Macqul Wa La Macqul
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
Genres
على هذا النحو يتصاعد النور، أو تتدرج صور الإدراك؛ حسا، فعقلا يصونه خيال، فبصيرة يوحي إليها، فتهتدي إلى الحق بالفطرة الملهمة. •••
سألت نفسي: أتكون هذه هي نفسها المراحل التي تنمو بها مدارك الفرد الواحد من الناس؛ تمتلئ حواسه بما يرى ويسمع ويلمس، فتغزر خبراته بما حوله، فيتناولها العقل بالتنظيم، مهتديا في ذلك بمبادئ جبلت في فطرته؟ بل سألت نفسي: أفيبعد أن تكون هذه الدرجات الإدراكية هي نفسها ما تميزت به عصور الثقافة الإنسانية؛ فعصر ثقافي كانت تسوده التجارب الأولية بالعالم المحيط وظواهره، فكان تعليله عند أهله بالأساطير، تلاه عصر انخرط فيه الفكر لينصب في قوالب وأطر هي التي يطلقون عليها اسم «العقل»، وكان ذلك عند اليونان الأقدمين، ثم أعقب هذا وذاك وحي بالمبادئ والقيم التي تمسك بثمرات العقل في شجرة واحدة، وكان ذلك في ديانات الشرق الأوسط التي انتهت إلى الإسلام؟
وإذا كانت هذه المراحل الإدراكية أمرها كذلك، فهل يجوز لي أن أترسم مدراجها في تتبع مسار العقل في التراث العربي؟ بمعنى أن ألتمس ذلك العقل في خواطر البداهة أولا، ثم في محاجات المنطق ثانيا، ثم في حدس الصوفية ثالثا؟ وقد تعود الدورة على هذا النحو مرة بعد مرة؛ وفرة في الحصاد، فتنظيم لذلك الحصاد الوافر، فتأمل فيما يجاوزه ويعلوه.
5
إن للفيلسوف البريطاني المعاصر ألفرد نورث وايتهد كتابا صغيرا هاديا ومفيدا، عن «أهداف التربية»، وقد حاول في كتابه هذا أن يقع على أسس مقنعة يقوم عليها تقسيم التعليم إلى مراحل يتلو ويكمل بعضها بعضا، فبحث أولا عما يميز الإدراك الإنساني في كل مرحلة عمرية، حتى إذا ما وجد تلك المميزات، جعلها مدارات للتربية، كل منها في مرحلته الخاصة، وبعد شيء من التحليل الدقيق الذي نعهده في كل ما أنتجه وايتهد من فكر، انتهى إلى مميزات ثلاثة تتعاقب على الناشئ في مراحل نموه؛ ففي البداية يكون التحصيل عند الطفل متميزا بعقوبة خلاقة، تمتد أصابعه لكل ما يصادفه، يحطم ويهشم ليملأ حسه بكل جوانب الشيء الذي يقع عليه؛ يلمس، ويذوق، وينظر، وينصت، يجري هنا وهنا ويتعثر ويستقيم، حتى إذا ما خرج من طفولته العفوية تلك، هدأ قليلا ليجمع القواعد التي تنظم له حصاده الغزير المهوش، وما إن تجتمع له مجموعة كافية من تلك القواعد في بضع سنين، تراه عندئذ يصبو إلى صعود فوقها إلى المبادئ العامة التي تطويها.
ومن ثم فقد كان الرأي التربوي عند وايتهد، أن تخصص المرحلة الدراسية الأولى لما يشبه التحصيل العشوائي الذي يتبدى في فطرة الطفولة، ثم تخصص المرحلة الوسطى (الثانوية) لما يشبه تقعيد القواعد، أعني إدراج الحصيلة الأولى تحت قواعد العلوم وقوانينها، وأخيرا تأتي المرحلة الأخيرة متمثلة في التعليم الجامعي، فتصب اهتمامها، لا على العلوم المختلفة من حيث هي مجموعات من قواعد وقوانين، بل على المبادئ الأعم التي تشمل تلك العلوم كتطبيقات لها، فالمبادئ العامة وحدها هي التي تتيح للفكر أن ينظر إلى المشهد كله بنظرة شاملة، تمكنه من أن يجاوي ويعلو عليه بما هو أكثر تقدما وتطورا.
ففي المرحلة الأولى فاعلية حرة مطلقة السراح، وفي المرحلة الثانية تحديد للملامح والقسمات، وفي المرحلة الثالثة اتساع في الأفق وبعد في مرمى النظر، في الأولى إدراك بالجملة على شيء من إبهام وغموض، وفي الثانية تفصيل للأجزاء وربط بينها بالعلاقات، وها هنا يكون التحليل لما هو مجمل، والضبط لما هو منساب على فطرته، والسير على منهاج يقيد الخطوات، أما في الثالثة فارتفاع إلى مبادئ يضم كل مبدأ منها قوانين أشتاتا تفرقت بين مختلف العلوم، ومن ثم تنشأ فكرة المعرفة الموحدة، والكون الموحد ويكتمل عند الإنسان مبدأ التوحيد.
بعبارة أخرى، يبدأ التحصيل بمشاهدة الوقائع لذاتها لا لدلالاتها، ثم ينظر إلى كل واقعة من حيث هي مثل لقانون علمي يطويها مع أشباهها في مجموعة واحدة، وأخيرا يلحق هذا القانون مع قوانين أخرى تتصل به بمبدأ يحتويها جميعا، كأنها أفراد أسرة واحدة.
ولعل أوضح مثل لهذا التدرج في الإدراك كما يراه وايتهد هو اللغة، وكيف يحصلها المتكلم بها، فيبدأ الطفل في التقاطها مفردات وجملا لا يعرف لها أصلا ولا فصلا، فهو يسمع ويحاكي، ثم يتعلم بعد ذلك القواعد التي تضبط ما كان قد التقط، حتى إذا ما اكتمل نضجه أمسك بتلك اللغة إمساكه للكائن الحي، يعرف كيف يستخدمه ويصرف أموره على النحو الذي يريد. •••
والشبه - على وجه الجملة - واضح بين مراحل الإدراك كما تحدث عنها وايتهد في بحثه التربوي، ومراحل الإدراك كما لمحها الغزالي عند تأويله لآية النور، ففي الحالتين تكون مراحل الإدراك في مدارج صعوده بادئة بالعفوية النشيطة الحية، ومعقبة عليها بالتنظيم والتنسيق وتقعيد القواعد، ثم منتهية بإدراك المبادئ الأشمل والأعم، لولا أن الغزالي يضيف إلى ذلك مرحلة رابعة يكون عندها تأمل مسدد بقوة الإلهام.
Unknown page