Macqul Wa La Macqul
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
Genres
فقال أبو سعيد ردا على ذلك: إن صحيح الكلام من سقيمه يعرف بالإعراب المعروف إذا كنا نتكلم بالعربية، وفاسد المعنى من صالحه يعرف بالعقل إذا كنا نبحث بالعقل ... وكأنما أراد أبو سعيد بذلك أن يقول: إن صورية المنطق وحدها لا تغني؛ إذ لا بد من معرفة بحقائق المواد المرتبط بعضها ببعض بتلك الصور، والتشبيه بالميزان ناقص؛ لأن من الأشياء ما لا يوزن، وإذا كان المنطق الأرسطي ملزما لمن يتكلم اللغة اليونانية، فليس هو بملزم لمن يتكلم العربية. فيرد متى قائلا: إن المنطق يعنى بالمعقولات، والناس في المعقولات سواء، فأربعة وأربعة تساوي ثمانية عند اليونان وعند العرب وعند غيرهما من الأمم على السواء. فيعود أبو سعيد إلى الكلام قائلا: إن التشبيه بأربعة وأربعة وأنها تساوي ثمانية عند كل الأمم هو تشبيه لا يؤدي؛ لأن حقائق الرياضة بينة، على خلاف المطلوبات بالعقل والمذكورات باللفظ، على أننا إذا كنا نعني بالمعقولات تلك المعاني التي يوصل إليها باللغة الجامعة للأسماء والأفعال والحروف، فقد لزمت الحاجة إلى معرفة اللغة، فكيف تدرس منطق اليونان دون لغتهم؟ فضلا عن أننا ننقل المنطق اليوناني عن اللغة السريانية، والمعاني إنما يصيبها التحول عند الترجمة من لغة إلى لغة؟
هنا يقول أبو بشر متى: إن الترجمة عن اليونانية تكفينا في هذا الصدد، ويعود أبو سعيد إلى الرد قائلا: افرض أن الترجمة تكفينا في ذلك، فهل اختص اليونان دون سواهم بالعقل؟ أليس العلم مقسما بين الأمم؟ أليس اليونان كغيرهم من الناس يصيبون ويخطئون؟ ومع ذلك، فليس واضع المنطق أمة بأسرها، بل هو راجل واحد، هذا إلى أن منطقه لم يغير من العالم شيئا؛ لأن الأمر مرهون بالفطرة، وحال الناس من حيث الفطرة هي بعد ظهور المنطق كما كانت قبل ظهوره، إننا نعلم أن عقول الناس متفاوتة، فكيف تزعم أن في وسع المنطق أن يسوي بينها جميعا؟
ويسأل أبو سعيد مناظره فيقول: هل في وسع المنطق الأرسطي أن يدلنا على معاني حرف الواو في اللغة العربية؟ فقال له متى: هذا نحو وليس هو من شأن المنطق، فأجابه أبو سعيد بأن المنطق هو نحو، والنحو هو منطق، فإذا كانت المعاني مشاعا بين الأمم ، فلا تكون يونانية ولا هندية، وإنما يكون اختلاف في اللغة التي يعبر بها كل قوم عن تلك المعاني، كانت دراسة اللغة لا مندوحة عنها. ويضرب أبو سعيد مثلا بالحرف في اللغة العربية: الواو، والياء، وحرف «في»؛ فلكل منها أحكام تقضي بها اللغة العربية وليست هي نتاجا للعقل اليوناني، مما يبين أنه لا بد للمنطقي من دراسة اللغة التي بها يكون التفكير، فالنحو يمس المعاني ولا يقتصر أمره على اللفظ، إنه بغير مادة الفكرة لا يوصل إلى حل لأي مشكلة، فالمنطق في صوريته المجردة لا يرفع خلافا بين متناظرين، ولا يؤدي بصاحبه إلى معتقدات بعينها. وخلاصة القول عند أبي سعيد السيرافي أن دراسة المنطق بغير دراسة اللغة العربية لا تجدي نفعا.
وبعد الفراغ من ذكر هذه المناقشة الفلسفية، انتقل الحديث في تلك الليلة الثامنة إلى وصف لشخصية أبي سعيد السيرافي وإلى آخرين غيره كأبي علي النحوي، وطائفة من الشعراء، ثم يتناول الحديث مسكويه وابن نباتة وغيرهما، فكأنما هي سجل حافل لحركة علمية ثقافية واسعة المدى.
وفي الليلة التاسعة أوصاف دقيقة لصنوف الحيوان وما تتميز به، وكيف أن صفات الحيوان موجود مثلها في الإنسان؛ إذ في الإنسان وحده تتجمع صفات الحيوانات كلها، فهو - إذن - مختلف عنها، لا بالنوع، ولكن بكثرة ما فيه من صفات تجمعت فيه وتفرقت في الحيوان؛ فللسبع والفأرة صفة الكمون، وللذئب صفة الثبات، وللخنزير صفة الحذر، وهكذا، انظر مثلا إلى الصفات التي لا بد من توافرها في القائد، تجدها كلها مما يتصف به الحيوان أيضا: «ينبغي للقائد العظيم أن يكون فيه عشر خصال من ضروب الحيوان؛ سخاء الديك، وتحنن الدجاجة، ونجدة الأسد، وحملة الخنزير، وروغان الثعلب، وصبر الكلب، وحراسة الكركي، وحذر الغراب، وغارة الذئب، وسمن «بعروا»، وهي دابة بخراسان تسمن على التعب والشقاء.»
نعم إن من أهم ما يفرق بين الحيوان والإنسان أن الأول يعمل مدفوعا بإلهام (= غريزة) على حين أن الثاني يعمل بعد اختيار إرادي منه، لكن للإنسان من إلهام الحيوان نصيبا، كما أن للحيوان من اختيار الإنسان نصيبا.
وذكر أبو حيان أن للإنسان أنفسا ثلاثا: النفس الناطقة، والنفس الغضبية، والنفس الشهوانية، وأن لكل نفس منها أخلاقها، فمن خصال النفس الناطقة أن تبحث عن حقيقة الإنسان والكون والله، وكذلك من وظائفها أن تضبط نوازع النفسين الأخريين. وبعد ذلك أخذ أبو حيان يتناول الفضائل وأضدادها واحدة واحدة؛ ليحدد مقوماتها وعناصرها، فما الحسن وما القبيح؟ ما الصواب وما الخطأ؟ ما الخير وما الشر؟ ما العدل وما الجور؟ ما الشجاعة وما الجبن ... إلخ.
ويختم أبو حيان القول في الأخلاق بأن يصنف الناس من حيث أخلاقهم بحسب أمزجتهم، فإذا غلبت الحرارة على الإنسان كان شجاعا بذالا ملتهبا سريع الحركة والغضب قليل الحقد ذكي الخاطر حسن الإدراك، وإذا غلبت عليه البرودة كان بليدا غليظ الطباع ثقيل الروح، وإذا غلبت عليه الرطوبة كان لين الجانب سمح النفس سهل التقبل كثير النسيان، وإذا غلبت عليه اليبوسة كان صابرا ثابت الرأي.
ومما هو جدير بالذكر عن هذه الليلة أن أبا حيان يذكر فيها أنه قد أضاف من عنده عند الكتابة ما لم يرد في غضون الحديث، وذلك استكمالا للموضوع.
وفي الليلتين العاشرة والحادية عشرة قرئ بحث عن خصائص الحيوان، منها ما هو فسيولوجي ومنها ما هو متصل بالطباع.
Unknown page