Machiavelli Muqaddima Qasira
مكيافيللي: مقدمة قصيرة جدا
Genres
ويختتم مكيافيللي تحليله بالإشارة إلى مسارات السلوك المتوقعة من أي أمير «قوي» بحق، فهو يعرض في الفصل التاسع عشر لهذه النقطة شارحا ما لن يفعله مثل هذا الحاكم، مؤكدا أنه لن يفعل أبدا أي شيء يستحق الازدراء، وسوف يحرص أشد الحرص على تجنب التحول إلى هدف للكراهية (63). ثم يعرض لما سوف يفعله مثل هذا الحاكم في الفصل الحادي والعشرين، فيقول إنه سيبرز دائما بشجاعة، إما باعتباره «حليفا حقيقيا أو عدوا صريحا.» في الوقت نفسه سوف يحرص، مثل فرديناند ملك إسبانيا، على أن يظهر نفسه لرعاياه في أعظم جلال ممكن، فيفعل «أشياء عظيمة»، ويبقي رعاياه «في حالة من الترقب والدهشة في انتظار ما تؤتيه من ثمار» (77).
في ضوء ما سبق، يسهل ثانية أن نفهم السبب في شعور مكيافيللي بهذا القدر من الإعجاب تجاه شيزاري بورجا، ورغبته في اتخاذه نموذجا لفضيلة «القوة» - على الرغم مما كان يشوبه من عيوب واضحة - يحذو حذوه غيره من الأمراء الجدد. فقد أظهر بورجا، في مناسبة رهيبة، أنه فهم تماما الأهمية القصوى لتجنب كراهية الشعب مع إبقائهم في الوقت نفسه شاعرين بالرهبة منه، كانت هذه المناسبة عندما أدرك أن حكمه لرومانيا، حينما كان في يدي ريميرو دي أوركو الماهرتين لكن المستبدتين، معرض لأشد التهديدات خطورة، وهو أن يصبح مكروها من قبل من يعيشون تحت حكمه. وكما رأينا، كان مكيافيللي شاهد عيان على الحل القاسي لهذه المعضلة الذي نفذه بورجا، حينما قتل ريميرو على حين غرة، وعرض جثته في ميدان عام قربانا لاحتواء غضب الشعب.
ربما ينبغي أن نرد إيمان مكيافيللي بالحاجة الماسة إلى تجنب كراهية الشعب وتمرده إلى هذه اللحظة تحديدا. لكن على الرغم من أن تصرف الدوق لم يعمل إلا على تأكيد حسن تقديره للواقع السياسي، ليس ثمة شك في أن هذا الحدث خلف في نفس مكيافيللي تأثيرا عميقا؛ فحينما بدأ في مناقشة مسائل الكراهية والتمرد في كتاب «الأمير»، استدعى هذا الحدث تحديدا لتوضيح وجهة نظره، فأوضح أن تصرف بورجا أثار تأمله باعتباره صحيحا إلى حد بعيد؛ فقد كان تصرفه حازما، وتطلب شجاعة، وأحدث التأثير المرغوب تماما؛ لأنه «جعل الشعب راضيا ومندهشا معا»، وفي الوقت نفسه أزال سبب كراهيتهم. ثم يلخص مكيافيللي فكرته في أشد نبراته برودا، فيشير إلى أن هذه السياسة ليست جديرة «بأن تعرف» فقط، بل بأن تكون أيضا «مثلا يحتذى به من قبل الآخرين» (26).
الأخلاق الجديدة
يعي مكيافيللي تماما أن تحليله الجديد عن «قوة» الأمير يثير بعض الصعوبات الجديدة، وهو يعرض المعضلة الرئيسية في الفصل الخامس عشر قائلا: من جهة، فإن «الحاكم الذي يرغب في الاحتفاظ بسلطته يجب أن يكون على استعداد للتصرف على نحو غير أخلاقي متى يصبح ذلك ضروريا»، لكن من جهة أخرى لا بد له أن يحرص على عدم اكتساب سمعة رجل شرير؛ لأن هذا سوف يقوض سلطته بدلا من تأمينها (55). وهكذا فإن المعضلة تتمثل في كيفية تجنب الظهور بمظهر الشرير وأنت لا تستطيع أن تتجنب التصرف على نحو شرير.
علاوة على ذلك، فإن المعضلة أكثر تعقيدا من ذلك؛ لأن الهدف الحقيقي للأمير ليس مجرد تأمين سلطته، بل يضاف لذلك بطبيعة الحال الفوز بالكرامة والمجد. يشير مكيافيللي في روايته قصة أجاثوكليس ملك «صقلية» في الفصل الثامن إلى أن هذا يزيد تعقيد المعضلة التي يجد أي حاكم جديد نفسه في مواجهتها، فقد قيل لنا أن أجاثوكليس «كان يحيا دائما حياة منغمسة في الملذات»، وكان يعرف عنه أنه بلغ حدا مروعا من «السلوك القاسي عديم الإنسانية». حققت له هذه الصفات نجاحا هائلا، ما أتاح له أن يرتفع من «أحط الأصول وأكثرها فقرا» ليصبح ملكا على سرقوسة، وأن يحتفظ بإمارته «دون مواجهة أي شغب مدني» (30-31). لكن مكيافيللي يحذرنا بجملة كاشفة بدرجة كبيرة، بأن مثل هذا القدر من القسوة السافرة قد يجعلنا نفوز بالقوة «ولكن ليس بالمجد»؛ فعلى الرغم من أن أجاثوكليس كان قادرا على الحفاظ على مكانته وحكمه بالاعتماد على هذه الصفات، «لا يمكن أن توصف هذه الصفات بأنها «قوة»»، و«لا يمكن أن تجعله في مصاف أفضل البشر» (31).
يرفض مكيافيللي أن يسلم بفكرة أن المعضلة يمكن أن تحل من خلال وضع قيود صارمة لقدر الشر الذي ينبغي للأمير أن يمارسه، ومن خلال التصرف بشرف عموما مع رعاياه وحلفائه. هذا تحديدا هو ما لا يستطيع المرء أن يأمل في تحقيقه؛ لأن كل البشر في كل العصور «جاحدون متقلبون مدعون منافقون متجنبون للخطر متلهفون على المكاسب»، بحيث إن أي حاكم «يركن كليا إلى وعودهم، ويهمل إعداد وسائل الدفاع الأخرى، سوف يسقط» (59). مضمون ذلك هو أن أي أمير، لا سيما الجديد، غالبا - وليس فقط في بعض الأحيان - ما سيجد نفسه مضطرا بحكم الضرورة إلى التصرف على نحو يتعارض مع الإنسانية، إذا كان يرغب في أن يحتفظ بمنصبه ويتجنب التعرض للخداع (62).
هذه صعوبات شديدة، لكن مع ذلك يمكن التغلب عليها. فالأمير لا يحتاج إلا أن يتذكر أنه من غير الضروري امتلاك كل الصفات التي عادة ما تعتبر جيدة، لكن من اللازم التظاهر بامتلاكها (66). من المرغوب فيه أن ينظر إليك باعتبارك شخصا متسامحا، ومن العقلانية أن تبدو رحيما وليس قاسيا، ومن الضروري بوجه عام أن تبدو أهلا للتقدير (56، 58، 64). إذن، الحل هو أن تصبح متظاهرا ومنافقا كبيرا، وتتعلم مهارة «الدهاء في إرباك الناس» وجعلهم يصدقون ما تتظاهر به (61).
كان مكيافيللي قد تعلم درسا مبكرا عن قيمة الدهاء في إرباك الناس؛ فقد كان حاضرا - كما رأينا - حينما تطور الصراع بين شيزاري بورجا ويوليوس الثاني في الأشهر الأخيرة من عام 1503، والواضح أن الانطباعات التي خرج بها من تلك المناسبة كانت لا تزال تستحوذ على تفكيره عندما بدأ الكتابة عن النفاق في كتابه «الأمير». فهو يشير مباشرة إلى هذا الحدث الذي شهده، مستخدما إياه باعتباره مثاله الرئيسي على الحاجة إلى البقاء في حالة حذر من نفاق وازدواجية الأمراء، ويتذكر أن يوليوس تمكن من إخفاء كراهيته لبورجا ببراعة، بحيث استدرج الدوق للوقوع في الخطأ الفادح المتمثل في الاعتقاد بأن «المصالح الجديدة تجعل الرجال ذوي الشأن ينسون الجروح القديمة» (29). وهكذا تمكن يوليوس من استخدام قدراته في الخداع استخداما حاسما؛ فبعد أن فاز في انتخابات البابوية بدعم كامل من بورجا، كشف فجأة عن شعوره الحقيقي، وتحول ضد الدوق، وكان سببا في سقوطه النهائي. لا بد أن بورجا تخبط في هذه المرحلة، ويشعر مكيافيللي أنه يستحق أن يلام بشدة لخطئه هذا؛ فقد كان عليه أن يعلم أن موهبة نشر حالة من الإرباك والحيرة تشكل جزءا من ترسانة أسلحة أي أمير ناجح (34).
لكن من المستبعد أن مكيافيللي كان يجهل فكرة أنه من خلال تزكيته فنون الخداع باعتبارها مفتاحا للنجاح، فإنه يصبح عرضة لأن يبدو شخصا شديد السطحية. صحيح أن عددا أكبر من الفلاسفة الأخلاقيين الأرثوذكسيين كانوا على استعداد دائم للنظر في اقتراح إمكانية استخدام النفاق طريقا مختصرة موصلة إلى المجد، لكنهم دائما ما ذهبوا إلى استبعاد أي إمكانية من هذا القبيل، فشيشرون على سبيل المثال تناول هذه الفكرة تناولا صريحا في الكتاب الثاني من سلسلة «الواجبات»، لا لسبب آخر سوى استبعادها باعتبارها حمق بين؛ إذ يقول إن أي شخص «يعتقد أنه يستطيع الفوز بمجد دائم عن طريق التظاهر مخطئ جدا»، والسبب هو أن «المجد الحقيقي يمد جذورا عميقة وينشر فروعه على نطاق واسع»، في حين أن «جميع صور التظاهر سرعان ما تهوي أرضا مثل الأوراق الذابلة المتساقطة» (2 : 12، 43).
Unknown page