Macqul Wa La Macqul
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
Genres
لكنني أجد النظرية الفارابية تحل الإشكال حلا وسطا، قد يصادف قبول الطائفتين المتقاتلتين جميعا، فما دام الشعر عنده - وتستطيع أن تقول الفن كله - يستهدف في نهاية الأمر استثارة القارئ ليقف موقفا سلوكيا معينا، إذن فالغاية الخلقية - ونقصد بالأخلاق هنا السلوك بوجه عام - هي مدار البناء الفني، لكن الشعر - من جهة أخرى - لا يكون شعرا إذا هو أدى الوعظ بطريق مباشر؛ إذ لا بد من بناء الصورة الخيالية أولا - التي لا يراعى فيها إلا معايير الفن وحدها - ثم يترك الأمر لما توحيه الصورة المرسومة لمن يطالعها، فإذا ما كانت صورة محببة إلى نفسه بحيث تقمصها وسلك على هداها، كان الشعر بهذا قد حقق الغاية الخلقية دون أن يجعلها هدفا مباشرا، وكذلك قل في صورة منفرة كريهة يرسمها الشاعر، فيطالعها من يطالعها، فيعافها، فيكف عن مزج نفسه بها، فها هنا أيضا يحقق الشعر ما تبتغيه معايير الأخلاق باجتناب الشر، ولكن الشعر لا يحقق ما يحققه في كلتا الحالتين إلا عن طريق خدمته للفن الشعري ذاته. •••
تحدث الفارابي عن مضمون الأقوال الشعرية في الفصل الذي عقده لعلم المنطق من كتابه «إحصاء العلوم» لأنه أراد مقارنة العبارة الشعرية بغيرها من العبارات الدالة، فكأنما هو يرد الأمر لا إلى مجرد اتفاق يجيء عرضا، بل إلى جذور ضاربة في أعماق الطبيعة البشرية فلا ينبغي أن تكون إلا هكذا، شأنها في ذلك شأن قوانين الفكر نفسها، فإذا قلت إن النقيضين لا يجتمعان، فأنت لا تقول بذلك شيئا يمكن أن يقع ويمكن ألا يقع، بل تقول شيئا لا بد من وقوعه ما دامت طبيعة الإنسان العقلية هي ما هي، وكذلك قل في مضمون الشعر عنده، فإذا قلنا إن الشعر يرسم صورة خيالية لتستدعي صورة أخرى من خبرة القارئ (أو السامع)، وهذه بدورها تدفع صاحبها إلى وقفة سلوكية معينة، فقد قلنا شيئا يشبه أن يكون قانونا من قوانين النفس البشرية.
لكنه حين أراد أن يتحدث عن شكل الشعر ومبناه، جعل هذا الحديث في الفصل الخاص بعلم اللسان، ثم جعل الأمر مرهونا بالاتفاق الصرف فكأنما يريد أن يقول إن المنطق العقلي لا يقتضي في الشعر صورة بعينها، بل إن معيار الصحة هنا هو القواعد الموروثة، وبالنظر إلى علم الأشعار من هذه الجهة، يجده الفارابي أقساما ثلاثة:
فأولا: «إحصاء الأوزان المستعملة في أشعارهم» ولنلاحظ هنا استعماله لضمير الغائب في كلمة «أشعارهم»، فهو دليل على أن أمر الأوزان عنده موكول إلى تراث ثقافي معلوم، قد يختلف باختلاف الأمة، ومن زمن إلى زمن.
وثانيا: «النظر في نهايات الأبيات في وزن وزن، أيما منها عندهم على وجه واحد، وأيما منها على وجوه كثيرة، ومن هذه أيما التام وأيما الناقص، وأي النهايات يكون بحرف واحد بعينه محفوظا في الشعر كله، وأيما منها يكون بحروف أكثر من واحد محفوظا في القصيدة.»
وثالثا: «البحث عما يصلح أن يستعمل في الأشعار من الألفاظ عندهم» ولنلاحظ مرة ثانية ومرة ثالثة استعماله لضمير الغائب مما يؤكد أنه إن جعل مضمون الشعر موكولا إلى الفطرة الثابتة، فهو يجعل الشكل مستندا إلى السوابق التاريخية وحدها.
ذلك هو المذهب النقدي عند الفارابي، أقمناه على أسطر قليلة وردت في «إحصاء العلوم»، وهو وإن بلغ من دقة التفكير العقلي غاية قصوى، فذلك لم ينتقص من حاسته الذوقية التي كفلت له أن يكتب في الموسيقى رسالة هي - فيما يقال - أول رسالة علمية شهدها التاريخ كله في هذا الفن، كما كفلت له أن يجيد العزف إجادة هولتها الأساطير، حتى لقد روى الرواة أنه عزف في مجلس سيف الدولة يوما فأضحك الجالسين، ثم أبكاهم ثم أنامهم، وانصرف! ومات الفارابي في دمشق في شهر ديسمبر من عام 950 بعد الميلاد، ويروى أنه كان عندئذ في صحبة أميره سيف الدولة، فارتدى الأمير ثياب المتصوفة وصلى عليه، وكان الفارابي قد قضى من عمره ثمانين عاما. (سبق لنا نشر هذا الحديث عن «نظرية الشعر عند الفارابي» في كتابنا «فلسفة وفن» (1963م)، وكان في أصله محاضرة ألقيت في مهرجان الشعر الذي أقيم في دمشق في شهر مايو من سنة 1959م.)
50
مضت بعد موت الفارابي ثلاثون سنة، وعندئذ ولد شيخ الفلاسفة الشيخ الرئيس ابن سينا (980-1036م)، ولد ومات في بلاد الفرس، وإنا إزاءه لنقف أمام خضم من الفكر العقلي، سبيله لمن أراد الخوض فيه أن يدرس دراسة فلسفية متخصصة، لكننا في كتابنا هذا جريا على السنة التي رسمناها، سنختار من ذلك النتاج العريض الغزير قطرة، نراعي في اختيارها أن تكون - مع دلالتها على الاتجاه العقلاني - داخلة في باب الثقافة العامة، فكان أن اخترنا قصته «حي بن يقظان» (وهنالك بهذا العنوان نفسه قصة لابن طفيل وأخرى للسهروردي) لأنها صاغت فكرة الإعلاء من شأن العقل صياغة أدبية ممتازة، وذلك من حيث «الشكل» الفني الذي اصطنعه الكاتب ليسوق فيه «المضمون» الفكري الذي قصد إليه.
وخلاصة «حي بن يقظان» لابن سينا (وإذا شئت فارجع إلى القصة كما حققها وعلق عليها وقدم لها أحمد أمين في مؤلف مستقل بعنوان «حي بن يقظان») هو أن جماعة خرجوا يتنزهون، فصادفهم في الطريق شيخ وقور مهيب الطلعة، اسمه «حي بن يقظان»، وإنما رمزت القصة بهذا الشيخ إلى «العقل»، وأما الجماعة التي صادفته فهي رمز للشهوات والغرائز والعواطف والانفعالات، وسائر هذه الجوانب اللاعقلية من طبيعة الإنسان، فإذا رأينا الحوار قائما بينها وبين الشيخ، عرفنا أنه الحوار المألوف في حياة الإنسان، حين تتنازعه في باطنه أحكام العقل المنطقي من جهة، ودوافع الوجدان من جهة أخرى.
Unknown page