Macqul Wa La Macqul
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
Genres
كانت نظرة الإخوان إلى كثير من المسائل نظرة عقلية فيها نفاذ ودقة تحليل، لكن ذلك لم يمنع من ورود لحظات كثيرة جدا قد تنبئ بأنهم لم يكونوا من العقلانيين الخلص، بل مزجوا عقلانيتهم بكثير من النظرات اللاعقلية القائمة على احترام ما هو كائن بين أيديهم من التقليد؛ لأنه كائن وكفى، فانظر - مثلا - إلى موقفهم من «السحر والطلسمات» جاعلين إياها «علما» من العلوم! بل إنهم ليعجبون ممن تنكر لها بين معاصريهم، فقد ورد عن السحر والطلسمات (الجزء الرابع، ص284 وما بعدها) كلام كثير يسوده التصديق، ويبدأ حديثهم في هذا الموضوع هكذا: «واعلم أيها الأخ - أيدك الله - أننا رأينا اليوم أكثر الناس المتغافلين إذا سمعوا بذكر السحر، يستحيل واحد منهم أن يصدق به، ويتكافرون بمن يجعله من جملة العلوم التي يجب أن ينظر فيها أو يتأدب بمعرفتها، وهؤلاء هم المتعالمون والأحداث من حكماء دهرنا المتخلفين والمدعين بأنهم من خواص الناس المتميزين؛ وذلك لأنهم لما رأوا بعض المتعاملين بهذا العلم، والخائضين في طلبه من غير معرفة له إما أبله قليل العقل، أو امرأة رعناء، أو عجوزا خرفة بلهاء، فرفعوا أنفسهم عن مشاركة من هذه حاله، إذا سمعوا بذكر السحر والطلسمات، أنفة منهم؛ لئلا ينسبوا إلى الجهل وإلى التصديق بالكذب والخرافات»، ألا ليتهم ترفعوا كما ترفع أولئك الذين وردت الإشارة إليهم دون أن نعرف من هم! ولكن «إخواننا» صورة «لعقل» عصرهم بما شاب ذلك العصر من قوة وضعف.
34
كان أبو حيان التوحيدي، الذي عاش في النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي - في كتابه «الإمتاع والمؤانسة» هو الذي كشف للناس عن شخصيات إخوان الصفا؛ إذ لبثوا في طي الكتمان حتى أذاع هو سرهم، وإذن فمن الملائم - وقد ختمنا لقاءنا مع هؤلاء الإخوان - أن نقابل هذه الشخصيات الفذة، أبا حيان التوحيدي، وليكن لقاؤنا معه، أساسا، على صفحات مؤلفه ذي الأجزاء الثلاثة في طبعته الحديثة: «الإمتاع والمؤانسة»، وسوف نرى أننا إذ نتحرك مع هذا الكتاب صفحة بعد صفحة، وموضوعا بعد موضوع، أننا إنما نتحرك في صميم الحياة الثقافية العربية حينئذ، فنلقى القوم في اهتماماتهم الفكرية، وفي طريقة معالجتهم لتلك الاهتمامات.
كان أبو حيان التوحيدي بائسا في حياته وبعد مماته، أما في حياته فقد عاش فقيرا، وأما بعد موته فلم يجد من المؤرخين من يترجم له ترجمة وافية، وذلك برغم اتساع آفاقه وعمق أغواره، حتى ليعد الفيلسوف الأديب المعبر عن ثقافة النصف الثاني من القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، فاسمع هذه الرسالة الحزينة التي يختم بها الجزء الثالث من كتاب الإمتاع والمؤانسة، موجها إياها إلى صديقه أبي الوفاء المهندس، الذي كان له فضل تقريبه من الوزير أبي عبد الله العارض، وهو الوزير الذي قيلت في حضرته أحاديث السمر الثقافي التي جمعت في كتاب الإمتاع والمؤانسة هذا؛ فهو يقول في رسالته تلك: «خلصني أيها الرجل من التكفف، أنقذني من لبس الفقر، أطلقني من قيد الضر، اشترني بالإحسان، اعتبدني بالشكر، ... اكفني مئونة الغداء والعشاء، إلى متى الكسيرة اليابسة، والبقيلة الذاوية، والقميص المرقع ...؟ إلى متى التأدم بالخبز والزيتون؟ ... اجبرني فإنني مكسور، اسقني فإنني صد، أغثني فإنني ملهوف، شهرني فإنني غفل، حلني فإنني عاطل، قد أذلني السفر من بلد إلى بلد، وخذلني الوقوف على باب باب، ونكرني العارف بي، وتباعد عني القريب مني ...»
ولعل أبا الوفاء المهندس قد استجاب إلى استغاثة أبي حيان فأغاثه، بأن قدمه إلى الوزير أبي عبد الله العارض، فجعله الوزير من سماره، وسامره أبو حيان ثماني وثلاثين ليلة [هكذا يقول ناشرا الكتاب، لكني عددت هذه الليالي فوجدتها تبلغ تسعا وثلاثين] وبعد ذلك طلب أبو الوفاء من أبي حيان أن يسجل كل ما دار بينه وبين الوزير، وهكذا فعل أبو حيان، فكان له - ولنا - من هذا كتاب «الإمتاع والمؤانسة».
هكذا يدور السمر المسجل «الإمتاع والمؤانسة» على ليال، لكل ليلة موضوع رئيسي يحدده الوزير بسؤال يلقيه، ولكن سرعان ما يستطرد ويتشعب، فيتناول أمورا كثيرة منوعة، وغالبا ما يختتم ب «ملحة الوداع».
في الليلة الأولى جرى السمر حول متعة الحديث، وخصائص الحديث الجيد، وكانت خلاصة الرأي المعروض، أن الحديث الجيد هو الذي يجري على أحكام العقل، ويشتمل على فكاهة، ويكون ذا جدة وطرافة، وإن الإنسان ليسأم من كل شيء إلا من الحديث الطلي؛ ففي المحادثة تلقيح للعقول، وترويح للقلب، وتسريح للهم، وتنقيح للأدب، وأما الموضوعات العرضية التي تناولها الكلام في الليلة الأولى، فتحديدات لغوية تفرق بين معنى كلمة «عتيق» ومعنى كلمة «قديم»، وذلك بمناسبة المقارنة بين الحديث الذي يكون فيه جديد، والحديث الذي يقتصر على ذكر القديم: «التعجب كله منوط بالحادث، وأما التعظيم والإجلال فهما لكل ما قدم»، وكذلك تناول أبو حيان بالتحديد معاني هذه الكلمات: حادث، ومحدث، وحديث، وأخيرا ختمت الليلة بملحة الوداع، وهي نكتة عن بناء بنى جدارا لرجل، وبينما هما مختلفان على الأجر، سقط الجدار، فقال الرجل للبناء: هذا عملك الحسن؟ فقال البناء: وهل أردت أن يبقى الجدار ألف سنة؟ فأجاب الرجل: لا، ولكن كان يبقى إلى أن تستوفي أجرتك.
ويدور حديث الليلة الثانية حول شخصيات بارزة يومئذ في ميادين العلم والأدب، يصفهم أبو حيان للوزير ويقول رأيه فيهم: فمنهم أبو سليمان المنطقي الذي يقول عنه: «أما شيخنا أبو سليمان فإنه أدقهم نظرا، وأقعرهم غوصا، وأصفاهم فكرا، وأظفرهم بالدرر، وأوقفهم على الغرر، مع تقطع في العبارة، ولكنة ناشئة من العجمة، وقلة نظر في الكتب، وفرط استبداد بالخاطر، وحسن استنباط للعويص، وجرأة على تفسير الرمز، وبخل بما عنده من هذا الكنز.»
ومنهم ابن زرعة، فهو: «حسن الترجمة، صحيح النقل، كثير الرجوع إلى الكتب، محمود النقل إلى العربية، جيد الوفاء بكل ما جل من الفلسفة» ومنهم ابن الخمار، وابن السمح، والقومسي، ومسكويه الذي يصفه بقوله: «فقير بين أغنياء، وعيي بين أبيناء؛ لأنه شاذ ...»
فطلب منه الوزير أن يحدثه عن آراء هؤلاء العلماء في «النفس»، فأخذ أبو حيان يفصل القول في ذلك، وملخص ما قاله: إنهم متفقون على أن النفس جوهر خالد، وكان من أدق ما قاله كذلك في العلم بمسائل الحكمة أنه وسط بين اليقين الكامل وبين اليأس من المعرفة، وكذلك قال في علم الطب إنه وسط بين الصواب والخطأ، وفي الحياة إنها وسط بين السلامة والعطب، وكذلك فرق أبو حيان بين العلم والتعليم؛ «فالعلم صورة المعلوم في نفس العالم، وأنفس العلماء عالمة بالفعل، وأنفس المتعلمين عالمة بالقوة، والتعليم هو إبراز ما بالقوة إلى الفعل، والتعلم هو بروز ما هو بالقوة إلى الفعل»، وختمت الليلة بأربعة أبيات في الغزل.
Unknown page