Macqul Wa La Macqul
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
Genres
ونضرب مثلا ثالثا وأخيرا لوقفات المتصوفة من الحروف، محيي الدين بن عربي في رسالة له عنوانها «كتاب الميم والواو والنون»، فاسمع ما يقوله هذا الشيخ الجليل في رسالته تلك: يبدأ بحمد الله الذي اختص أهل المعروف (ويعني المتصوفة) بخصائص الأسماء وخواص الحروف؛ فقد أراد الله تعالى للحروف أن تكون أمة من الأمم! أرجو القارئ أن يتأمل هذه المعاني العجيبة؛ فللأسماء خواص غير كونها أسماء تسمي أشياء بعينها، وللحروف كذلك خواص تجعل لكل حرف فاعلية في تسيير الأحداث إذا ما عرف المحركون له كيف يستثيرون أسراره الكوامن فيه؛ فليست الأحرف رموزا تشير إلى مجموعة أصوات جاءت اتفاقا بين المتكلمين بلغة واحدة، كلا ، بل هي أقرب شيء إلى مجمع من أحياء كأنها أمة من الأمم.
وينتقل ابن عربي بعد فاتحة الحمد هذه، إلى القول بأن «أسنى الحروف وجودا، وأعظمها شهودا: «الميم» و«الواو» و«النون» المعطوفة أعجازها على صدروها.» يريد أن يقول إن هذه الحروف الثلاثة - دون سواها - هي التي إذا ما نطقت (أو كتبت) جاء كل منها من أحرف ثلاثة؛ أولها مكرر في آخرها، ويتوسط بينهما حرف علة هو الياء في «ميم» والألف في «واو» والواو في «نون»، ثم يزعم لنا ابن عربي أن حروف العلل هذه «مؤيدة بسلطان «كن» ليكون ما لا بد أن يكون.» وما مغزى أن تكون الأوائل والأواخر موحدة في «ميم» و«واو» و«نون»؟ مغزاه أنها إشارات لما ليس له أول ولا آخر! «اعلموا - وفقكم الله - أن الحروف سر من أسرار الله تعالى، والعلم بها من أشرف العلوم.» «ولتعلموا أن العلم بالحروف مقدم على العلم بالأسماء تقدم المفرد على المركب، ولا يعرف ما ينتجه المركب إلا بعد معرفة نتيجة المفردات التي تركبت عنه.» «فأما (الواو) فهو حرف شريف له وجوه كثيرة ومآخذ عزيزة، وهو أول عدد تام، فإن له من العدد ستة؛ فأجزاؤه مثله وهي: النصف وهو ثلاثة، والثلث وهو اثنان، والسدس وهو واحد؛ فإذا جمعت السدس إلى الثلث إلى النصف كان مثل الكل؛ فيعطي «الواو» - عند أصحاب الحروف - ما تعطيه الستة من العدد عند العدديين، كالفيثاغوريين ومن جرى على مذهبهم. فمن وقف على أسرار «الواو» تنزل به الروحانيات العلا تنزلا شريفا» (راجع «رسائل ابن عربي» وفيه ست عشرة رسالة).
ولنقف هنا وقفة قصيرة شارحة. يقول ابن عربي في الفقرة الأخيرة السابقة إن حرف «الواو» هو أول عدد تام لأن له من العدد ستة، وهو بذلك يشير إلى ضرب من الترقيم للحروف كان شائعا لإظهار قوة تلك الحروف؛ فالأبجدية مرتبة هكذا: أ ب ج د ه و ... كانت ترقم الأحرف التسعة الأولى منها بالأرقام من واحد إلى تسعة بالترتيب؛ فالألف يقابلها العدد واحد، والباء يقابلها العدد اثنان ... وهكذا حتى تصل إلى حرف الواو، فتجد أن ما يقابله هو العدد ستة، وما قيمة ذلك؟ قيمته هي أن العدد ستة هو أول عدد «تام»، ومعنى التمام هنا هو أننا لو جزأناه إلى أجزائه: النصف والثلث والسدس، وجدنا أن مجموع هذه الأجزاء تماثله. إن كاتب هذه السطور ما يزال يذكر كيف كان وهو في الريف المصري يقرأ على أغلفة الخطابات دائما كلمة «بدوح» بعد كل عنوان، ويتساءل ما معناها وما سرها ولماذا تضاف في آخر العنوان على الغلاف؟ فكان يقال له إنها كلمة تضاف لتضمن الخير والسعادة لمن أرسل إليه الخطاب؛ فلما اتسعت قراءته فيما بعد، عرف أن هذه الأحرف الأربعة: ب د و ح، لها في حساب «الجمل» - هكذا يسمون المقابلة بين الحروف والأعداد - الأعداد التالية: 2 - 4 - 6 - 8، وهي كلها أعداد زوجية تتوالى في ترتيب الأبجدية، وأن هذا التوالي للأعداد الزوجية يتضمن معاني الخير. وقد كان مألوفا لنا كذلك - أيام الصبا - أن نجد الشعراء المادحين لذوي الجاه يحرصون على أن يجيء البيت الأخير من القصيدة بحيث تدل أرقام حروفه على اسم الممدوح. وإنما ذكرت هذه الذكريات لأدل بها على مدى تغلغل هذا الجانب اللاعقلي الذي تركه لنا بعض السلف إلى أعماق النفوس على امتداد الزمن.
ونعود إلى الفقرة الأخيرة من حديث ابن عربي عن حرف «الواو»، فنراه يقول إن هذا الحرف «يعطي - عند أصحاب الحروف - ما تعطيه الستة من العدد عند العدديين كالفيثاغوريين ومن جرى على مذهبهم.» فلعل القارئ يلم بطرف من الفلسفة الفيثاغورية القديمة - التي كان لها أبعد الأثر فيمن جاء بعد اليونان كالعرب وغيرهم - وهي الفلسفة التي أرادت تفسير الطبيعة بالرياضة، ولولا غلطة أصابتهم في الأساس، لجاءت فلسفتهم تلك أول صيحة نحو الفكر العلمي بمعناه في أيامنا، وهو فكر يرد قوانين الطبيعة إلى صيغ رياضية؛ أي إنه فكر يرد الصفات الكيفية التي تدركها حواسنا من الأشياء إلى مقادير كمية، وأما الغلطة التي أصابتهم في الأساس فضيعت عليهم سداد الفكرة، فهي أنهم وحدوا في تصورهم بين «النقطة» في الهندسة و «الواحد» في الحساب؛ فإذا كانت النقطة يعادلها الواحد، وجدنا أن كل شكل من أشكال الكائنات المكانية يمكن النظر إلى طريقة تركيبه من نقاط المكان؛ لنعلم بعدئذ العدد الذي يقابل ذلك التركيب. وليس المجال هنا مجال تفصيل في هذا الموضوع، وإذا أراد القارئ فليرجع إلى أي كتاب في تاريخ الفلسفة اليونانية، ويهمنا هنا الوقوف عند قول ابن عربي بأن حرف «الواو» عند أصحاب الحروف يعادل العدد ستة عند أصحاب العدد. وكأنما هو يريد بذلك أن يقول إننا نستطيع أن نفسر كائنات الطبيعة بأحد وجهين، فإما فسرناها بما يقابلها من العدد كما فعل الفيثاغوريون قديما، وإما لجأنا في تفسيرها إلى ما يقابلها من الحروف كما يحاول هو وسائر المتصوفة أن يفعلوا، لكن الفرق بعيد بين الحالتين، والمغالطة هنا غليظة؛ فمحاولة الفيثاغوريين محاولة «عقلية»؛ لأنها تلتمس في الأشياء جانبها «الرياضي» الذي عمل على تكوينها كما هي مكونة، وأما محاولته هو وأترابه أن يفسر الطبيعة بالحروف وأسرارها، فهي إنما تقع في صميم الصميم من اللامعقول، الذي يلتمس النتائج في غير أسبابها.
65
لقد انصرف أسلافنا بكثير من جهودهم الفكرية نحو «الأولياء» و«كراماتهم»، حتى لقد أخذوا يفرقون بقدرة تحليلية ميزتهم في إدراك الفوارق الطفيفة التي تختلف بها الطوائف والمذاهب بعضها عن بعض، أقول إنهم أخذوا بهذه القدرة التحليلية يفرقون بين «النبوة» و«الولاية»، ثم بالتالي بين «معجزات» أولئك و«كرامات» هؤلاء، بل ذهبت بهم الموازاة بين الصفتين إلى حد أن جعلوا للأولياء «خاتما» (أو «ختما») كما أن للأنبياء خاتما هو محمد عليه السلام. وواضح لي أن هذا الجهد الفكري كله، من أوله إلى آخره، مهما تكن أهميته وخطورته بالنسبة لأسلافنا، فلم تعد بنا حاجة إليه اليوم إلا في حدود المشوقين إلى دراسة التواريخ للدراسة ذاتها. وسنختار كتابا نقف عنده ليكون سبيلنا إلى توضيح الفكرة؛ لنفهم بعد ذلك وجهة نظر مؤيديها ووجهة نظر معارضيها من بين السلف أنفسهم، ودع عنك المعاصرين.
سنختار «كتاب ختم الأولياء» للحكيم الترمذي (تحقيق عثمان إسماعيل يحيى، عضو المركز القومي للأبحاث في باريس). ولقد سمي الترمذي باسمه هذا نسبة إلى مدينة «ترمذ» مسقط رأسه، وفيها قضى الشطر الأكبر من حياته، ثم على أرضها فاض روحه، وكانت حياته في غضون القرن التاسع الميلادي (الثالث الهجري).
ولقد صوره لنا فريد الدين العطار في كتابه «تذكرة الأولياء» تصويرا حيا، فكان مما قاله عنه: «كان الشيخ الترمذي قد عقد النية في أول أمره على الرحلة لطلب العلم في رفقة اثنين من إخوانه، وفي أثناء ذلك مرضت أمه ، فقالت له: يا بني! إني امرأة ضعيفة، لا عائل لي، ولا معين يعينني، وإنك المتولي لأمري، فإلى من تكلني وتذهب؟ فنالت هذه الكلمات من نفسه، وعدل عن الرحلة، ومضى زميلاه في سبيلهما.
ثم مضى على ذلك بعض الوقت، فبينما كان في إحدى المقابر، يبكي بكاء شديدا ويقول: ها أنا ذا قد بقيت جاهلا مهملا، وسيرجع أصحابي وقد حصلوا على العلم. إذا به يرى أمامه - فجأة - شيخا مشرق الوجه، فسأله الشيخ عن سر بكائه، فأفضى إليه الفتى بحاله، فقال له الشيخ: ألا أعلمك في كل يوم شيئا من العلم؟ فلا يمر عليك كثير وقت حتى تسبق إخوانك؟ فأجابه الفتى إلى ذلك، واستمر الشيخ على تعليمه كل يوم، ومضت على ذلك أعوام، ثم عرف الترمذي بعد ذلك أن الشيخ هو «الخضر» عليه السلام! وأنه إنما حصل على هذا ببركة دعاء أمه» (مأخوذ من مقدمة عثمان إسماعيل يحيى لكتاب «ختم الأولياء»، ص10-11).
وكذلك ترك الترمذي بخط يده صحائف هامة كتبها بنفسه عن تربيته الروحية والعلمية، وإنها لوثيقة هامة من أي زاوية نظرت إليها؛ فهي أوثق ما نقرؤه عن حياته، ثم لعلها أن تكون أقدم نص نعرفه عن حياة رجل من رجال الفكر الإسلامي مكتوب بخط يده. نعم إنها ترجمة ذاتية شديدة الإيجاز؛ إذ هي لا تجاوز بضع صفحات، ولكن الذي استوقفني منها بصفة خاصة هي الأحلام التي أخذ يرويها عن زوجته، والتي كانت تراها في نومها عن حياة زوجها، ففيها لوحات تصويرية بديعة من الناحية الفنية، وأما قدرة الزوجة على كشف حجاب الغيب في رؤاها، فذلك أمر كان مقبولا في عصره، ولكن علم النفس اليوم قد قال في ذلك كلمته.
Unknown page