من السجن إلى الباخرة
أصبح بسجن وأمسي بباخرة، سبحان مقلب الملوين في ثنيات الأبد، خطى معجلة إلى شقوة مؤجلة، يا بعد غاية المقادير!
زارني قوميسير المركز فقال: سلام. قلت: سلام. فافتر ثغره عن تبسامة كأنها تبسامة الجدث لميت جديد، ثم دنا حتى حال بيني وبين الوجود، فأنشأ فصول الخدع فقال: أما مللت مقامك في ضيافتك هذه؟ إنا مللناك وسئمنا طول لبثك، وسنشرب القهوة عندك الليلة، فانهض غير مخذول ولا مروع. - إلى أين تذهبون بي الساعة؟ - إلى ساحل النجاة. - الحمد لله على نعمته.
فمشى البشير أمامي ومشيت وراءه حتى أجزنا باب السجن، فرأيت في طرقات المتصرفية طوائف من رجال الشرطة يتغامزون ويتسارون. وما زلنا في صعود وانحدار إلى الباب الجنوبي، فإذا عربة يحيط بها جماعة من فرسان الجندرمة، وإذا في العربة رجلان أحدهما من رجال الملكية وثانيهما من ضباط الجندرمة، فتقدم القوميسير ففتح باب العربة وأدخلني فيها، ثم وقف أمامي وقال: ما أمامك إلا كل خير، لا تخف شيئا، وسألحق بك هنالك، ويكون لي معك حديث تستطيبه.
وما أتم الرجل كلامه إلا وانطلقت بنا العربة تحيط بها الفرسان؛ حتى لظننت أني قد صرت ناظر الداخلية أو ناظر المعارف، وما برحت بنا تهوي مخارم الطبخانة إلى أن وقفت عند شاطئ البحر، وما هو إلا مثل لمح بالبصر وإذا بالباب قد فتح وإذا بنا قد نزلنا، فأقبل نحوي الرجل الملكي يستلفتني إلى زورق كبير كان راسيا على مقربة من مكاننا، فأشار يدعوني إلى النزول فيه، فنزلت وأنا في كل خطوة أتنقل من يد إلى يد.
كرة طرحت بصوالجة
فتلقفها رجل رجل
فلما استقر بي مجلسي جلس الرجل الملكي إلى جانبي وجلس الضابط أمامي، وسار بنا الزورق في موج متراكب وريح طيبة، لا يسمع من الزورق إلا قعقعة أضلاعه وإيقاع مجاذيفه وضربات الأمواج في حيزومه وجوانبه، فكنا نجتاز البواخر وعليها الرايات العثمانية والأجنبية فلا نقف عند واحدة منها، فخيل إلي أن قد دنت الساعة وأزف فراق الدنيا، وما لبثت أن راجعت نفسي وقارها وغلبتها على وجلها، فتأملت وجهي الرجلين الملكي والضابط، وإذا هما يتغامزان، فقلت قد وضح الصبح لذي عينين: أنا لا أدع هذين الصاحبين يباعدان مجلسي قيد ذراع، ومتى آن لي الغوص في اليم جمعت بطوقيهما إلي فغصنا جميعا، وإنا لعلى مقربة من «سراي بروني»؛ وهو موضع يزعمون أنه اتخذ ليلقى منه الأبرياء في البحر، فارتفعت لنا باخرة لا كالبواخر ، كأنها الزورق في حالها، خافت صفيرها بارد زفيرها، علا الطحلب جوانبها فكساها مثل السابري المضاعف نسجه، تدلى من جانبيها سلمان يصعد عليهما المسافرون وينحدرون، فرسا بنا الزورق إلى جانب الباخرة، فتبينت اسمها منقوشا بالخط الكبير «بحر جديد».
فما راعني إلا أحد صاحبي وقد أخذ بيميني وجذبني إلى نحو السلم، وما هممت بصعوده إلا وتخاطفتني الأيدي وعلت في أذني أصوات من معي يقولون «بيورك، بيورك» تفضلوا تفضلوا، فما خلصت من أيديهم إلا بعد أن بلغت أعلى الباخرة.
فأدخلت المجلس وأخذ حراسي بأطرافي. وقد اشتهت نفسي التدخين، فمددت يدي إلى ملابسي لأستخرج منها سكايري، فقبض عليها أحد الجلوس قبضة كاد يقتلعها من أصلها. قلت: ما لك؟ - ماذا تريد لتصنع؟ - أريد أن أستخرج سيكارة أدخنها.
Unknown page