حمدا لمن رقى مدارك الإنسان، ترقية أفضت إلى تقدم العمران، فولد عقله الاكتشافات الجديدة، والاختراعات المفيدة، والعلوم الزاهرة النافعة، والفلسفة الحقيقية الساطعة، فسن النواميس والشرائع، ووضع كل مفيد نافع؛ لكي يرقي الناس قمة الكمال الأثيل، فيبلغوا ميناء سواء السبيل، ويخلعوا عن أعناقهم نير الجهالة الثقيل، فسيقا لمن يدرك الفلسفة الحقيقية ويسير تحت أعلامها، وتعسا لمن يغتر بالسفسطة ويرضخ لأحكامها.
أما بعد؛ فأقول: لقد حدثت في هذين العامين حركة فكرية سرت من أقصى الأرض إلى أقصاها؛ فأحدثت دويا هائلا في جميع أنحاء الغرب فاتصل صداها بالشرق، ولم تزل بين الناس موضوع جدال عنيف، ومنشئ هذه الحركة هو الفيلسوف الشهير والعالم الخطير الكونت تولستوي،
1
فإن هذا الرجل العظيم أدهش علماء أوروبا بفلسفته الصائبة وأفكاره الثاقبة فاعترفوا له بسمو المدارك، وأقروا بأنه من أشهر فلاسفة العالم، وأقبلوا على مطالعة كتبه وتعريبها إلى لغاتهم، وراجت مؤلفاته رواجا غريبا، وانتفع منها الناس نفعا أدبيا والكتاب نفعا ماديا، وقد كتب هذا الفيلسوف في مواضيع مختلفة، وتطرق إلى الكتابة في الدين فخالف بها عقائد الكنيسة الأرثوذكسية وخطأها، الأمر الذي حرك رجال الدين في روسيا عليه، والتأم أعضاء المجمع المقدس الروسي وأصدروا حكما عليه، وحرموه من الكنيسة كصاحب بدعة وضلالة، وكان لذلك الحكم رنة مؤثرة في جميع أنحاء روسيا كادت تفضي إلى شغب داخلي لولا أن تلافت ذلك الحكومة الروسية بالحكمة والتؤدة.
ومعلوم أن الجرائد والمجلات العربية كتبت المقالات الطويلة في هذا الشأن، وكلها عربت أقوال تولستوي عن الجرائد الإفرنسية والإنكليزية، وكان لتلك الأقوال وقع عظيم في نفوس قارئيها. فلما رأيت تلك الحركة العجيبة هزتني خدمة العلم لتأليف هذا الكتاب وتعريبه عن اللغة الروسية، وهو يحتوي على مختصر تاريخ حياة هذا الرجل العظيم، ووصف معيشته وآدابه وفلسفته وآرائه الدينية وردود رجال الدين عليها، وقد عزمت بعون الله على ترجمة كتبه ورواياته خدمة لأبناء اللغة العربية، وشرعت الآن بترجمة رواية «الحب والزواج»، فأرجو من جماعة المتأدبين، وأهل الفطنة والذكاء، أن يغضوا الطرف عما يرونه من الزلل؛ فإن العصمة لله وحده.
ولا بد لي في الختام من تقديم مزيد الشكر لحضرة خادم العلم والأدب إبراهيم أفندي فارس صاحب المكتبة الشرقية في القاهرة؛ لتفضله بطبع هذا الكتاب على نفقته، أدامه الله بدرا ساطعا في سماء المكارم والفضل.
سليم قبعين
الناصري
عن الناصرة في 25 ديسمبر سنة 1901 (الكونت ليون نيكولا يفتش تولستوي) «مستعارة من مجلة المقتطف البهية».
هوامش
Unknown page