يذكرنا بقول الصاحب بن عباد:
أهوى لتقبيل يدي
فقلت لا، بل شفتي!
وحيرة أمثال الشريف الرضي والصاحب بن عباد في أمثال هذه المواقف حيرة رهيبة، فكلا الرجلين عالم جليل، ولكن الحب كالموت لا يعصم منه البرج المشيد، والحصن المنيع، وقد يتقرب بعض الناس إلى مثل الشريف الرضي بتقبيل يمناه، فيود هذا لو قبل شفتيه، لأن الحب شغله عن الاحتفاظ بالعظمة، وقضى عليه بتقديس الجمال! وهنا يظهر بطش الحب وعدوانه حين يذهب بوقار العلم، وجلال الجاه، وغرور المال، ثم يسوي بين الأقدار، ريثما ينسى العالم علمه، والوجيه جاهه ، والغني ماله ، حتى إذا أنست تلك النفوس العاتية إلى هذه المساواة، عاد فميز أهل الحسن، ورفع أرباب الجمال، وصير المحبين أذلة، بالرغم من أنف العلم والجاه والمال! ويقول العرب: الهوى إله معبود، وإنهم لصادقون. غير أنه يحسن أن نعرف أن هذا الإله ليس برحمن ولا رحيم، ولكنه قهار جبار! ولولا الرحمة بضعفاء اليقين لأعطيت هذا البحث ما يستحقه من البيان، ولبينت للقارئ رأى الفلاسفة في مملكة الجمال، ولكن الدين في كثير من القلوب كالكرى في عين الخائف المذعور، يودي به مر الطيف وهبوب النسيم! والذين يختلفون في النظرة البريئة أحرام هي أم حلال، لا يعقلون كيف يكون الهوى إلها، وكيف يكون له ملائكة مقربون، من الشعور، والعيون، والخدود، والثغور، والنحور والصدور، وهم إن عقلوا هذه الألوهية فلن يعقلوا كيف يكون لها من كتاب الحب أنبياء مرسلون، بل كل محب عندهم ماجن خليع، قاتلهم الله أنى يؤفكون!
ونعود فنبين أن الشريف أجاد تصوير العتاب بقوله:
جاذبته طرف العتاب وبيننا
كبر الملول وذلة المملول
والمراد بكبر الملول عزة المعشوق، الذي تحدثه عن هجره وصده، فكأنما تسمعه هجر القول ولغو الحديث، فيتبرم ويتململ، ويود لو أرحته من حديث الحب؛ إذ كان الحسن يسد أذن الجميل، فلا يسمع الشكوى ولا يفقه العتاب، وما أبدع الغزل في قوله:
جذلان ينفض من فروج قميصه
أعطاف غصن البانة المطلول
Unknown page