جاءت خادمتي يوما من الأيام ومعها فولاد يكن؛ وهو أكبر أبنائي، وطلبت إلى الموكلين بحفظي أن يدخلوا به عندي ولم يتجاوز عمره العام الواحد يومئذ، فخافوا أن تكون في ثيابه ورقة أخفاها أهل بيتي، ففتشوا الطفل فلم يجدوا معه شيئا، ثم خافوا أن أكون كتبت ورقة وأعددتها ليوم يجيء الطفل وأن أنال غرة منهم فأجعلها في ثيابه، وما كتموا ذلك حتى عن الخادمة، فرجعت آيسة وهي لا تكاد تصدق ما سمعت أذناها وما رأت عيناها.
وقد أذنوا ذات مرة لوالدتي ولامرأتي أن ترياني، ولكن جعلوا لهما شرطا ألا تكلماني إلا باللغة التركية وألا تسرا إلي الحديث، فلما أدخلتا علي أحاط بنا رجال الشرطة من كل ناحية، فجعلت أمي تؤنبني فتقول: بلغني يا بني من المتصرف أنك نطقت في سلطاننا بكلام غير حسن، من أين جاءك هذا الأدب الجديد وأنت تعلم أننا نحيا تحت أمنه ونرتع في بحبوحة نعمه؟! ولا أصدق أن تكون قلت هذا الكلام ، وأنت أشد الناس إخلاصا لمولاك. فقلت: يا أماه، اقصري في ملامك، إني عنك في شغل، وإن في فؤادك مقدار ذرة من حب هذا الرجل فابرئي مني إلى الله. ثم التفت إلى امرأتي وقلت: أود أن تلزمي بيت زوجك وأن لا تجعلي لقدميك مراحا على أرض الظلم. فخرجت المرأتان وهما تذرفان الدموع.
ولما كانت الليلة العشرون بعد دخولي السجن، بلغ مني اليأس أقاصي الروح، وكانت النوبة في تلك الليلة للقوميسير شاكر أفندي الذي تقدم ذكره، فاقترب مني بكرسيه وأخذ في يده أوراق اللعب وجعل ينظر فيها على الطريقة المعروفة عند الغربيين؛ وهي المسماة «بسيانس» أي الصبر، ويزعم أناس أن نابليون الأول كان يسلي نفسه بهذه اللعبة حين اعتقاله بجزيرة القديسة هيلانة. فقال شاكر أفندي: هذا فأل مجرب، لا يخطئ أبدا، فأضمر في نفسك ما تريد معرفته وأنا أصف الورق ثلاث مرات. فإذا نجح الفأل ثلاث مرات فمرادك لا محالة ميسر، وإذا نجح مرتين فيغلب تيسره على تعذره، وإذا نجح مرة واحدة فتعذره أقرب من تيسره، وإذا لم ينجح الفأل ولا مرة واحدة، فدون مرادك اجتياز ما بين السماء والأرض. - سل ورقك أأخرج من السجن قريبا أم يطول فيه مقامي.
فنظر الرجل في الورق وأجاله ثلاث مرات فلم ينجح في واحدة منها، فقلت: سل ورقك أأرسل قريبا إلى أقاصي بلاد الأناضولي منفيا، ويكون ذلك في غفوة من عيون أهلي، ويطول في النفي مقامي؟ فامتنع صاحبي بادئ بدء، ثم أجابني إلى طلبي، فأجال الورق ثلاث مرات، فنجح الفأل فيها جميعا، فأخذ الورق وجلد به الأرض وقال: هذا فأل غير صادق. قلت: وكل فأل هو غير صادق. وتركنا بعد ذلك ما كنا فيه من الفأل، واضطجعت مكاني، فغلب علي النوم، فانتبهت على يد تهز إحدى كتفي هزا، وإذا رجل ربعة القامة ممتلئ الجسم عليه سيماء أهل الجنايات، وخلفه شرطي بيمينه مصباح فيه شمعة مشعلة؛ فنهضت فوجدت القوميسير شاكر أفندي قد انتهت نوبته وجاء مكانه رجل آخر اسمه حسين أفندي، وهو كذلك من أهل «بوسنة سراي»، وكان حسين أفندي مطرقا مفكرا، لا يبدي حراكا، فقلت للرجل الذي أيقظني: ماذا تريد؟ - أريد أن أذهب بك إلى السجن. - أولست اليوم مسجونا؟ - كلا، ما كنت إلى الساعة إلا ضيفا، ولكنك مذ الآن مسجون. - كم الساعة الآن؟ - نصف الليل. - أنا لا أبرح مكاني هذا قيد شبر. وإذا شئتم أن تذهبوا بي إلى السجن فليكن ذلك نهارا. - لا تخف. - ما أنا بخائف، ولكني لن أبرح مكاني.
فلما سمع الرجل مني هذا الكلام فكر مليا ثم ذهب فغاب عني دقائق قليلة وعاد يستعيد معي كلامه. غير أنه قال لي: الطاعة خير من العصيان. وإذا لم تذهب معي مختارا أخشى أن يذهبوا بك مكرها، وذلك ما لا أحب لك. - إذن فاذهبوا بي كرها. أما أنا فلن أختار المسير في مثل هذا الحين إلى موضع لا أعرفه. - ولكن كيف تستطيع أن تغالب الحكومة، دع عنك العناد، إن وراءه لندما طويلا. وإذا أوجست من ذهابك شرا فذلك وهم منك، وإني لأقسم لك بالله ألا يصيبك أقل مكروه. - لا سبيل إلى ما تريد، فاقض ما أنت قاض.
فذهب الرجل والشرطي الحامل للمصباح وبقيت مع حسين أفندي والشرطي المناوب، فقال حسين أفندي: أرى يا بك ألا تخالف القوم، فتحرجهم معك، ولا خوف في ذهابك مع الرجل، والسجن ليس بعيدا عنا. ثم عاد الرجل ومعه حامل المصباح، فقال لي: أقسم لك برأس السلطان أنك لن يصيبك أذى. وأستحلفك بكل عزيز عليك ألا تكرهنا على إبداء الخشونة. - حلفت لي بالله فلم أصدق حلفتك، ثم حلفت لي برأس السلطان فأيقنت صدق ما تقول، وها أنا طوع إشارتك، فاذهب بي إلى حيث تريد.
السجن الجديد
نادى السجان بأعلى صوته: من القادم؟ وجاوبه من يقودني مسرعا: لا غريب بيننا، فسمع صرير الباب واجتزنا ساحة حتى وقفنا أمام مديره، فتأمل الرجل وجهي وقيد اسمي في دفتره، وذكر من أوصافي ما يحتاجه، ثم سعى بي رفيقي إلى ناحية، فناداني أن طأطئ رأسك واصعد السلم على مهل. وصعد وأنا على إثره، فدخلنا حجرة خالية ما بها إلا خوان في وسطها وإلى جانبه كرسي فيه خرق واسع لم أنتبه له، فثبت الرجل شمعة كان أخذها على ذلك الخوان وأشار إلي بالجلوس على الكرسي، وحين أردت أن أستقر فوقه هويت من خرقه إلى الأرض حتى التصقت ركبتاي بصدري فجعلت أحاول الخلاص فلا أستطيعه، وبهت الرجل فجعل ينظر إلي دهشا ولا يتحرك من مكانه، ولم أزل أعالج ذلك الخرق إلى أن انقلب بي الكرسي على الأرض، وخرجت مجهودا ينقط جبيني عرقا، فقلت: ساء ما نتبوأ من مقاعدك أيتها الدار. ووقفت أنفض التراب عن ثيابي، وحين عاودت صاحبي السكينة ذهب وعاد وهو يحمل فرشي وكانوا أتوا به من داري قبل ذلك بأيام، فجعله على أرض الغرفة وودعني وانصرف.
فلما اطمأنت نفسي إلى الوحدة؛ هاجت لوعاتي وجاشت همومي وسالت عبرات لا يكفكفها الصبر ولا ينهنهها الوقار. ما أرخص تلك اللآلئ عند من كان على شاكلتي من أهل الضعف. هذا ذنب أقر به طائعا وأسجله على نفسي آسفا. وإن من العار على المجاهد في حب وطنه أن يغلب عليه طبع السيدات، فيبكي في موطن هو أحق بأن يبدو فيه بنخوته. ولكن كذا كان؛ بكيت ثم بكيت ثم بكيت. لا القوافي أسعدتني، ولا الحكمة صاحبتني، ولا العزيمة أهابت بي. إن هو إلا الدمع دجانا وتهتانا، بللت به مواضع ألهبها الحزن، فكنت شاعرا في نظم العبرات، ولم أكن شاعرا في نظم الأبيات.
يا لك من ليل أسود الإهاب موحش الجوانب، أظلمت هواديه، وما استنارت تواليه، ويا لك من مثوى بين تلك الألواح المحددة لتكون أرضا والمشبكة لتكون سقفا! هكذا طال الحزن فغشيني نوم كأنه الموت، ظللت صريعه إلى الصباح، وما انتبهت إلا وقد بدا النهار مفتوق الأديم أغر الطلعة، فاستويت على حرف الكرسي المخرق وإذا كوة مفتوحة في بعض الحيطان تناصفها سلالم لا أرى أوائلها ولا أواخرها، أطل منها رجلان، قال أحدهما لصاحبه: ما هذا الذي أرى؟ - لعله ضيف جديد. - لا مرحبا به، والله لكأنه من إوز البر. - مثل هؤلاء لا ينبغي أن يصطبح بأوجههم؛ فهي شؤم على من يراها. - هذا وجه خلق ليزرع فيه الفجل. - خلق ليبصق عليه.
Unknown page