Machiavelli Muqaddima Qasira
مكيافيللي: مقدمة قصيرة جدا
Genres
في بعض الأحيان، كانت تقدم فكرة أن الرجال قد يتمكنون من الاستفادة من «الحظ» بهذه الطريقة باعتبارها رؤية مكيافيللية خاصة. لكن، حتى في هذه الفكرة، يعتمد مكيافيللي على رصيد من الصور المألوفة؛ ففكرة أن «الحظ» يجب أن يعاند بعنف كانت محل تركيز سينيكا، في حين أن بيكولوميني في «حلم بالحظ» مضى يستكشف ما ينطوي عليه هذا المعتقد من إيحاءات شهوانية، فهو حينما يسأل إلهة «الحظ»: «من الذي يستطيع أن يحتفظ بك أكثر من غيره؟» اعترفت أنها تنجذب أشد الانجذاب إلى الرجال «الذين يشلون قوتي بالشجاعة الفائقة.» وأخيرا، حينما يجرؤ على أن يسأل: «من أكثر الأحياء قبولا بالنسبة لك؟» تخبره أنها بينما تنظر بعين الازدراء إلى «أولئك الذين يفرون مني»، تشعر بأشد الإثارة «تجاه أولئك الذين يطاردونني ويدفعونني إلى الفرار.»
1
وإذا كان الرجال قادرين على شل قوة «الحظ»، وبالتالي على بلوغ أسمى أهدافهم، فلا بد أن يكون السؤال التالي الذي ينبغي طرحه: ما الأهداف التي ينبغي للأمير الجديد أن يضعها نصب عينيه؟ يبدأ مكيافيللي بأن يرسي حدا أدنى، مستخدما عبارة يتردد صداها في كتاب «الأمير». يجب أن يكون الهدف الأساسي «الحفاظ على الدولة»، وهو يعني بذلك أن الحاكم الجديد يجب أن يحافظ على الحالة الراهنة للأمور، ويسيطر بصفة خاصة على النظام العام للحكومة، لكن إلى جانب الأهداف الرامية إلى الحفاظ على الدولة، هناك أهداف أكبر بكثير يجب السعي لتحقيقها، ومكيافيللي إذ يحدد ماهية هذه الأهداف يكشف من جديد أنه وريث شرعي بحق للمؤرخين والفلاسفة الأخلاقيين الرومان. فهو يفترض أن جميع الرجال يريدون في المقام الأول أن ينالوا هبات «الحظ»؛ لذا فإنه يتجاهل تماما فرض المسيحية الأرثوذكسية القويمة (الذي أكده، على سبيل المثال، القديس توما الأكويني في كتابه «حكم الأمراء») بأن الحاكم الرشيد يجب أن يتجنب إغراءات مجد الدنيا وثروتها، كي يتأكد من أنه سينال مكافآته السماوية. بل على العكس من ذلك، يبدو واضحا لمكيافيللي أن أسمى الجوائز التي يتعين على المرء أن يتبارى للفوز بها هما «المجد والثروة»؛ أروع هبتين تملك إلهة «الحظ» أن تهبهما (85).
لكن مكيافيللي، شأنه شأن الفلاسفة الأخلاقيين الرومان، ينحي اكتساب الثروات جانبا معتبرا إياها مسعى وضيعا، ويذهب إلى أن أنبل أهداف الأمير «البعيد النظر والبارع» يجب أن يتمثل في إرساء شكل من الحكم يكون «من شأنه أن يكسبه الشرف» ويجعله مجيدا (87). ويضيف أن الحكام الجدد تحديدا يمكنهم حتى نيل «مجد مضاعف»؛ إذ لا تتسنى لهم فقط فرصة تدشين إمارة جديدة، بل أيضا تثبيت دعائم هذه الإمارة «بقوانين جيدة، وأسلحة قوية، وحلفاء جديرين بالثقة، وسلوك يقتدى به» (83). وهكذا فإن بلوغ الشرف والمجد في الدنيا هو الهدف الأسمى لمكيافيللي بقدر ما هو كذلك لليفيوس أو شيشرون؛ فحينما يسأل نفسه في الفصل الأخير من كتاب «الأمير» عما إذا كانت ظروف إيطاليا مواتية لنجاح أي حاكم جديد، فهو يتعامل مع هذا السؤال على اعتبار أنه مرادف للتساؤل عما إذا كان أي رجل «قوي» يستطيع أن يأمل في أن «يشكلها في قالب يكسبه الشرف» (87). وحينما يعرب عن إعجابه بفرديناند ملك إسبانيا - أكثر من حظي باحترامه من بين كل الحكام الذين عاصرهم - يبرر ذلك بأن هذا الرجل قد فعل «أشياء عظيمة» جعلته «أكثر الملوك شهرة ومجدا في العالم المسيحي» (76).
يعتقد مكيافيللي أن هذه الأهداف ليست صعبة التحقيق للغاية - على الأقل، في أدنى صورها - عندما يرث الأمير ولاية «اعتادت على حكم من ينتمون إلى عائلة الحاكم الحالي» (6). لكنها صعبة التحقيق جدا على الأمير الجديد، لا سيما إذا كان يدين بمنصبه لضربة حظ، فمثل هذه الأنظمة «لا يمكن أن تمد جذورها كما ينبغي»، ومعرضة لأن تهوي مع أول عاصفة عارضة يشاء «الحظ» أن يرسلها عليها (23)، ولا يمكنها أن تضع - أو بالأحرى يتحتم عليها عمليا ألا تضع - أي قدر من الثقة في استمرار «الحظ» الحسن؛ لأن هذا يعني الاعتماد على أقل القوى جدارة بالثقة في الشئون الإنسانية. ويرى مكيافيللي أن السؤال التالي الأكثر حسما هو: ما المبادئ، وما التعاليم، التي يمكن أن تقدم إلى حاكم جديد، بحيث إذا «طبقت بمهارة» سوف تجعله «يبدو قويا وراسخا» (83)؟ إجابة هذا السؤال هي موضوع الجزء الباقي من كتاب «الأمير».
الثورة المكيافيللية
تأتي النصيحة التي يقدمها مكيافيللي للأمراء الجدد في جزأين أساسيين؛ النقطة الأولى والجوهرية التي يوضحها هي أن «الأساسين الرئيسيين لأي دولة» هما «القوانين الجيدة والجيوش القوية»، يضاف إلى ذلك أن الجيوش القوية قد تفوق القوانين الجيدة أهمية؛ لأن «من المستحيل أن توجد قوانين جيدة إلا إذا وجد جيش قوي»، بينما «إذا وجد جيش قوي فإن القوانين الجيدة توجد بالضرورة» (42-43). والمغزى - الذي عبر عنه تعبيرا يحمل لمسة معتادة من المبالغة - هو أن الأمير الرشيد «يجب ألا يضع نصب عينيه هدفا آخر» سوى «الحرب وأساليبها وممارساتها»، «وألا يشغله هم آخر» أكثر منها (51-52).
ويمضي مكيافيللي فيوضح أن الجيوش في الأساس نوعان: مرتزقة مأجورون وقوات مسلحة من أبناء الوطن. في إيطاليا كان نظام المرتزقة مطبقا على نطاق يكاد يكون شاملا، لكن مكيافيللي يشرع في الفصل الثاني عشر في شن هجوم شامل عليه، فيقول إن الإيطاليين ظلوا «لسنوات عديدة» «تحت سيطرة جيوش مرتزقة»، وكانت النتائج المترتبة على ذلك مروعة؛ فشبه الجزيرة برمته «احتله تشارلز، ونهبه لويس، ودمره فرديناند، وعامله السويسريون بازدراء» (47). لم يكن من الممكن توقع تحسن الأحوال؛ لأن كل المرتزقة «بلا فائدة ويمثلون خطورة»؛ فهم «مفككون، وطموحون وغير منضبطين وغادرون»، وقدرتهم على تدميرك «مؤجلة فقط إلى أن يحين الوقت، حينما يطلب منهم القتال» (43). بدت العواقب واضحة لمكيافيللي، فراح يعبر عنها بانفعال قوي في الفصل الثالث عشر ، ويقرر أن الأمراء الحكماء دائما ما «يتجنبون استخدام هذه الفرق العسكرية ويؤلفون جيوشا من رجالهم.» وهو مقتنع بهذا اقتناعا قويا إلى حد يجعله يضيف الزعم، الذي يكاد يكون سخيفا، بأنهم «يفضلون الخسارة باستخدام قواتهم الخاصة على النصر باستخدام قوات أجنبية» (49).
هذه النبرة الشديدة اللهجة في حاجة إلى بعض التفسير، لا سيما في ضوء حقيقة أن معظم المؤرخين قد انتهوا إلى أن نظام المرتزقة عادة ما يعمل على نحو بالغ الفعالية. أحد الاحتمالات أن مكيافيللي كان ببساطة يتبع تقليدا أدبيا في هذه المرحلة، فالادعاء بأن المواطنة الحقة تتضمن حمل السلاح كان محل تأكيد ليفيوس وبوليبيوس وأرسطو، ثم حمل رايتها عدة أجيال من الفلاسفة الإنسانيين الفلورنسيين بعد أن أحيا هذه القضية الجدلية ليوناردو بروني وتلاميذه. لكن، قد يكون من المستغرب جدا أن يتبع مكيافيللي أحب الأساتذة وأعزهم عنده بهذه الطريقة الخانعة، والاحتمال الأرجح أن مكيافيللي، على الرغم من هجومه بوجه عام على الجنود المأجورين، ربما كان يفكر بصفة خاصة في المصائب التي نزلت بمدينته الأم، التي قاست دون شك سلسلة من المهانات على أيدي قادتها المرتزقة إبان الحرب الممتدة ضد بيزا؛ إذ لم تكن حملة عام 1500 وحدها كارثة محققة، بل حلت نكسة مماثلة عندما شنت فلورنسا هجوما جديدا عام 1505 نتيجة لتمرد قادة الجند، الذين كانوا مرتزقة في أغلب الأحيان، حالما بدأ الهجوم، وفي غضون أسبوع كان لا بد من الانسحاب.
كما رأينا، أصيب مكيافيللي بالصدمة حينما اكتشف، وقت هزيمة عام 1500، أن الفرنسيين يعتبرون الفلورنسيين محط سخرية بسبب انعدام كفاءتهم العسكرية؛ ولا سيما بسبب عجزهم عن إخضاع بيزا لسيطرتهم. وبعد تجدد الفشل عام 1505، أخذ هذا الأمر على عاتقه ووضع خطة مفصلة لإحلال قوات مسلحة من مواطني فلورنسا محل القوات المأجورة التي تستخدمها. وافق المجلس الأعلى على الفكرة لفترة مؤقتة في ديسمبر عام 1505، وفوض مكيافيللي ببدء التجنيد، وبحلول شهر فبراير التالي كان جاهزا لإقامة أول عروضه العسكرية في المدينة، وهي مناسبة حظيت بإعجاب كبير من كاتب اليوميات لوكا لاندوتشي، الذي سجل يقول إن «هذا يعتقد أنه أرقى حدث على الإطلاق جرى ترتيبه لفلورنسا.»
Unknown page