وكان يجيش في صدري الشعر فأقول الأبيات أو القصيدة الطويلة وأقيدها في كتاب لا أطلع عليه أحدا. وقد ضاعت أكثر تلك القصائد إذ تساقطت أوراقها كما ضاعت عدة من غرر قصائدي بين أوراقي التي أخذها الجواسيس بالآستانة، فتلك السوانح أتلهف عليها وأبكيها ما دمت حيا.
وما مضى علي الحول إلا ولي أصحاب كثيرون من الأجانب، أولئك قوم خففت موداتهم لواعجي، ألفيت منهم ودا لا يشوبه الهوى، ما نابتني نائبة من حدثان الدهر إلا تسابقوا إلى داري بوجوه كنت أقرأ على صفحاتها سطور الوفاء، فمن هؤلاء الدكتور جويت قنصل الولايات المتحدة الأمريكية (هو الآن قنصل الولايات المتحدة في طرابزون)؛ فقد كان الرجل مني بمنزلة الأخ، وكذلك عقيلته وشقيقتها المس باوس، ولما مرض أكبر أنجالي بالحمى التيفوئيدية جعل الدكتور جويت يعوده كل يوم مرتين. وقد تولى معالجته مشتركا مع صديقي الدكتور خسرف هكيميان، وكانت المادام جويت تأتينا صباح كل يوم فتظل في خدمة المريض إلى الظهر، ثم تذهب لتتغدى، ثم تعود فتمكث عندنا إلى الليل، لم تنقطع يوما واحدا إلى أن شفى الله ذلك الطفل على يدي الطبيبين وعلى يدي هذه السيدة الفاضلة.
ومنهم المسيو لابورت قنصل فرنسا، شاب لم يبلغ يومئذ الثلاثين من العمر، كان كذلك مني بمنزلة الأخ. ولقد لمته ذات يوم على كثرة دنوه من سرير ابني في إبان مرضه، فابتسم في وجهي وقال: لا تخف علي شيئا، أبواي لقيا ربهما وليس لي زوجة ولا ولد يهمني ما يصيران إليه بعدي. فقلت: بل لك إخوان كلهم يفديك بحياته ويستزيد لك الصحة والسلامة.
ومنهم المسيو مونتي سانتو، ترجمان قنصل الولايات المتحدة الأمريكية (هو الآن فيس قنصل الولايات المتحدة في طرابزون). ومنهم المرحوم المسيو أصلان، رئيس حسابات البنك العثماني بسيواس، كان مثالا في صدق المودة، امتاز بالجرأة واستخفاف المهالك حتى أودى شهيدهما في بعض مسيره إلى الصيد، ولم يبلغ من العمر أكثر من الثمانية والعشرين عاما. ومنهم المسيو سالجاني، مدير البنك العثماني، والمسيو دوتوليدو أحد الذين خلفوا المرحوم أصلان، ومنهم المسيو بون هنري قنصل فرنسا بعد المسيو لابورت وعقيلته؛ فقد قضينا معهما شتاء كاملا، في ليال نسينا بها أننا وراء جبال الأناضولي، وخيل إلينا أننا مقيمون بباريس بين محاسنها وبدائعها.
أما الموظفون العثمانيون، فمنهم صديقي الأوفى أرستيدي باشا معاون الوالي (هو الآن عضو في مجلس الأعيان). وقد تخرجت علي كبرى بناته في اللغة التركية، لن ينسيني كرور الأيام ما لقيت من هذا الشهم وآله من جميل الود، فما استحدثت الأيام لي معضلة إلا كان حلها بيده. وأرستيدي باشا رجل من نخبة العثمانيين فضلا وأدبا، وله في وظيفته آثار تشهد له بما أوتي من الحكمة والرأي.
ومنهم أسعد بك رءوف، سكرتير الولاية (ثم جعل متصرفا لمرسين)، وأظهر في المذابح الأرمنية من الحرية والعدالة ما يتباهى به العثمانيون.
فكنا إذا جاء فصل الصيف ننصب الخيام خارج البلدة بالقرب من مصنع الدقيق الذي أسسه خليل رفعت باشا؛ فهنالك بارض النبت في ألوانه الزاهية، وهنالك الأشجار المتكاثفة والينابيع المتفجرة والأنهار الدافقة والجبال الشاهقة والنسائم المعتلة، نقيم تحت تلك الخيام المتجاورة شهرا أو أكثر كسكان البادية، تصبحنا الشمس المشرقة ويماسينا البدر المتكامل من وراء الأكمة، ونحن نرتع في تلك المحاسن، فآونة نطوف متصيدين أنواع الطير وتارة نذهب إلى منهل عذب نعل صافيه ونصيب عنده طعامنا، فلا ينتهي الموسم ونرجع إلى البلدة إلا ممتلئين صحة وشبابا، فنقضي أيامنا بذكر تلك الأوقات ونقيم على التزاور والتواد والصيد ونحوه طول فصل الشتاء؛ وهو تسعة أشهر، حتى إذا عاد الصيف عدنا إلى ما كنا فيه.
إني لكثير الحنين إلى تلك الأيام الطيبة، ولولا ما كدرها من ظلم عبد الحميد واستبداده على الأمة لتمنيت عودتها مع أولئك الأصحاب؛ فذلك العيش معلل جانبه. وهنالك الدعة والصفو كلاهما. هذه ذكرى طيبة أوثرها في كتابي تشريفا له بذكر أولئك الإخوان، وما في فؤادي أجمل وأبقى.
وقد وجدت لي أعمالا تعينني على التخلص من شؤم البطالة، فتعلمت حفر الخشب وتجويفه، وأكثرت من التمرن في التصوير الفطوغرافي والتصوير باليد، فكنت إذا ضاق صدري أجد منهما مفرجا للكربة. كذا مضت علي سبعة أعوام في تلك الأرض، فلم أعدم من الحكومة البائدة عدوا يكدر صفو الحياة؛ فقد عشت محروما من صحف الأخبار إلا ما كنت أقرؤه عند إخواني الأجانب، وكانت إدارة البريد لا تدفع إلي الكتب التي يبعث بها شقيقي ومعارفي إلا بعد أن تفض ظروفها وتعلم ما فيها، لم يغنني لديها تظلم ولا استنصاف، وكان مدير البريد والتلغراف من أكبر الجواسيس.
أهل سيواس
Unknown page