Macqul Wa La Macqul
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
Genres
فلما هممت بالقراءة لهذا الكتاب، طالبت نفسي أولا بخطة للسير؛ فالتراث العربي أوسع من المحيط، ولم يكتب لي الله في أعوامي الماضية أن أعب منه إلا قطرات لا تملأ القدح، فكيف بي وأنا الغريب - أو شبه الغريب - في هذه الدنيا المدوية بمكنونها الضخم، وقد هممت بالسير في أحنائها وثناياها؟ إنني أريد أن أبحث في هذه الدنيا الفكرية الفسيحة الأرجاء، عن طريق واحد دون سائر ما فيها من طرق ومفاوز، وهو طريق «العقل» كيف سار وأين؟ فهل أستطيع الخطو بقدم واحدة إذا لم يكن أمامي خط واضح أسير على هداه؟!
وطريق العقل في ثقافة عريضة طويلة كالثقافة العربية، لا يكون قائما وحده، بحيث لا يجد السائر طريقا سواه، بل لا بد أن يخالطه كل ما يخالط الطبيعة البشرية من جوانب أخرى غير جانب العقل، فالإنسان - فردا كان أو مجتمعا - لا يتحرك في حياته مهتديا ببوصلة واحدة، ذات مؤشر واحد، يشير دائما إلى هدف واحد، بل إن طبيعته لتنطوي على منازع متعارضة أحيانا أشد التعارض؛ فقد يحدد له «العقل» هدفا بعينه ويرسم أمامه الطريق المؤدية إلى ذلك الهدف، ثم تجذبه «العاطفة» نحو هدف آخر وطريق آخر، فلو وصفنا إنسانا فردا، أو مجتمعا من الناس، أو عصرا من العصور، بصفة «العقلانية» فإنما نفعل ذلك على سبيل التغليب والترجيح، لا على سبيل الحصر والقطع والتحديد.
وإذا أردنا شيئا من التوضيح الذي يفرق لنا بين وقفة «عقلية» وأخرى «عاطفية»، فحسبنا - فيما أظن - أن نرتكز على العلامة المميزة الآتية؛ فصاحب الوقفة العقلية يشترط في خطوات سيره أن تكون الخطوة التالية مكملة للتي سبقتها، وممهدة للتي تلحق بها، بحيث تجيء الخطوات معا في تضامن يجعلها وسيلة مؤدية آخر الأمر إلى هدف مقصود، ولا فرق في ذلك بين أن يكون السير سيرا بالقدمين على سطح الأرض ليصل السائر إلى مكان يريد الوصول إليه، وأن يكون السير سيرا عقليا ينتقل به صاحبه من فكرة إلى فكرة، حتى ينتهي إلى حل لمشكلة أراد حلها، ذلك هو السير «العقلي» وعلامته المميزة. لكن ما كل سلوك إنساني على هذا النمط الهادف؛ إذ كثيرا ما يريد الإنسان شيئا ويعمل بما ليس يحقق له ما أراد، فإذا سألته: كيف؟ أو سأل نفسه، كان جوابه بأنه يحس «ميلا» لا قبل له برده، يميل به نحو جانب مضاد لما ظن بادئ الأمر أنه ما يريد ...
الوقفة «العقلية» - بعبارة أخرى - وقفة تتقيد بالروابط السببية التي تجعل من العناصر المتباينة حلقات تؤدي في النهاية إلى نتيجة معينة، سواء كانت تلك الحلقات المؤدية محببة أو كريهة عند من أراد الوصول إلى تلك النتيجة المطلوبة. وأما الوقفة «العاطفية» أو «اللاعقلية» فهي التي يؤثر صاحبها اختيار الطريق المحبب إلى النفس بغض النظر عن تحقيق النتائج.
ويندر جدا أن تجد بين الناس إنسانا خلص له العقل وحده، لا يأتمر إلا بتوجيهه، كالذي يقال عن سقراط إنه كان عقلا صرفا، حتى لتعذر عليه أن يتصور كيف يرى العقل رأيا ثم لا يجد هذا الرأي تنفيذا عند صاحبه؛ فما يراه العقل - كما ذهب سقراط - هو نفسه العلم بحقائق الأشياء، ومن ذا الذي يرفض أن يعامل الأشياء على حقائقها؟ ومن ثم جاءت فكرته القائلة بأن «العلم والفضيلة شيء واحد»؛ يريد بذلك أن ما يدركه العقل (وهذا هو العلم) وما ينبغي على الإنسان أن يفعله (وهذه هي الفضيلة) هما جانبان لموقف واحد، فهناك الإدراك الصحيح، وهنا الفعل الصواب بناء على ذلك الإدراك، ولم يتصور سقراط أن يدرك الإنسان بعقله الإدراك الصحيح، ثم يفعل الفعل المضاد مدفوعا إليه بالميل والهوى، اللهم إلا إذا كان الإنسان عدوا لنفسه يريد لها التهلكة، يرى طريق الحق ويسلك طريق الباطل، يرى سبيل النجاة ويسلك سبيل الخطر والضياع.
ذلك ما لم يتصوره سقراط في الإنسان العاقل، قياسا على نفسه؛ فهو - كما قيل عنه - لم يشعر في حياته قط بموقف تنازعته فيه الأضداد، فالعقل يشده إلى هنا والعاطفة تجذبه إلى هناك؛ لأن ما يراه عقله هو نفسه ما تميل إليه عاطفته.
وخطأ سقراط هو في أنه قاس الناس على نفسه؛ لأن الفرد من الناس مركب من عقل وعاطفة، فإذا اتفقا على الهدف والطريق - وكثيرا ما يتفقان بلا عناء - كان خيرا، وإلا فهما قد يختلفان، بحيث يكون لكل منهما هدفه وطريقه وعندئذ يحدث الصراع المألوف في حياتنا بين إملاء العقل وميل العاطفة، وعندئذ أيضا تكون قسمتنا للناس إلى من تغلب عليهم صفة العقلانية، ومن تغلب عليهم دفعة العواطف، ومن امتزاج الصنفين يتكون المجتمع الإنساني في معظم حالاته.
3
فإذا التمسنا طريق العقل في الثقافة العربية، كان معنى ذلك أننا نبحث عن خيوط اللحمة في نسيج، دون خيوط السدى، عالمين بأن اللحمة والسدى معا تشتركان في نسيج واحد، ولماذا أحاول عزل القمح عن الشعير بعد أن كان مختلطين في مزيج واحد؟ أحاول ذلك لسببين: أولهما: الرغبة في رسم خطة للسير الواضح، على النحو الذي أشرت إليه في أول الحديث، والثاني: عقيدة عندي بأنه إذا أراد الخلف - الذي هو نحن العرب في عصرنا القائم - أن يجيء امتدادا للسلف، فلن يكون ذلك إلا عن طريق الجانب العاقل من حياة السلف؛ لأن الجانب اللاعاقل من حياة ذلك السلف ربما تعلق بأشياء لم تعد ذات شأن في حياتنا، وبالتالي فإنها لم تعد تستحق منا أن نسكب عليها هوس العاطفة دفاعا عنها وحفاظا عليها.
على أن طريق العقل الذي نلتمسه لنسير فيه، ليس هو طريقا كله المنطق الجاف الذي يصنف الكائنات أجناسا وأنواعا بعد أن يسلبها مضامينها الحية، ولا يبقى منها إلا أشكالها الخارجية الفارغة من الغذاء والدسم، لا، بل إن مرادنا هنا هو أن نعيش ثقافتنا القديمة وهي في حالات نبضها، مليئة بمشكلاتها، وكل ما في الأمر هو أننا نريد أن نتخير من تلك الثقافة مواقفها التي عالجتها بالإدراك السليم، لا بالعاطفة حتى وإن كانت رضية ودافئة.
Unknown page