى قانطة؛ وهكذا يتبين لك أن مهاجمة الإنسانيين للرواية المسيحية بسلاح التاريخ، كان لا غناء فيه اللهم إلا لافتتاح المعركة.
وكان هذا ما لاحظه فلاسفة القرن الثامن عشر، لاحظوا أنهم قد يقولون في جنة عدن ما يشاءون، وقد يقصون سيرة الإنسان وبدء الخليقة على الوجه الذي يعتقدون، وقد يعدون التنزيل الصحيح ما قرءوه في كتاب الطبيعة لا في الأسفار المقدسة، وقد يذهبون إلى أن سلطان العقل يؤيده الإجماع الإنساني كما هو مسطر في التاريخ أكثر عصمة من سلطان الكنيسة والدولة، قد يفعلون هذا كله، ولكنهم لا يلبثون أن يجدوا المعركة لا تزال في مبتدئها، وأن النهاية لا تزال جد بعيدة، وأن أي عودة للماضي يدعون الناس إليها وأي إحياء يتولونه للفلسفة القديمة مهما طلوها بطلاء من المثالية والإنسانية، وأن عبادة الأسلاف الذين بادوا، وأن محاكاة الإغريق في نشأتهم تلك المحاكاة الباردة، أن لا شيء من هذه يقنع ويرضي، ويكفي الناس بعد أن علمتهم المسيحية أجيالا فأحسنت تعليمهم أن يتطلعوا إلى عالم أفضل، فحق على الفلاسفة إذن أن يتولوا إنشاء عالم أفضل، ولكن من طراز آخر، وأن يدلوا الناس على سبيل آخر للنجاة ولبلوغ الكمال، وإن هم لم يفعلوا ذلك، فإن دين الإنسانية سيظل يدعو الناس ولا من مجيب، وهذا العالم الأفضل، وهذه الجنة الجديدة يجب أن تكون في حيز الدنيا نفسها؛ لأن مما قررته عقيدة الفلاسفة أن غاية الحياة تلتمس في الحياة ذاتها، في حياة دنيوية أفضل وفي المستقبل؛ لأن الحياة الدنيوية الحاضرة لا تزال بعيدة عن الكمال، ثم تعين عليهم شيء آخر، تعين عليهم بعد أن ظنوا أنهم هدموا جنة السموات ليعيدوا بناءها في الأرض، أن يعلنوا أن الإنسان لن ينجو بفعل قوة مفارقة خارقة، مقلبة للأشياء رأسا على عقب، «من قبيل قوة إله أو ملك فيلسوف»، وإنما ينجو بجهده ومجاهدته وبما تبذله الأجيال المتعاقبة في سبيل الإصلاح المطرد، وللخلف نصيب في هذا الجهد المشترك؛ إذ عليه أن يكمل ما شرع فيه الغابر والحاضر، ويعبر عن هذا شاتلو بقوله: «لقد صار إعجابنا بالسلف أقل مما كان، بينما زاد حبنا لمعاصرينا ورجاؤنا الخير في خلفنا.»
4
فكأنهم استغنوا بإشراك الخلف عن جنة المسيحية وعن عصر القدماء الذهبي، واستبدلوا حب الإنسانية بحب الله، وقابلية الإنسان للمجاهدة للكمال المطلق بفداء إنسان واحد الإنسانية جمعاء ، ورجاء خلود الذكر لدى الخلف بالخلود في الدار الآخرة.
2
وقد شعر فريق من الأدباء العظام بأن للخلف نصيبا في بناء الحاضر قد يدعى لأدائه، ويرجع هذا الشعور إلى ما قبل القرن الثامن عشر بزمن بعيد، إلا أنه كان في مبدأ أمره شعورا غامضا، من ذلك ما لاحظه سنكا من أنه سيأتي يوم يعجب فيه الخلف من جهلنا أشياء معلومة له حق العلم.
5
ودانتي في أوج العصور الوسطى يفتتح كتابه «دي موناركيا» بجملة لعلها تضمنت أكثر مما يقصد؛ إذ هي تضمنت في حقيقة الأمر وجهة نظر القرن الثامن عشر في موضوع السلف والخلف بتمامها، قال دانتي: «يجب على من طبعتهم الطبيعة العليا على حب الحق أن يشتغلوا - على وجه الخصوص - بالعمل من أجل الخلف، وهذا لكي تغتني الأجيال المقبلة بفضل جهودهم كما اغتنوا هم بفضل جهود من سبقهم.»
6
وانقضت أربعة قرون قبل أن يكون لهذه الفكرة المثمرة أثرها في شئون العالم، ولا يصعب تعليل طول هذه المدة، فمعاصرو دانتي لا يعدون الاشتغال من أجل الخلف أمرا ذا جدوى، وكيف يكون ذا جدوى ومصير الخلف ومصيرهم هم - مصير بني الإنسان عموما - قد قضي فيه القضاء المبرم، وفي يوم القيامة يكون الفصل والأنباء، وقد كان خليقا بالفكرة أن تستهوي أراسمس ومعاصريه
7
بما لها من قيمة إنسانية، لولا أنها دعتهم للتفكير في المستقبل، وهم بالإعجاب بالماضي مشغولون.
ولقد بلغ من عرفان الإنسانية فضل اليونان والرومان عليهم؛ إذ أطلقوهم من ربقة الخرافات، أنهم رفضوا أن ينسبوا لحضارة عصرهم أي فضل على الحضارة القديمة، فكيف يحق لهم والأمر كذلك أن يوازنوا حضارة يتذوقونها ويعجبون بها بشيء مستقبل مجهول؟ وكيف ينصرفون عن تلك إلى هذه؟ وقد فاتهم إدراك حقيقة بسيطة «كما لا يزال يفوت الكثير حتى في زماننا هذا»، وهي أن الطريقة الحقة لمحاكاة اليونان هي عدم محاكاتهم؛ لأن اليونان لم يحاكوا أحدا ما، فعلى الفيلسوف إذا شاء أن يفهم فكرة التقدم الحديثة، وإذا شاء أن يشتغل صادقا بأمر الخلف أن يبدأ بنبذ عبادة الآباء وتحليل شعور النقص الذي يشعر به نحو الماضي هباء، والإيمان بأن جيله الحاضر يفضل أي جيل مما عرفوا.
وكان بين السابقين إلى توجيه الفكر نحو هذا فرنسيس بيكون، وقد وردت في «الأورغانون الجديد» العبارة المشهورة التي يعترض فيها بيكون على تسمية اليونان والرومان «الأقدمين»، وقال: إنهم ليسوا بالأقدمين، فقد عاشوا في شباب العالم، وما الأقدمون حقا إلا المحدثون، وهؤلاء يجب أن يكونوا أعلم من اليونان والرومان بحكم أنهم جاءوا بعدهم، فتعلموا كل ما أضيف للعلم حتى زمنهم.
8
وإني لا أدري أقرأ بسكال ما قاله بيكون أم لم يقرأ، ولكنه من المحقق على أي حال أنه أدى فكرة بيكون خيرا من أداء صاحبها، قال: «يجب أن نعد جميع أجيال البشر التي تتعاقب على مر العصور كما لو كانت إنسانا واحدا لا يموت أبدا، مستديم التعلم، وعلى هذا فلا مبرر يبرر الإذعان الذي نذعن للفلاسفة القدماء، وبيان هذا على الوجه التالي: لما كانت الشيخوخة أبعد أدوار العمر عن الطفولة، فواضح أنه يجب أن تلتمس شيخوخة الإنسان المشخص للإنسانية في أبعد أدوار عمره من ميلاده لا في قربها إليه، وأولئك الذين نسميهم «الأقدمين» كانوا الذين عاشوا في شباب العالم وفي طفولة الإنسان الحقة، ولما كنا قد أضفنا إلى ما علموه ما تعلمناه على مر العصور بينهم وبيننا، فيجب أن نلتمس في أنفسنا ذلك القدم الذي نجله في غيرنا.»
9
وحينما كتب باسكال هذه الكلمات كانت المعركة المشهورة بين الأقدمين والمحدثين دائرة، بل كان قد مضى على نشوبها زمن، وقد أرخ مبادئ تلك المناظرة المشهورة الأستاذ بري في كتابه القيم جدا «فكرة التقدم المطرد».
10
وكانت سنة 1620 أقدم سنة اتخذت لتحديد تاريخها، ففي تلك السنة يتحدث الساندرو تاسوني كأن المناظرة تجري من زمن، ويعلن أنه على العموم في صف المحدثين،
11
وفي سنة 1627 نشر اللاهوتي الإنجليزي جورج هيكويل كتابا في ستمائة صفحة، عنوانه شرح أو بيان قوة الله وعنايته في حكم العالم، وفيه أنكر الرأي الخاطئ الشائع القائل بأن الطبيعة في فساد مستديم عام، وذهب هو إلى أن العالم الحديث أفضل من القديم، وعلى هذا فلا ينبغي لهذا الفساد العام المتوهم وما يلقيه في روعنا من أوهام باطلة، أن يثنينا على الاعتداد بأسلافنا العظماء، ولا عن الإعداد لخلفنا، وكما أن سلفنا ادخر لنا ادخارا حميدا، فلندخر لخلفنا ما يستوجب منه الحمد.
12
وبعد هيكويل بنصف قرن يأتي جلانفيل، ومما يؤثر عن جلانفيل هذا أنه جمع بين الدفاع عن نظريات السحر والدفاع عن نظريات العلم. «وكانت هذه منه مقدرة لها ما يماثلها في أيامنا.»
وذهب فيما يتعلق بموضوعنا إلى أن العالم الحديث أفضل كثيرا من العالم القديم بما حصل عليه من وفرة المعارف النافعة، وعلى هذا فيجب على الأجيال الحاضرة أن تسعى لتجمع وتفحص وتهيئ ذخيرة من المعارف تدخرها كما يدخر المال في المصرف لمنفعة العصور المقبلة.
13
وكان من معاصري كاتبنا هذا رجل اسمه ديماريه دي سان سورلان، وكان يبغض اليونان، ويرجع بغضه فيما يقول الأستاذ بري إلى سببين: أولا، إلى أنه كان مسيحيا مسرفا في التعصب، وثانيا، إلى أنه كان شاعرا رديئا، وكان خليقا به إذن أن يزعم أن العالم القديم كان دون العالم الحديث في كل شيء، في العلم، في الهناء، في الغنى، في الأبهة، وكان خليقا به أن يزعم أيضا أن الشعراء يجدون في المسيحية موضوعات خيرا مما يجدون في الأساطير الكلاسيكية، وقد شاء له نحسه أن يحاول إثبات زعمه فنظم موضوعين: «كلوفيس» «ومريم المجدلية»، ولم يقدر للمنظومتين بعد - لسبب ما - أن ينالا من الشهرة ما ناله شعر هوميروس وسوفوكليس.
14
وقد عهد سورلان بأمر الدفاع عن المحدثين إلى رجل أصغر منه سنا هو شارل برو.
15
وتاريخ المعركة بين الكتب بعد ذلك أشهر من أن يحتاج إلى تفصيل منا، ويمكن لمن يشاء أن يتتبع أدوارها في كتاب برو «المقارنة بين المحدثين والأقدمين» (1688-1696)، وفي كتاب فونتنيل «الأقدمون والمحدثون» (1688)، وبالإنجليزية في كتاب السير وليم تمبل «مقال في معارف الأقدمين والمحدثين» (1690) وكتاب وليم وتن «خواطر عن معارف الأقدمين والمحدثين» (1696)، وكتاب سويفت «حرب الكتب»،
16
ويكفي هنا أن نلاحظ أن أقدر المنتصرين للمحدثين وهو فونتنيل أقام دفاعه على النظرية الديكارتية في اطراد الطبيعة، فالسؤال: هل الأقدمون أفضل من المحدثين؟ يجاب عنه بالسؤال: هل كانت الأشجار في العصور القديمة أكبر مما هي في العصور الحديثة؟ فإن كانت أكبر إذن فلن يظهر سقراط آخر، وإن لم تكن فهناك احتمال لظهوره، والطبيعة لا تحابي عصرا دون عصر، وإذا حدث أن بعض العصور خلت فعلا من ظهور العظماء - ومثال هذا ما كان من انحطاط العصور التالية لغزوات القبائل المتبربرة في العصور القديمة - فإن ذلك يرجع لا إلى أن الطبيعة كانت أقل قوة في عصور الانحطاط، بل إلى علل طارئة غير مواتية، ومثل هذا الانحطاط ليس أمرا محتوما، وليس أمرا لا يمكن منع وقوعه، بل هو شيء عرضي ومؤقت، وهو عيب الزمن كفيل بإصلاحه، والزمن عنصر أساسي في موضوع الحكم بين الأقدمين والمحدثين، فهو فيما يرى فونتنيل في صف المحدثين (أو على حد التعبير الإنجليزي في صف الملائكة).
والتاريخ خير شاهد، فها هو ذا العالم الحديث يسترد بعد عصور خيم عليها الجهل والخرافات معارف العالم القديم، ويخرج من البربرية إلى الحضارة والنظام، وخليق به أن يبلغ مرتبة العالم القديم، بل أن يفوقه، وهنا أضاف فونتنيل لموضوع المناظرة أمرا لم يسبق إليه، ذلك أنه فرق بين العلم والفنون، وقال: إنه بالنسبة للشعر وسائر الفنون قد يبلغ المحدثون فيه وفيها شأو الأقدمين، ولكن لا يحق لهم في الغالب أن يتطلعوا إلى أن يفوقوهم، ويرجع ذلك إلى أن الشعر والفنون مبعثهما الشعور الوجداني والخيال، وأما بالنسبة للعلوم فهذه تعتمد على المعارف وعلى الاستدلال الصحيح؛ ولذا فإن الأحدث زمنا يفوق الأقدم منه، وهذا لسبب ظاهر هو أن من يجيء من بعد غيره يبني على ما جمعه من سبقه، وقال: «إننا مدينون للأقدمين لكونهم استنفدوا تقريبا تماما كل ما يمكن تكوينه من النظريات الخاطئة.»
وكان فونتنيل مسرفا بلا شك في ظنه أنه لم يعد بعد مجال لتكوين النظريات الخاطئة، وكان الإسراف في حسن الظن من خواص جيله، وإذا كانت تعليلات فونتنيل قد لقيت قبولا حسنا من معاصريه، فإن هذا لا يرجع لجودة استدلاله بقدر ما يرجع إلى كونها أرضت عصر لويس الرابع عشر في حسن ظنه بنفسه، ولم يكن الملك الكبير من الملوك المتساهلين في مسائل المقارنات والموازنات بين الملوك والعصور! وإذا كان رعاياه البروتستنت «الهيجونو»، قد أجرموا حينما اعتنقوا مذهبا دينيا غير مذهبه، فإن الأدباء يثبتون على أنفسهم ضيق الأفق إن هم توهموا أن أثينا تفوق فرساي حضارة، وقد أثر عن تالليران
17
قوله: إن من لم يعش قبل 1789 لم يدر حلو العيش من مره، وهو صادق في قوله هذا بشرط ألا ننسى أن العيش كان حلوا حقا للمجدودين وحدهم، فالواقع أنه فيما بين نهاية حكم لويس الرابع عشر والثورة، كان العيش حلوا، وخصوصا في تلك الأعوام الهادئة فيما قبل 1750 قبل أن تظهر بوادر العاصفة، وقبل أن يرى أحد الملوك ما يدعوه لإرسال النكتة على الطوفان المتوقع؛ وهكذا اقتضى حسن ظن ذلك العصر الراضي الباسم واعتداده بنفسه أن يرى نفسه مساويا لأي عصر عرفه التاريخ.
رحب العصر كما رأينا بآراء فونتنيل، كما أنه اعتبرها آخر ما يجب أن يقال في موضوع الماضي والحاضر والمستقبل، فقد حدد فونتنيل العلاقات بين هذه الثلاثة على الوجه الذي عده العصر وافيا بالغرض، فإن كان فونتنيل قد أقر بأن الأجيال المستقبلة ستفوق الأجيال الحاضرة بحكم أن نمو العلم وتطبيقه لن يقفا عند حد، فإنه لم يشأ أن يسير بملاحظته هذه إلى توابعها، بل وقف عند هذا، كأنه أومأ إلى المستقبل بالتحية ولم تطاوعه نفسه على التعبد له، وكان معاصروه عموما على شاكلته، لقد كفاهم جهدا أن نبذوا فكرة الفساد المحتوم، وأن أثبتوا أنهم ليسوا أحط قدرا من أي جيل، كفاهم هذا عناء، ولا لزوم لهموم المستقبل، وإذا كانت الفتنة قد نامت فلم نوقظها؟ (فلندع الكلاب النائمة تغط في نومها.)
فهذا هو عصر السكون الذي تلا خلاف الفرق الدينية والسياسية في القرن السابع عشر، وارتاح الناس في ظله إلى ما ذهب إليه مالبرانش
18
في قوله: «إن الله خلق العالم كأحسن ما يمكنه أن يخلق»، بالمبادئ العامة القليلة التي كانت لديه، أو إلى ما ذهب إليه لبينتز - وقد كان في مذهبه هذا قاطعا أكثر من مالبرانش - في قوله: «إننا إن اعتبرنا الكون في كله وعلى مدار الزمان تبينا أن العالم الموجود خير من أي عالم ممكن وجوده.» وهذا العصر الذي نتحدث عنه كان أيضا عصر أثرة ومتعة - أمثلتها في والبول والوصي والملك المحبوب جدا،
19
والأثرة حدت بهذا العصر إلى أن يكون فرحا بما أوتي، وإلى أن يوقن بأن لا محل للتمني، ولا محل للأسى على المجد الذي كانه اليونان، ولا محل لأن يخشى المقارنة بأي عصر آخر، بل هو يقبلها معتدا بنفسه واثقا بما لديه من مجد مكين حقا، وإن كان أقل رواء من غيره.
ولكن حدث قرب نهاية القرن الثامن عشر أن تبدلت الحال غير الحال، واستبدل الناس السخط بحسن الظن، وبقي لهم التفاؤل بل اشتد، ولكن على منوال آخر؛ التفاؤل بما يرجون أن يكون في مستقبل الأيام بغض النظر عما هو عليه حاضرها، باليقين بأن الزمان كفيل بتقويم ما هو معوج، وقد أيد الإيقان بأن الإصلاح لن يكلفهم عناء كبيرا التقدم المحسوس في العلوم، وجاء هذا التقدم مصداقا لما تنبأ به فونتنيل من أن نمو العلوم وتطبيقها لن يقفا عند حد، كما أيدته نظريات لوك في علم النفس، وما أدخله عليها كوندياك من تبسيط وتعزيز، وقد تقبلوا هذه النظريات على أنها بديهية، فظاهر أن الإنسان من صنع بيئته؛ أي من صنع الأحوال الطبيعية التي يعيش فيها والنظم التي تدبر بموجبها أموره، وظاهر أن البيئة إذا شكلت من جديد طبقا للقوانين الطبيعية الثابتة القابلة للتعيين، فإن إصلاح حاله حسيا ومعنويا يمكن تحقيقه سريعا، وعلى هذا النحو استسهلوا فيما بعد وضع الدستور الصالح للأمة الفرنسية، استسهلوه كما قال قائل منهم في الجمعية الوطنية في مبدأ الثورة؛ لأن مثاله منقوش في الصدور «لن يستغرق وضعه - فيما أظن - إلا شغل يوم أو بعض يوم، فها هي ذي مادته جاهزة كونتها استنارة قرن كامل .»
وقد اعترض هيكويل في القرن السابع عشر على نظرية فساد العالم المطرد العام اعتراضا عمليا صرفا، فقال: إن الأخذ بهذه النظرية يميت الأمل ويوهن العزم، وإنا لو عكسنا القضية وقلنا: إن إحياء الأمل واستحثاث العزم يبعثان في الإنسان الإيقان بصلاح العالم صلاحا سريعا عاما، فإنا نجد في أحوال القرن الثامن عشر قرب نهايته مصداقا لهذا القول، نجد مصداقا له فيما سبق الثورة الفرنسية من عزم وأمل.
عزم القول عزما أكيدا على إصلاح شئونهم، وقد قادهم العزم إلى الثورة وبث فيهم شعورا حارا عاطفيا، بل دينيا بأن المستقبل بل المستقبل القريب سيفضل الحاضر والماضي، بل لن يكون هناك وجه للمقارنة.
وحدث في فرنسا حيث كان السخط على أشده أن أصبح لنظرية التقدم المطرد وقابلية الإنسان للكمال المطلق المقام الأول في دين الإنسانية الجديد، ولم يكن لها ذلك عند فونتنيل، حقيقة أنه تصوره، ولكن على أنه تقدم يجري تدريجيا بموجب نمو المعارف والاستدلال الصحيح، ولم يدر في خلده أو في خلد الكثيرين من معاصريه أن يتوقع تغيرا تاما وصلاحا كاملا في الأخلاق أو في النظم الاجتماعية، وفرق بين أن يلهو الأدباء بفكرة الأوتوبيا كما أخرجها أفلاطون أو توماس مور
20
أو بيكون لهوا بريئا وبين إعدادها لسياسة الغد في فرنسا، وفونتنيل يعد الاعتقاد في إمكان هذا وهما من قبيل ما توهمه السذج عن الكمال الذي كان للإنسان في جنة عدن، ولكن هذا هو الذي حدث، أدى إليه سخط الناس وبرمهم بسوء أحوالهم الاجتماعية، فأصبحت فكرة السعادة الأوتوبية التي تسلى بها الناس أزمانا عن ضيق حياتهم وخيبة سعيهم وحبوط أعمالهم شأنا من شئون السياسة العملية لتحقيق ما كانوا يرجونه من بعث مجتمع جديد، وهكذا تطورت الفكرة الأوتوبية: بدأت متحدة بفكرة العصر الذهبي في جنة عدن أو بفكرة النعيم المقيم في الدار الآخرة، ثم توهمها الكتاب الضجرون بالحضارة الأوروبية إما قائمة في ديار خيالية أو في ديار غير الأوروبيين (في القمر أو في أطلانتيس أو في لا أين أو تاهيتي أو بنسلفانيا أو بيكين )، ثم انتهى بها المطاف إلى فرنسا في العصر السابق للثورة كما بينا.
ولنتبعها في طورها الأخير قبل الثورة في كتابات الفلاسفة، وينبغي ألا نقصر المراجعة على الكتابات المشهورة في موضوع التقدم المطرد بالذات - من أمثال رسائل ترجو ورسالة لسنج «تربية الجنس البشري»، وكتاب هردر «أفكار في فلسفة التاريخ البشري»، ورسالة كوندرسيه «معالم تقدم العقل البشري»
21 - ولكن ينبغي أن نرجع إلى كتب لغيرهم من الفلاسفة لا تعالج موضوع التقدم بالذات؛ إذ إن هذه لا تقل دلالة عن تلك التي ذكرنا، وهذا لأن الفلاسفة عموما كانت تشغلهم كثيرا مسألة التقدم المطرد وقابلية الإنسان للكمال ومصير الإنسان، وهذا الاهتمام يقترن اقترانا وثيقا باهتمامهم بالتاريخ، فكان الماضي والحاضر والمستقبل عندهم جوانب ثلاثة لشيء واحد هو شغلهم الشاغل ألا وهو الحاضر، ذلك الحاضر الذي يرغبون في تبديله إلى ما هو أحسن منه، ومن ثم كان التماسهم الحجج لتعليل رغبتهم وتبرير سخطهم ووجوه استنكارهم، ومن ثم كان مدهم نطاق الحاضر الكاذب فوصلوه بالعصور جميعا، وتبينوا بذلك أنه ليس إلا فترة شقاء زائل بين فترات تاريخ البشرية جمعاء.
3
ولما أخذ رجال الإصلاح على عاتقهم أن يبعثوا مجتمعهم من جديد قدروا أن الخلف من بعدهم سيقدر عملهم ويشكر فضلهم، فانتظر هؤلاء الفضلاء المستنيرون - الذين انتسبوا إلى جيل من الناس ولكن أبصارهم تشخص إلى أجيال أخرى - حكم الخلف وتقديره بدلا من انتظار حكم الله. وإن حاجة الإنسان لأن يقره غيره على ما يعمل وعلى ما يرى لظاهرة عامة، تختلف من فرد لفرد كبرا وصغرا، ولكنها مما يشعر به كل إنسان، فيحب كل واحد من الناس أن ينال رضا أحبائه أو أقاربه أو ذوي الاستقامة من عشيرته، والطريق الذي يتبعه أكثر الناس لنيل رضا غيرهم هو التزام العادات المرعية ومذاهب الرأي المشترك.
بيد أنه لم يخل زمان من رجال شواذ، وأحيانا من جماعات يضيقون صدرا بزمانهم، بناسه وبأحواله، وهؤلاء إما أن يعتزلوا قومهم ليعيشوا في عزلة روحية، أو يجهدوا لاستمالتهم إلى ملتهم، والغالب في كلا الأمرين أن قومهم ينكرونهم، ويفضي بهم هذا إلى ابتغاء الرضا من غيرهم، من سلطان أعلى وأكبر من قومهم وزمانهم، سلطان يملك الأمر كله، من قبل ومن بعد: الله أو القانون الطبيعي أو الحرب المحتومة بين الطبقات أو المصدر المفارق الذي يوجه الإنسان طريق الحق، ومن المعتزلين رجال رأوا أن لا قبل لهم بحمل الناس وهم على ما نعرف جمودا وعنادا على تعديل طريقتهم، ومثلهم مثل أركميديس
22
حينما رأى أن لا بد له من محور ارتكاز يحرك به المادة الجامدة المقاومة التي يتكون منها عالم الأشياء والبشر.
وبرم رجال الإصلاح في القرن الثامن عشر بمفاسد العصر ورغبوا في إصلاحها واحتكموا إلى سلطان غير سلطان العصر، فأما ما كان من أمر علاقتهم بحاضرهم، فإنهم لما أحسوا بعدم انسجامهم مع زمانهم أخذوا يعملون على أن ينزلوا على حكم ما هو أكبر وأدوم من زمانهم المتناهي وأهله وأحواله، فأقاموا قوانين الطبيعة ورب الطبيعة النافذة في الكون بأسره، مقابل العادات والعرف ذات النفوذ المحدود زمانا ومكانا، وحكموا الإنسانية جمعاء فيما حكم به الناس، فإن قيل لهم: وما الإنسانية جمعاء أليست إلا اسما سموه؟ أجابوا بأن الخلف خليق بأن يجلس مجلس الحكم بموجب ما توافر لديه من أصالة تنمو وتزداد على مر الأيام، وقانون التقدم المطرد كفيل بهذا الخير وأمثاله، وبأنه لما كان كل عصر يقوم مقام الخلف لجميع ما سبقه، ولما كان القرن الثامن عشر بما حصل عليه مما كسبت الإنسانية زهاء ألفي سنة قد قضى لسقراط ورجيلوس
23
من قضاتهم، فإن أجيالا تأتي بعد سوف تقضي لفولتير وروسو وروبسبير ورولان وأمثالهم، وإني لا أدري لم اعتاد مؤرخونا أن يغفلوا حقيقة بارزة في الأصول المحققة بروزا لا يمكن لأحد أن يخطئها أو يغفلها، ومع هذا فهم يغفلونها بالرغم عما عرف عنهم من التدقيق في إثبات كل ما وقع، وهذه الحقيقة هي أن فلاسفة القرن الثامن عشر وزعماء الثورة الفرنسية، كانت تعروهم لذكر الخلف والتفكر فيما يكون من شأن الخلف هزة وجدانية بل ودينية، وكان الانفعال يبلغ بهم أن كانوا أحيانا يجعلون من الخلف شخصية ماثلة - كما فعلوا بالطبيعة - يتأدبون في خطابها كما لو كانت إلها ويدعونها بكلمات الابتهالات، أوليست هذه حقيقة جديرة من مؤرخينا بالإثبات؟ وهي ليست من حيث غرابتها وأهميتها دون الحقائق التي بذلوا في تحريها وتسطيرها ما أوتوا من علم، وهاكم شاهدا أنقله حيثما اتفق من كتابات الفلاسفة، روبسبير يختم خطبة له في نادي اليعقوبيين في موضوع الحرب مع النمسا كما يأتي:
أيها الخلف! يا رجاء الإنسانية العذب الرقيق، لست بالغريب عنا، فمن أجلك لا نبالي بما ينزله الطغيان، وسعادتك هي الجزاء الذي نبتغي لجهادنا المضني، وكثيرا ما يستولي علينا اليأس مما يعترضنا من عقبات، وعندئذ نلتمس من لدنك السلوى والمواساة، وإليك نعهد لاستكمال ما بدأنا، وبين يديك ندع مصير أجيال من الخلق لم تولد بعد! وعسى أن تفسح صدرك لذكرى شهداء الحرية بقدر ما غصب نصراء الدجل والأرستقراطية من صدورنا، وعسى أن يكون أول ما تفعل أن تزدري الخونة وتبغض الطغاة، وعسى أن يكون شعارك دائما وقاية البؤساء والرأفة بهم والإحسان إليهم والحرب على الظالمين! إلى البدار أيها الخلف، بادر إلى إقامة دولة المساواة والعدل والسعادة!
24
نبتسم لهذا الابتهال الحار بلا شك، ولكن هل ابتسم سامعوه من خصوم روبسبير ساخرين؟ كلا، وكيف يكون لهم أن يسخروا والمقام مقام تعبد؟ فلنسمع واحدا منهم (لوفيه): روبسبير! سيحكم الخلف على خطبك، وسيحكم الخلف فيما بيني وبينك، وحينئذ أنت تأخذ على عاتقك أثقل التبعات، وأنت بعنتك وتمسكك برأيك تضع نفسك موضع المؤاخذة من معاصريك، بل ومن الخلف.
أجل، إن الخلف سيحكم بيني وبينك، إن الخلف سيقول عني أنا الرجل الذي لا يستحق شيئا، كان بين أعضاء الجمعية الوطنية رجل لم تمسه الأهواء الجامحة إذ ذاك، أصدق وكلاء الشعب وفاء للشعب، رجل يستحق مني أن أقدر فضله وأذكر فضائله وأعجب بشجاعته.
25
فالخصمان - روبسبير ولوفيه - متفقان إذن في شيء واحد، متفقان في الاعتقاد بأن يكون هناك يوم حساب وحكم، يوم توفى الفضيلة جزاءها، ويوم ينزل بالفساد العقاب، بيد أن الحكم عندئذ - حسب اللاهوت الثوري - سيكون للخلف لا لله، الخلف هو الذي يقضي يومئذ، وهو الذي يعطي كل ذي حق حقه، وهو الذي يمنح تاج الخلود.
ومما يشهد به التاريخ أن الناس أشد ما يكونون حبا للإنسانية حينما يشتد أذاهم بعضهم البعض الآخر، كذلك لم ينل الخلف من تقدير الحاضر قدر ما نال في الشهور الحاسمة في عصر الثورة الفرنسية، ومع ذلك فيجب أن نذكر أن الفلاسفة من الفرنسيين وغير الفرنسيين كانوا يعرفون قبل الثورة بزمان للخلف حقه وفائدته، فمثلا بريستلي - وهو رجل إنجليزي كأكمل ما يكون الإنجليزي اتزانا واعتدادا - يترك موضوعه الأصلي في رسالته عن الحكومة، ويتطرق به الحديث إلى وصف المشهد الملهم الانشراح الموزع الثقة - مشهد تقدم النوع البشري نحو الكمال، قال: «إن الفرد في الاجتماع الإنساني لا يلزمه إلا عدد قليل من السنين لكي يحيط بجميع ما بلغه من التقدم أي علم أو فن، وله بناء على هذا أن يصرف المدة الباقية له من العمر وفيها تكون ملكاته قد بلغت منتهى كمالها في تنمية ما درس من علوم أو فنون، وقد يترتب على توافر الأفراد على خدمة العلوم والفنون على هذا النحو أن يكون لعلم أو فن من السعة ما يقصر عقل الفرد عن حفظه، فيجب حينئذ أن يعمد إلى تفريع العلوم؛ وهكذا تتفرع المعرفة وتتسع، ولما كانت المعرفة على حد تعبير اللورد بيكون هي القوة، فإن اتساع المعرفة يؤدي إلى ازدياد قوة الإنسان ونفوذه في الطبيعة من حيث مادتها ومن حيث قوانينها، فيصبح بذلك أقدر على جعل بيئته أطيب كثيرا ومعاشه أليق من ذي قبل، ويؤدي فيما هو محتمل إلى إطالة العمر، وإلى ازدياد هناء الإنسان كل يوم على ما قبله وإلى ازدياد قدرته، بل ورغبته - حسبما أرى - في إسعاد غيره، وعلى هذا فمهما يكن من أحوال في العالم مبتدئة فإن منتهاه - قطعا - سيكون مجيدا فردوسيا إلى أبعد ما نستطيع الآن أن نتصور، وإذا ظن بعض الناس أني قد أسرفت فيما أتطلع إليه، فإني أستطيع أن أثبت أن ما ذهبت إليه ليس من نسج الخيال، بل هو مستند إلى فهم صحيح للطبيعة الإنسانية وللغاية التي يسير نحوها التاريخ، ولن أحاول الآن أن أزيد الفكرة شرحا، بل أترك مشهدا لم أتأمله قط إلا وفاض قلبي سعادة.»
26
وإنا لا نتصور هردر بين أولئك الذين توقع منهم بريستلي أن يتهموه بالإسراف، فإن مؤلفه الجليل في فلسفة التاريخ لا يعدو أن يكون بسطا لفكرة بريستلي الأساسية، وقد أخرج هردر للناس في هذا المؤلف من فيض علمه ونفوذ بصره وعمارة قلبه بالتقوى خطابا مفصلا لفكرة أن الله متم نوره، وأن الإنسانية ستشرق بنوره، وأن كل من يسعى من الأخيار لسعادة الأجيال المقبلة فهو من المؤيدين إرادة الله الخير لخلقه، وله أن يرجو من الله الحسنى بما أحسن، وفيما يلي فقرات لهردر كثيرا ما يقتبسها الكتاب، يقول:
ما أعذب أن نحلم أننا سنلتقي في الحياة الأخرى بالحكماء الفضلاء الذين خدموا الإنسانية وأحسنوا إليها، ثم دخلوا في الملكوت الأعلى! فطوبى لهم بالصالحات التي عملوا، والتاريخ يهيئ لنا في حياتنا هذه مشاهد من نوع هذا الحلم العذب، نلتقي فيها بذوي العدالة والاستقامة رأيا وفعلا ممن كانوا فخر الإنسانية في عصور شتى، ففي مشهد منها ألتقي بأفلاطون، وفي آخر أسمع سقراط يحاور أصدقاءه، وأحضر اجتماعه الأخير حينما حانت ساعة الموت.
وكأني بماركس أورليوس حين يناجي قلبه يناجيني أنا أيضا، والعبد أبيكتوتوس يأمر فينفذ أمره أكثر مما تنفذ أوامر الملوك، وألتقي أيضا بشيشرون وألاحظ حيرته، وبالسيئ الحظ بوتيوس
27
وأنصت لحديثهما وهما يقصان علي ما لقيا من حزن وما وجدا من سلوان.
إن معنى الحياة ومصيرها تتعدد مسائلهما وتختلف، ولكنها مهما تعددت ومهما اختلفت، فإن منتهى ما نبذل من جهد في الفهم والإدراك والتذوق هو هذه الحقيقة (على العقل والاستقامة تتوقف ماهية النوع الإنساني، وغايته ومصيره) وليس للتاريخ من غرض أشرف من هذا؛ إنه يأخذ بيدنا - إن جاز التعبير - ويقودنا إلى حيث يبرم المصير، ويرشدنا السبيل إلى التزام قوانين الطبيعة الأزلية، وبينما هو يدلنا على عيوب مخالفة العقل وسوء نتائجها، فهو يدلنا أيضا على مكانتنا في هذا الكون العظيم، حيث العقل والخير في صراع أبدا مع عوامل الفوضى، ولكنهما بمقتضى طبيعتهما يولدان النظام ويسيران قدما نحو النصر.
28
هذه على لسان هردر
29
هي «دعوة» الفلاسفة الفضلاء في كل مكان وزمان للاتحاد في وجه الشر ومحالفة العقل، وللفضلاء بلا شك ثواب الآخرة، ولهم أيضا حسن الذكر عند الخلف.
ولعل ديدرو كان أكثر الفلاسفة تفكيرا في أمر العلاقة بين السلف والخلف، والواقع أنه ما من مسألة شغلت القرن الثامن عشر إلا وكان لها نصيب من اهتمام ديدرو، فتقابلت في فكره على هذا النحو جميع تيارات العصر العقلية، ولكنها لم تتحد في تيار واحد، بل أخذ كل منها سبيله، ونقرأ في سيرة ديدرو أنه ذات مساء في عام 1765 اجتمع بصديقه فالكونيه في ركن من الغرفة بجانب الموقدة في المنزل بشارع تاران، ودار الحديث بينهما طويلا فيما إذا كان الاعتداد برأي الخلف يحفز الناس حتما إلى القيام بالأعمال العظيمة وإلى الاضطلاع بالمهام الجسيمة.
30
والظاهر أن الموضوع على هذا النحو كان من تحديد فالكونيه. ويذكرنا بموضوعات الجوائز التي أحبها القوم في القرن الثامن عشر حبا جما، لما وجدوا فيها من لذة أرضت ميلهم لاستطلاع كل شيء والمجادلة حول كل شيء، وقد جاءت في الحوار بين فالكونيه وديدرو هذه المسألة: إذا سلمنا بأنه قد ثبت ثبوتا قاطعا أن اصطداما سيحدث في يوم معين في المستقبل غير البعيد بين الأرض ونجم مذنب، وأن الاصطدام سيحطم الأرض تحطيما تاما، فماذا يكون تأثير معرفة هذه الحقيقة في أعمال الناس؟ لا تأثير بالمرة في رأي فالكونيه، أما ديدرو فقد ذهب إلى الضد، وقال: إن التأثير يكون نكبة أي نكبة، فإن توقع هذه النهاية يقتل كل ما يبعث في الإنسان الرغبة في الإتيان بأي عمل عظيم أو خير، إن توقع النهاية للعالم يبطل كل شيء، فلا طموح ولا منشآت لتخليد ذكر ولا شعراء ولا مؤرخون، وقد يبطل قيام الحروب فنعدم النابهين من رجال الحرب، وينصرف كل إنسان لمعاشه يزرع حديقته ويغرس كرنبه،
31
وأوى الرجلان للفراش دون الاتفاق على رأي، وأبت عليهما المشكلة أن يغفلاها أو يغفلا عنها، فتابعا الجدال فيها بالرسائل، ودام ذلك عدة سنوات، وتشغل رسائل ديدرو وحده حول الموضوع أكثر من مائتي صفحة من الطبعة الجامعة مؤلفاته.
32
ومن رسائله ما هو في حجم الكتاب الصغير، ألا يلفت هذا النظر؟ فها هو ذا رجل برح به هم البشرية فجهد جهد المستميت، وانفعل انفعال المقتتل، وسطر مائتي صفحة أو تزيد ليثبت أن الناس لو تأكدوا من انتهاء العالم فلا تجيء من بعدهم أعقاب يذكرونهم بالخير أو بالشر، لاندفعوا توا في طريق الغواية والآثام.
والذي غاظ ديدرو من صاحبه أنه لم يحمل الموضوع على أي معنى من معاني الجد، أما هو فقد كاد أن يكون بالنسبة له أمر حياة أو موت، فأبى أن يدعه جانبا، وظلت المشكلة تشغل باله طوال حياته، وكانت إن هي تركته فليس هو لها بتارك، تقلقه أحيانا ويقلقها هو أحيانا أخرى، وبين آونة وأخرى نراه يكر عليها كرة جديدة عنيفة، يكر مثلا في كتاب (ابن أخي رامو)، وفي كتاب (الفسيولوجيا)، وفي «المقال في أقلاديوس ونيرون».
ولب المشكلة في الواقع هو المسألة المستعصية عن أسس الأخلاق والحياة الطيبة، وقد عرض ديدرو للأسس المصدقة مثل الإيمان بالله وبالبعث، وانتهى به التفكير إلى إنكارها، ولكن الأمر لم ينته عنده بذلك، فتساءل: وماذا يبقى للإنسان إن حرم ثواب الآخرة؟ وأي شيء يمنع الإنسان إن حرم ثواب الآخرة من أن يخلي نفسه وهواها؟ ولم يتعرض للعذاب من أجل الحق والعدل إن لم يوف أجره في دنياه أو في أخراه؟ ومهما أجاب العقل عن هذه الأسئلة فإن قلبه الرحيم ثبته في إيقانه بأن الفضيلة حق، هي حقيقة الحقائق، وأن سلوك طريق الفضيلة لا بد ملاق جزاءه، ولكنه لم يستطع أن يتصور إلا جزاء واحدا فقط، وهو رجاء خلود الذكر لدى الأجيال المستقبلة، ويتعجب ممن ينكر هذا فيقول: «ألا ترى أن رجاء خلود الذكر هو المشجع الوحيد والمعضد الوحيد والسلوان الوحيد في أيام الشقاء.»
33
وأيضا لو كان أسلافنا لم يقدموا شيئا من أجلنا، ولو كنا لا نقدم شيئا لأخلافنا، فإن ما تبتغيه الطبيعة للنوع الإنساني من كمال يذهب سدى،
34
ويقول أيضا: وبماذا يتأسى في ساعة الموت أولئك الفلاسفة أصحاب الاستقامة الذين وقع عليهم ما وقع من اضطهاد الحمقى والقسيسين الشنيعين والطغاة المسعورين إلا بأن تحامل خصومهم عليهم سيمحوه مر الأيام، وأن الخلف سيقضي لهم فيجزي أعداءهم بقدر ما جنى هؤلاء عليهم.
35
ومما له دلالته أن ديدرو يستخدم دائما في كلامه في هذه المسألة العبارتين: عاطفة الخلود الاعتداد بالخلف، فمن ذلك أن عاطفة الخلود والاعتداد بالخلف يحركان القلب ويسموان بالنفس: هما أصل كل شيء عظيم، هما الوعد الحق ليس دون غيره صدقا. وهكذا تجد أفكاره وعباراته دينية في روحها أو قل - مسيحية - وينبغي ألا يحملنا ما جرى به قلمه من الكلام على الاعتداد بالخلف بدلا من عبادة الله، وعلى رجاء خلود الذكر بدلا من رجاء الخلود في الآخرة، على أن نغفل الروح الدينية الكامنة في تفكيره وعباراته، وإليك هذا الابتهال: «أيها الخلف المطهر المقدس، غوث المضطر والبائس، أنت العادل، أنت الطاهر أبدا، أنت الذي تقتص للأخيار وتفضح المنافقين، أيها المعنى الحق المواسي، لا تذرني وحدي!»
ألا يصح أن يكون هذا ابتهال قسيس لربه؟ فقد جمع ديدرو المسألة كلها في قول سائر: إن الخلف للفيلسوف كالدار الآخرة لرجل الدين.
36
ولو قدر لديدرو أن يشهد الثورة الفرنسية لفهم نداء روبسبير للخلف، ولفهم أيضا لم سلم لوفيه أمره لقضاء الخلف، ولفهم كذلك الجيرونديين واليعاقبة، أولئك الرجال الذين توهموا أنفسهم مواطنين في لاتيوم والبلوبونيز فتحلوا بالفضائل الرومانية، وتكلفوا غير طبعهم لعلهم بذلك ينالون من تقدير الخلف ما لم يظنوا أنفسهم بالغيه لو بقوا على أصلهم،
37
ولفهم كوندرسيه خصوصا، ولفهم لم ظل وفيا لإيمانه وأعداؤه يقتفون أثره إلى حيث لقي حتفه، وصرح الآمال الواسعة التي رجاها من الثورة قد دك دكا، ولم اختطف لحظات قبل أن يدركه أعداؤه ليكتب رسالته الذائعة الصيت في معالم تقدم العقل الإنساني، إننا نعجب لهذا، ولكن ديدرو لو شاهد ذلك لما استغربه، ولو شاهده ديدرو في الأيام الأخيرة الرهيبة لقدر أن الرجل لم يكن يوما ما من حياته أكثر حاجة لسلوان الإيمان بقابلية الإنسان للكمال منه حينما واجه الموت، وحين رأى مع صورة الموت مشهدا آخر، مشهد الخلف والمستقبل، فزالت الرهبة وكان الأمن بعد الخوف. «إن مشهد الإنسانية، وقد أفلتت من عقالها، تسير قدما في طريق الحق والعدل والسعادة، يتأسى به الفيلسوف عما هو حاضر من ضلال وجرائم ومظالم تدنس العالم، وتصيبه شخصيا بأذى كبير، وإن في تأمل هذا المشهد لنعم ثواب الفضيلة، وهو الملجأ الذي ينسى فيه رجل الفضيلة ما أنزل به مضطهدوه - الملجأ الذي يعيش فيه مع بشرية استردت حقوقها وخلصت لها في طبيعتها، وينسى فيه البشرية الفاسدة تعذبها شهوات الجشع والخوف والحسد.» «وفي هذا الملجأ يحيا وأبناء جنسه الحياة الحقة، يحيا وهم في جنة أنشأها عقله وزينها حبه الإنسانية بأصفى المتاع وأخلص السرور.»
38
ولنذكر جيرونديه أعلى صيتا، تلكم هي مدام رولان، ولا أظن أحدا استمسك بدين الإنسانية بإيمان أثبت مما استمسكت، أو عمل به بأمانة أكبر مما عملت، أو وجد عند الموت التأسي به أصدق وأفعل مما وجدت، وفي مقتبل العمر ضاقت الفتاة بالمنزل الخانق عند الجسر الجديد، حيث كانت تقطن مع أبيها الحفار الصانع الصغير، وأخلق بها أن تضيق بذلك الجو؛ إذ كانت في اتصال دائم وثيق بحكماء التاريخ وأبراره، فكانت - كما تقول - لا تقرأ عن عمل من أعمال البطولة أو الفضيلة إلا وشعرت في نفسها القدرة على أن تأتي بمثله، لو قدر لها أن تواجه بما أدى إليه، وكانت كثيرا ما تبكي لأن الحظ لم يقسم لها أن تولد أسبرطية أو رومانية، موقنة أنها لو كانت في مقام سقراط لتجرعت السم كما تجرع، أو لو كانت في مقام ريجيلوس لوفت بالعهد وعادت إلى قرطاجنة كما عاد، ولكن أنى لها هذا، أين الجسر الجديد من روما وأثينا؟ كان عليها أن تبدأ بنفسها وتستكمل شخصيتها، ولكن أين تجد هذه الشخصية المستكملة المكان الذي تستطيع فيه أن تتحرك وتتكلم، وتعمل على النحو اللائق بها؟ أين تجد المكان الذي تستطيع أن تتحدث فيه إلى من يفهمون حديثها؟ أين تجد المكان الذي لا يذهب فيه السعي سدى، بل تجد فيه البطولة والتضحية حقهما من الثواب والشكر؟ هذا المكان لا يوجد قطعا في باريس، وإنما يوجد في عالم التاريخ، عالم بلوتارك وجان جاك في عالم الخيال، وفي هذا العالم وحده يوجد الذين يرون مدام رولان كما رأت هي نفسها، وعاشت في عالم الخيال هذا مدام رولان - الإنسان الكامل الذي صورته مدام رولان - ما عاشت إلى أن هيأت لها الثورة من حيث لم تحتسب ولم تقدر أن يكون لها نصيب كبير في أحداثها، وكان هذا أمرا مقضيا، ولكن لم يتح لها العمل في الواقع إلا أشهرا معدودات تلاها الاضطهاد والسجن وانتظار الموت، وذكرت حينئذ أن الاستشهاد هو وحده الخاتمة الخليقة بمن يطلبونه، وتذكرت في السجن موت سقراط ونفي أرستيدس
39
وإعدام فوكيون،
40
واعتقدت أن القدر شاء لها أن تشهد جرائم مماثلة للجرائم التي ارتكبت في حقهم، وأن يكون لها حظ من المجد الذي نالوه من جراء الاضطهاد الذي أنزل بها وبهم.
وانصرفت في سجنها لكتابة مذكراتها؛ إذ ماذا للسجين أن يصنع خيرا من أن يستبدل بالحياة في السجن حياة أخرى بوسيلة ما من وسائل الخيال والأحلام السعيدة أو الذكريات؟ وأي شيء خير من هذا حقا؟ ويجوز إذا ضيقنا دائرة النظر ألا نرى إلا جانب الفشل في مغامراتها القصيرة الأجل في طريق الثورة، وأن موتها وحياتها كانا على حد سواء من حيث الأهمية، ولكننا إذا نقلناهما من المجال الشخصي الضيق إلى مجرى التاريخ، ووصلناهما بما سبقهما وبما لحقهما، تبينا أن حياة مدام رولان وموتها كانا مما قضى به سلطان نافذ في شئون البشر: الله أو هيئة معبودات المصير الثلاث
41
أو أي قوة من قوى الخير تشغل نفسها بمصير الإنسان.
ومدام رولان نفسها كانت متحققة من ذلك، وهي لما استعرضت ما مضى من عمرها أيقنت أنه كان إعدادا للتضحية الأخيرة على مذبح حرية الإنسان ، وأنه حين تحضر ساعة الموت ويحق عليها أن تذوقه، فلن تكون حينئذ حسرة؛ إذ هو قضاء محتوم، وهو أيضا حدث أكبر من موت امرأة اسمها مانون رولان في مدينة من المدن وفي يوم من أيام الزمان، وأنه سيجيء بعد الجيل الذي عذبها هذا العذاب جيل آخر يعرف لها ما لقيت من أجله، ويكتبها عنده في كتاب الشهداء، وكانت تؤمن بخلود الذكر عند الخلف، وقالت: إن رولان (أي زوجها) لن يموت ذكره، وأنا أيضا سأنال شيئا من هذا الخلود، وحينما أتمت مذكراتها سمت الكتاب «دعوة خالصة لتحكيم الخلف»، وقال بوسك
42
الذي تولى نشر المذكرات: «إن المواطنة رولان التمست في تقدير الخلف ما يعوضها عن ظلم معاصريها لها، وفي رفعة الذكر ما يعوضها عن موت عجلوا لها به.» فالخلف بالنسبة لها كما هو بالنسبة لديدرو بمثابة الدار الآخرة للمتدينين، وكان لها من رجاء الخلود مثل ما كان للشهداء في سبيل النصرانية، وكان هذا الرجاء سندها حينما صعدت الدرج إلى المقصلة بقدم ثابتة، ورفعت عينين غير هيابتين نحو السكين المعد الذي لا ينبو ولا يرحم.
43
4
لاحظ دي توكفيل منذ نحو قرن من الزمان أن الثورة الفرنسية كانت ثورة سياسية، ولكنها اقتبست من مناهج الثورات الدينية خطط العمل والأساليب، واكتسبت في بعض نواحيها خصائص الحركات الدينية، فتدفقت كما فعل الإسلام أو الثورة البروتستنتية عبر الحدود بين الممالك والشعوب، وانتشرت بالتبشير والدعوة، واتخذت لتحقيق غاياتها في هذه الحياة الدنيا نفس ما اتخذته الثورات الدينية من مناهج وأساليب ووسائل لتحقيق غايتها في الحياة الأخرى، وراعت في اعتبار المواطن صفته الإنسانية لا انتسابه إلى أمة معينة، وهي في هذا كالأديان لا تعرف إلا مطلق إنسان، بغض النظر عن ظروف الزمان والمكان، ولم تسع الثورة الفرنسية لتقرير حقوق خاصة بالمواطنين الفرنسيين، بل سعت لتقرير حقوق الإنسان وواجباته أينما كان، مما دل الناس على أن الثورة تعمل على أن تجعل من النوع الإنساني خلقا جديدا أكثر مما تعمل على إصلاح أحوال الأمة الفرنسية، وقد ترتب على اكتسابها هذا النظر أنها بعثت في أنصارها وفي خصومها على السواء من الانفعال والحدة والحمية ما لم يعهد له مثيل من قبل في أشد الثورات السياسية عنفا، كما أنها بعثت في أنصارها رغبة قوية في اكتساب الشعوب الأخرى إلى مبادئها، وأدى هذا إلى فكرة الدعوة وتنظيم الدعوة، وبهذا كله اكتسبت الثورة الفرنسية خصائص الثورات الدينية، مما أدهش معاصريها، بل وأكثر من هذا تحولت فعلا إلى ثورة دينية من نوع جديد، قد يقال عنها إنها ثورة دينية من نوع ناقص، فهي لا إله لها - ولا عبادات ولا حياة أخرى، ولكنها مع هذا وعلى نحو ما فعل الإسلام ملأت العالم جندا ورسلا وشهداء.
44
وقد مرت ملاحظات دي توكفيل هذه بمعاصريه دون أن ينتبهوا إلى عمق مراميها، والواقع أن انهماكهم في تسوية مسائل عصرهم السياسية، واختلافهم على صحة العقائد الدينية التقليدية شغلاهم عن فهم روح الثورة على الوجه الحق، وبقيت الحال كذلك حتى أيامنا؛ أي حينما ابتعد المؤرخون عن المباحث الدينية التقليدية، ابتعادا صاروا به أكثر استعدادا من ذي قبل لكي يدركوا اكتساب الثورة الفرنسية - وبخاصة في أطوارها الأخيرة - خصائص الحرب الدينية، وهذا كله مسلم به اليوم، وقد تعلمنا من مباحث ماتييه - وأولار
45
وتلاميذهم أن الثورة حاولت فعلا أن تستبدل دين الإنسانية الذي أنشأه القرن الثامن عشر بالدين التقليدي، وأن الدين الجديد على الضد مما زعم دي توكفيل لم يكن بلا إله، ولا عبادات، ولا حياة أخرى، أجل كان للدين الجديد عقيدته: هي مبادئ الثورة المقدسة - الحرية والمساواة المقدستان، وكانت له عبادات وطقوس هي طقوس العبادة الكاثوليكية معدلة في المواسم المدنية، وكان قديسوه هم أبطال الحرية وشهداؤها، وقد استمد الدين الجديد قوام حياته من حمية العاطفة، ومن الإيمان التصوفي بالإنسانية وبعثها خلقا جديدا، وبينما كان لويس السادس عشر لا يزال على عرشه، كان من رعاياه من وصف العقيدة الجديدة (متأثرا بروسو) كما يأتي:
إن دينا يقرر ألا يعبد المواطنون جميعا إلا الوطن والقانون، لهو في نظر العقلاء دين قيم، وفي هذا الدين يكون الملك الحاكم الأعلى كاهنه الأعظم، وفيه ينال من يموت من أجل الوطن المجد الأبدي والسعادة المقيمة، وفيه يكون فاسقا من انتهك حرمة القانون، ويأمر الملك الكاهن (الحاكم الأكبر) باسم الشعب الذي أجرم في حقه وباسم الإله الذي وضعنا جميعا تحت سلطان قانون واحد، فيلعنه اللاعنون جزاء وفاقا.
46
وأما عن المواسم المدنية، فقد بدأت بالاحتفال الأول بذكرى الاستيلاء على الباستيل، وكان الاحتفال في (14 يوليو سنة 1790) وبحركة إزالة الآثار المسيحية، وبالاحتفال «بالعقل» في نوفمبر 1793 - وكانت هذه خطوات تجريبية تمهيدية لاستبدال دين مدني - إن جاز لنا أن نقول - بالمسيحية، ويطلق عادة على احتفال نوفمبر الاحتفال بالعقل، وبسبب هذه التسمية لوحظ أن اختيار سيدة من سيدات المسرح لتكون رمزا لشيء تجريدي بارد كالعقل، لم يكن اختيارا موفقا تماما، ولكن في الواقع أن الاحتفال لم يكن بالعقل، وإنما كان بالحرية، وأن السيدة المشار إليها كانت في الحقيقة تمثل الحرية (فيكون إذن الاختيار في محله)، أما تمثيل معنى العقل فكان بالمشعل الذي رفعته السيدة في يدها إلى أعلى، والمقصود أن العقل نور تمشي به الحرية، ومهما يكن، فإن الأنشودة التي وضعها الشاعر ماري جوزيف شينييه للاحتفال وترنم بها المحتفلون في كنيسة نوتردام بعد تجريدها من آثار المسيحية تعبر أصدق تعبير عن المقصود.
قال الشاعر:
اهبطي أيتها الحرية، وليدة الطبيعة، فها هو ذا الشعب وقد استرد لك قوتك الخالدة، يقيم لك من جديد مذبحا على أنقاض دولة الدجل ذات المظهر الفخم، أقبلي يا محطمة الملوك، يا قدوة أوروبا بأسرها، أقبلي وأتمي تحطيم الآلهة الكاذبين، أقبلي واسكني في هذا المعبد، وكوني إلهة هذا الشعب.
47
ومع ذلك فقد عيب على احتفال نوفمبر - وهذا لأسباب ليس هناك ما يدعو لأن أقف لبحثها - أنه غلب عليه «الإلحاد»، والإلحاد كما يقول روبسبير عيب أرستقراطي لا يمكن اغتفاره، وعلى هذا رسمت الحكومة في مايو سنة 1794 بتحديد أوضاع الدين الجديد، وأطلقت عليه عبادة الكائن الأعظم كما يلي:
تشهد الأمة الفرنسية أن الكائن الأعظم موجود، وأن النفس خالدة، وتشهد أن العبادة الخليقة بالكائن الأعظم هي أن يؤدي المواطن واجبات الإنسان، وتعين في الصف الأول من هذه الواجبات بغض الخيانة والطغيان وإنزال العقاب بالطغاة والخونة وعون البائس واحترام الضعيف والذود عن المظلوم، وأن يفعل لغيره كل خير ممكن، وألا يظلم أحدا، وتقرر الأمة إنشاء مواسم لتذكر الناس بالإله وبجلالة قدره، وأن يطلق على هذه المواسم أسماء تؤخذ من حوادث ثورتنا المجيدة، ومن أحب الفضائل وأنفعها لبني الإنسان ومن نعم الطبيعة الكبرى عليهم، وتقرر الأمة الفرنسية أن تحتفل الجمهورية كل عام بذكرى 14 يوليو 1789 و10 أغسطس 1793 و21 يناير 1793 و31 مايو 1793، كما تحتفل عاشر كل عشرة أيام بالمواسم الآتي بيانها.
48
ولا حاجة بنا إلى أن ننقل هذا البيان، وقد نص كما كان ينبغي له على الاحتفال بالحرية والمساواة وحب الوطن وبغض الطغاة والتزام حد الكفاف ورباطة الجأش والزراعة والخلف؛ وهكذا إلى آخر ما يلزم جميع عشرات السنة؛ أي ستة وثلاثين موسما، وبعد أن أنفذت الثورة فورتها فقد دين الإنسانية الجديد الشيء الكثير من حرارة عاطفته وحدة غلوائه، ولكنه مع ذلك ظل قوة لها أثرها في بعض الحركات الثورية الصغيرة في أوروبا وفي العالم الجديد، وكان لدين الإنسانية صحوة أخرى قوية سبقت وتخللت ثورات سنة 1848 وما لازمها من إخفاق وجلال معا، بل إن دين الإنسانية على الرغم من كل ما أصابه، بقي له أولياء أمناء على العهد يخلب لبهم رواؤه، وتمدهم روحه باليقين والرجاء، وكان مازيني نبي هؤلاء،
49
كما كان منهم رجال مغمورون قص علينا جبريل مونو طرفا من سيرة واحد منهم، والسيرة تسترعي النظر، قال: «كنت منذ أربعين عاما أتردد على منزل امرأة فاضلة لتناول طعامي، وحدثتني عن أبيها حديثا لم أنسه، قالت: إن أباها كان عاملا بسيطا في مدينة نانت، وحينما بدأت الثورة الفرنسية كان شابا في مقتبل العمر، واعتنق مبادئها وتحمس لها وحارب في صفوف اليعاقبة ضد الخارجين على الثورة من أبناء إقليم لافانديه، وحزن كثيرا لما حطم النظام الإمبراطوري الحريات الديمقراطية التي اشترتها الأمة الفرنسية بثمن غال، وعاش الرجل بعد ذلك، وكان كلما ثارت الأمة الفرنسية كما في 1814 و1830 و1848 تحرك فيه الأمل بأن الجمهورية المثالية التي كان يحلم بها في سنة 1793 سوف تبعث من جديد، ومات في عهد الإمبراطورية الثانية، وقد نيف على التسعين، ولما حضره الموت نظر نحو السماء، وتأوه قائلا بصوت خافت: أيا شمس 1793 ها أنا ذا أموت دون أن أرى شعاعك ثانية، وقد عاش الرجل ما عاش وهو يتطلع - كما عاش المسيحيون الأوائل - إلى انبثاق فجر العهد الجديد.»
50
وهذه الحكاية بلا شك حسنة السبك، لم تفقد شيئا من روائها عند الإعادة، على أنها تشرح بما فيه الكفاية كيف صاحب دين الإنسانية الذي ولد في القرن الثامن عشر الانقلاب السياسي الاجتماعي الذي تم تدريجا في خلال المائة العام التالية للاستيلاء على الباستيل، وكيف كان من العوامل المؤثرة في ذلك الانقلاب، على أنه لا ينبغي أن نغفل أن الانقلاب لم يتم دون شيء من الترخص في حق مبادئ الثورة، ودون شيء من التساهل عند تطبيقها، وهذا الشيء من الترخص والتساهل لم يكن قليلا ولا مستورا، وأن مدام رولان لو قدر لها أن تنظر بعين الغيب إلى ما سيكون من أمر الجمهورية الفرنسية الثالثة، وإلى ما بينها وبين الجمهورية المثالية من فرق ما بين المثل الأعلى الباهر والواقع الخسيس، وإلى أن الجمهورية الثالثة كانت في الحقيقة من إنشاء الملوكيين لما اختلفوا فيما بينهم، وإلى أنها كانت ذلك الشيء الذي لا يصح في الأفهام، جمهورية بلا دستور جدير بالاسم وبلا إعلان لحقوق الإنسان غير القابلة للتقادم، لو قدر لمدام رولان أن ترى كل هذا لصعدت درج المقصلة بقدم أقل ثباتا، وهذا مازيني لم يستطع أن يحمل نفسه على أن يصدق أن ما ناله كافور لإيطاليا بالألاعيب السياسية وبالحرب وبعون من نابليون الثالث الذي سحق الحرية في فرنسا بقدمه يمكن أن يكون تحقيقا للأماني الإيطالية،
51
وكذا بالنسبة لألمانيا، أن ما ناله الشعب الألماني وهو في ذاته لا يجاوز حق إلقاء الخطب واتخاذ القرارات في الريشتاج (ولم يكن هذا غنما كبيرا)، لم ينله ثمرة جهد مؤتمر فرانكفورت في 1848، وإن كان هذا الجهد لم يتعد إلقاء الخطب واتخاذ القرارات، بل ناله بفضل سياسة الدم والحديد التي اتبعها بسمارك،
52
وهو لم يكن ممن يؤمنون إطلاقا بالديمقراطية، وإنما وافق على منح الشعب حق التصويت العام، مزايدة على الديمقراطيين، وكشفا عن خبيئتهم، فكان ما فعل نقلة من نقلات منازلة الخصوم السياسيين.
أيمكن أن نقول إذن إن الإمبراطورية الألمانية أو الجمهورية الفرنسية الثالثة أو المملكة الإيطالية أو الحل الوسط الذي اتفق عليه ألمان النمسا والمجر ليسودوا سائر شعوب الإمبراطورية الثنائية أو حق التصويت في إنجلترا لأرباب الأسرات، ليتلهى به المستأجرون في الملكيات الزراعية الموقوفة، أكانت هذه المغانم المشكوك في قيمتها ومثيلاتها كل الجزاء الحق الذي وفاه الخلف، وهو كاره غير راض، وبعد قرن عمت فيه الاستنارة في العالم كله، أولئك الشهداء والدعاة المخلصين الذين بذلوا ما بذلوا في سبيل العقيدة الديمقراطية؟ أجل إن الانقلاب العظيم على الوجه الذي تم عليه كان خيانة لآمال الأنبياء الذين بشروا به: روسو وكوندرسيه وروبسبير ومدام رولان ومازيني وكوشوط
53
ومن إليهم، ولكن ألا يصح أيضا أن نقول: إن هؤلاء الأنبياء غلوا من جانبهم وجاوزوا حد المعقول؟ ألا يصح أن نقول: إن الأنبياء حينما تصوروا أن ميل الإنسان للشر لا يلبث أن يزول بزوال النظم التقليدية التي هيأت للشر مجالا للعمل كانوا واهمين؟
وعلى كل حال فالشيء الثابت الذي تبينه الناس قبل انتهاء القرن التاسع عشر هو أن إزالة الظلم القديم والجور القديم لم تؤد في الواقع أكثر من الإفساح لظلم جديد وجور جديد، وأن الناس لما تحققوا من أن الحكومة الديموقراطية على ما هي عليه من تلويث وقهر، لا تزيد على أن تكون نوعا من الحكم أقرب إلى السوء منه إلى الجودة، أصبح الراضون منهم عن عيشهم عديمي التأثر بما كان لتلك الكلمات الخلابة فيما سلف من الزمان «الحرية والإخاء والمساواة» من قوة على بعث الرجاء في النفوس، وأن دين الإنسانية الذي أنشأه القرن الثامن عشر أصابه ما أصاب جميع الأديان بعد أن تبلغ رسالتها، فنزل في نظر الكثيرين إلى مستوى العقائد التقليدية العديمة الروح.
قلنا: إن الراضين عن عيشتهم من الناس عدموا التأثر بالحرية والإخاء والمساواة، وأما الساخطون فإنهم نبذوا العقيدة الديمقراطية ليتبعوا المبشرين بدين جديد، «أيها العمال من جميع الشعوب اتحدوا»، كان هذا نداء كارل ماركس وفردريش أنجلز في منشور الدعوة الشيوعية المشهور.
54
وكان هذا آذنا ببدء المعركة في سبيل دين اجتماعي جديد، والعقيدة الشيوعية أسست هي أيضا على قوانين الطبيعة كما دل عليها العلم، مثلها في هذا مثل دين الإنسانية في القرن الثامن عشر، إلا أن العلم منذ ذلك القرن كان قد تقدم خطوات، كانوا في القرن الثامن عشر يعتبرون الطبيعة آلة دقيقة التركيب، آلة ثابتة يقتضي نظامها وجود مهندس يفعل لغاية، وهو العلة الأولى الخيرة أو موجد الكون، وجاء هيجل
55
فاستحال موجد الكون إلى فكرة رقيقة، إلى المثال المتعالي، المثال المطلق الرقيق، ثم جاء داروين فانمحى هذا تماما، ومنذ ذلك الوقت والنظرية العلمية تستغني عن فكرة وجود الله وما يماثلها من الفكرات التي استعيض بها عنها، ويرجع ذلك إلى أن الطبيعة عند أصحاب العلم لا تعتبر آلة تامة الصنع، بل يعتبرونها عملية لا تتم، عملية آلية حقيقة، ولكنها تولد من تلقاء نفسها القوة التي تلزمها، وعلى أساس من جدل هيجل ونظريات داروين في التطور صاغ هيجل في كتاب «رأس المال» عقيدة الدين الشيوعي الذي حل عند الساخطين محل العقيدة الديمقراطية التي دان لها القرن الثامن عشر، والدين الجديد كالدين القديم ينظر نحو الماضي وينظر نحو المستقبل، فالماضي بالنسبة للشيوعية، كما هو بالنسبة للديمقراطية، كان زمان صراع مستديم، والمستقبل بالنسبة لهما جميعا عهد للإنسانية جديد، ولكن الشيوعية أقل تجسيما من الديمقراطية وأقل تشبيها وأقل توكيدا لأثر الفرد من بني الإنسان في الأحداث العامة، فهي لا تحلم بجنة عدن كانت أو بعصر ذهبي كان، وهي لا تقرأ على صفحات التاريخ غدر الأشرار، تعمد دائما بالفضلاء، وهي لا تؤمن بأن بعث خلق إنساني جديد سيتم بانتشار النور وطيب الطوية؛ وما إليها من أنواع العلاج اللين المترفق، بل على الضد من هذا وذاك كان الماضي حربا عمياء لا هوادة فيها ولا رحمة بين قوى مادية لا بين أشخاص، حربا تحركها المصالح الاقتصادية للطبقات وللطوائف، وقد تولد من حرب المصالح نظام الأرستقراطيين أصحاب الأرض في العصور الوسطى، ثم حطمت حرب المصالح هذا النظام، وأحلت محله النظام الرأسمالي البرجوازي الذي بلغ أشده في القرن التاسع عشر، وسوف تحطمه بدوره لصالح البروليتاريين، ولن يتم هذا الانقلاب الاجتماعي من الرأسمالية للبروليتارية بفعل انتشار الاستنارة وطيب الطوية، بل بفعل القوى الاقتصادية التي لا تني ولا تبطل، أما والأمر كذلك فليس للعقل إلا أن يعي هذا، وأن يجهد ليفهم فعل تلك القوى حق الفهم، وليس للناس إلا أن يوطنوا أنفسهم على ما لا يمكنهم أن يلووه عن قصده، وخير لهم أن يوجهوا حياتهم تبعا لتطور محتوم، وماذا تستطيع أن تنشئ إرادة الإنسان الضئيلة بالنسبة إلى ما تستطيعه النجوم في مسالكها؟ فهذه لا تلك هي التي ستحدث الانقلاب الاجتماعي، وليستبشر العامة بعهد موعود ينظرون إليه موقنين آملين.
والآن، وفي أيامنا، وفي روسيا، أقاموا المشهد الأول من مشاهد الانقلاب الاجتماعي القائم على العقيدة الشيوعية، وبين هذه الثورة الروسية والثورة الفرنسية بلا شك فروق عديدة، كما أن بين العقيدتين الديمقراطية والشيوعية فروقا، ولكن الذي ينبغي أن نلتفت إليه ليس الفروق بل الاتفاق، فالفروق في أغلب الظن تتضاءل إذا ما نظر إليها من بعيد، وأما الاتفاق فهو على الأساسيات، والواقع أننا نحن ورثة الثورة الفرنسية حين نعجز عن ملاحظة ما بين تلك الثورة والثورة الروسية من اتفاق، فإنما يرجع ذلك إلى أن الاختلاف بينهما في تسمية الأشياء يخدعنا (فمثلا حيث استخدمت الثورة الفرنسية «الشعب» تستخدم الثورة الروسية «البروليتارية»، وحيث تقول الأولى: «أرستقراطية» تقول الأخرى: «بورجوازية»، وحيث تتحدث الأولى عن الملوك تتحدث الأخرى عن «النظام الرأسمالي وهكذا.) هذا ومما يجعلنا أكثر استعدادا لأن ننخدع أننا ورثة الثورة الفرنسية سنكون «المجني عليهم» إذا ما قدر للثورة الروسية أن تملك العالم الغربي، وما مثلنا في هذا الشأن إلا مثل رامو في قصة ديدرو حين يقول: فليستول الشيطان على أفضل عالم ممكن إن لم يكن لي حظ فيه، فإذا ما ملنا لمشاركته في رأيه هذا كان ذلك لعلة مفهومة، والثابت - على كل حال - أن هذه الثورة الروسية التي تهددنا تعمل لأجل طبقات المحرومين كما عملت الثورة الفرنسية على تحطيم الطبقات المالكة لنرثها نحن، وليست أهدافها بأقل من تثبيت دعائم الحرية والمساواة (الحرية والمساواة الحقيقيتين هذه المرة بطبيعة الحال)، وإحلالهما محل الطغيان والاستغلال، والثورة الروسية اتخذت متعمدة لبلوغ غايتها نظاما يصفونه بأنه مؤقت، ولكنهم يعدونه ضروريا، ألا وهو ديكتاتورية الأمناء على الثورة، وهذا يماثل تماما ما اتخذته الثورة الفرنسية في 1793، والبلاشفة الذين يقودون مجلس الوكلاء، واليعقوبيون الذين قادوا لجنة إنقاذ الوطن، أولئك وهؤلاء يعتبرون أنفسهم الأدوات التي شاءها القدر لإجراء انقلاب ينتهي حتما إن عاجلا أو آجلا بهدم ما بين الشعوب من فواصل مصطنعة، فيتحد المظلومون قاطبة في وجه جميع ظالميهم، وقد أعلن إيزنار
56
في 1792:
إن جمعت الحكومات الملوك ضد الشعب، فإننا سنجمع الشعوب ضد الملوك.
وعلى هذا النحو كانت دعوة الزعماء البلاشفة - محتذين حذو ماركس - عمال العالم للاتحاد ضد جميع الحكومات البروجوازية الرأسمالية، والثورة الروسية أشبه ما تكون بالثورة الفرنسية في أن زعماءها وقد تلقوا ألواح الشريعة الأزلية لا يعدون الثورة مجرد وسيلة للإصلاح السياسي والاجتماعي، بل يعتبرونها شيئا أهم من هذا كثيرا؛ إذ هي في نظرهم محاولة لتحقيق نسق حياة صالح لكل زمان ومكان، بموجب انسجامه مع العلم والتاريخ، وهو بناء على ذلك لا بد غالب؛ وعلى هذا فللثورة الروسية كما كان للثورة الفرنسية عقيدتها وطقوسها وقديسوها، فأما العقيدة فهي نظريات ماركس بتأويل لينين،
57
وأما المواسم التي تحييها فهي أيام الثورة الكبرى، وأما قديسوها فهم الأبطال والشهداء الذين رفعوا لواء الشيوعية، وتحتل صورة لينين في بيوت المؤمنين المكان الذي احتلته سابقا الأيقونات المسيحية المقدسة، وكل يوم يحج إلى قبره العاملون من أبناء الشعب في بناء النظام الجديد، كما كانوا يحجون سابقا إلى الآثار المقدسة، وثم جانب آخر للاتفاق فيما بين الثورتين ذلك أن الثورة الروسية تثير في عقول - أو بالأحرى - في صدور أعدائها ما أثارت الثورة الفرنسية في خصومها من بغض ونفور لا يستندان إلى العقل بقدر استنادهما إلى الشعور، وهذا الشعور بالنفور والبغض يتكون في حالة الثورتين من الخوف والغضب، وهو في الحالتين أيضا يتنبه آليا حينما تذكر كلمات معينة، فكانت كلمات الثورة واليعقوبية والجمهورية في نظر كاسلريه ومترنيخ
58
وأمثالهما من الساسة في مؤتمر فيينا سنة 1815، تحمل معاني الشر المطلق متمثلة في وقائع معينة، وكلمة الثورة عند التخصيص كانت تنصرف إلى الثورة الفرنسية في 1789، ولكنها أصبحت ذات مدلول عام، تفيد الثورة إطلاقا؛ إذ إن الثورة الفرنسية في نظرهم مثال فكرة الثورة، وفكرة الثورة في نظرهم فكرة الهدم، فكرة الإنكار والسلب، وروح الإنكار المستديم تتجلى في الفوضى في الحكومة وفي الإلحاد في الدين، والثورة هي اليعقوبية، واليعقوبية هي الجمهورية، والثابت على كل حال أن المعاني الخيالية التي عبرت عنها هذه الكلمات قلبت أوروبا رأسا على عقب زهاء ربع قرن من الزمان، واستشهد الرجعيون بهذا لتأييد ما ذهبوا إليه من أن تلك المعاني مستحيلة التحقيق، وأنها خطر يهدد الأوضاع المقررة والأمن والرخاء وخير الإنسان، وهذا بالضبط ما يقوله نظراء كاسلريه ومترنيخ في أيامنا عن البلشفية، فهي في نظرهم عدو كل عقدة، فهي لهم ما كانته اليعقوبية لرجال 1815، وتحمل كلمة السوفيت وكلمة الشيوعية لنا - ورثة الديمقراطية السياسية - من معاني الإنذار بالويل والثبور ما حملته كلمة الجمهورية لورثة عهد الملوك والأرستقراطيين.
ولو قدر لكاسيلريه ومترنيخ أن يطلعا في سنة 1815 بعين الغيب على ما تحقق قبل نهاية القرن التاسع عشر من غلبة العقائد اليعقوبية التي نعتوها بالفوضى والإلحاد على الأوضاع الموروثة عن الملوك والأرستقراطيين في العالم الغربي بأسره لهالهم هذا هولا شديدا، وخليق بنظراء كاسلريه ومترنيخ اليوم، بل خليق بنا نحن - معشر الذين لا يصرفون شئون الحكم - أن نتساءل عما عسى أن يكون بعد مائة سنة، ترى أتكون كلمة الدين الجديد هي العليا (ولتسم هذا الدين ما شئت؛ دين الإنسانية أو دين اللا إنسانية!) ترى أتعلو كلمة هذا الدين؟ بغض النظر عما إذا كان هذا سيتم تدريجيا، وبغض النظر عمن أو عما يتولى الوقوف ضده، وبغض النظر عن ترخص الشيوعيين وتساهلهم مع خصومهم، وبغض النظر عما إذا كانوا سيخففون من غلوائهم وتعصبهم وبطشهم بأعدائهم، ليس هذا بالمستحيل، ومائة سنة ليست بالمدة القصيرة، بل إننا نسمع الآن هنا وهناك، بل وفي معقل الرأسمالية كلاما عن إفلاس نظام التنافس المطلق، وتدور بين الناس اقتراحات وآراء شتى قد تكون في ذاتها مترددة متهيبة، ولكنها تدل على أن أصحابها ممن يرون لزوم تنظيم الحياة الاقتصادية وتوجيهها.
وهذه الكلمة «التوجيه» من الكلمات التي بدأ استعمالها، وقد بدأ ذلك دون أن يتنبأ الناس كثيرا لكل ما تحمل من معان، وحتى الآن لم يذهب القائلون بالتوجيه بعيدا قولا أو فعلا، بل كل ما هنالك بوادر، فمن ذلك ما اقترحه أحد كبار المواطنين من وجوب إزالة ثلث صفوف القطن في كل حقل من حقوله، ومن ذلك أيضا ما حدث في بعض الولايات الأمريكية من استعانة حكامها بالجيش في الإشراف على استخراج الزيت، وهذه أمثلة فردية للتوجيه، وليست نظاما إنشائيا للتوجيه، ولكنها هي وأمثالها وما صحبها وأمثالها من خوض في موضوع التوجيه، وما فعله أو يفعله كبار أصحاب المناصب في نطاق شئون الحياة الاقتصادية، يدل على الأقل على أن هناك شعورا بأن مجتمعنا وقد أصاب ما أصاب اليوم من التقدم في استعمال الآلات، وملك ما ملك اليوم من موارد القوة هو أحوج إلى الإشراف والتوجيه منه إلى الحرية، وأن النظام الاقتصادي اللائق به لهو النظام الذي يقوى فيه جانب التوجيه، ويضعف تبعا لذلك جانب إطلاق المنافسة، ومهما يكن من أمر فلا يزال في الوقت فسحة، ومائة سنة ليست بالشيء القليل، وقد يحدث في أثنائها أن يعم النظام الاقتصادي الموجه - ولنسمه كذلك أو لنسمه الشيوعية - العالم الغربي بأسره، تبعا لإيقان الشعوب بأنه النظام الوحيد الذي يحقق للإنسان عدالة اجتماعية وأمنا ورخاء وخيرا، إن كان هذا هو الذي يضمره الغيب لنا فليس بمستبعد أن الخلف في سنة 2032 سيحيي ذكرى حوادث نوفمبر 1917، على اعتبار أنها كانت مبدأ تحول سعيد في تاريخ الحرية الإنسانية، وهذا يماثل احتفالنا سنويا بيوليو 1789.
وبعد فما الرأي الذي يجب أن نراه في يوليو 1789 ونوفمبر 1917 وما إليهما من «أيام» الإنسانية الكبرى؟ هل هي بوادر الاقتراب من الأوتوبيا؟ وما السؤال الذي يجب أن نقف عنده؟ أيجوز لنا أن نرى في الثورة الروسية في القرن العشرين مرحلة أخرى من مراحل تقدم الإنسانية نحو الكمال، كما كانت الثورة الفرنسية في دورها مرحلة من مراحله؟ أو يجوز لنا أن نقول ما قاله ماركس أورليوس: «إن الرجل في سن الأربعين - إن كانت له حبة من الفطنة - يكون قد رأى بموجب ما بين الأشياء كلها من مماثلة كل ما كان وكل ما سيكون؟»
Unknown page