رأيت رجلا يهجو الدنيا ويزدريها كالمسيح، ولكنه لا يترجى ملكوتا ولا نعيما، فماذا نعمل نحن الذين لا نصلي ولا نشكر إلا طمعا بالثواب؟ وأين هي الغاية نسعى لها؟ بل أين هي الفلسفة التي يجب أن نقر له بها ونضعه لأجلها بين حكماء الأجيال؟
فنفضت يدي من صاحبي وقلت: لا هذا ولا ذاك. ما هناك إلا أعزب الدهر مقيم في غرفة سوداء، يناجي الأشباح والأرواح، شفتان ترتجفان وتتمتمان، يستعرض جبهة الأزل وساحات الأبد، يفكر دائما بالمعضلة السرمدية، ويصوب نحوها نبراس عقله، فيهرب الظلام ولا يكشف له النور عن شيء، فيلتجئ إلى ما طبع عليه؛ أي السخر والهزء، فيضحك من موكب الحياة الصاخب؛ لأنه لا يقدر أن يماشيه، فيرى جميع الناس صما عميا بكما:
أفضل من أفضلهم صخرة
لا تخدع الناس ولا تكذب
فقلت: تلك نتيجة مركب النقص، كما يزعم علماء هذا الزمان. عجز أبو العلاء، فرأى جميع الناس أشرارا قساة القلوب، يفتكون بالضعيف ويصفون له «الفروج» لأنهم استضعفوه، فلماذا لم يصفوا شبل الأسد؟
غضب المعري على المستطيعين؛ لأنه غير مستطيع مثلهم، فعد النسل جناية.
تحدث كثيرا عن المرأة لأنه يحبها، وأساء الظن بها لأنه يريدها ويغار عليها، وهو عاجز من جهتين، فقعد يكره الناس بالحياة، وفي الحياة ناموس يجذبنا إليها؛ فكيف يقوى على صده ضرير، ولا سيما أنه يقول: «أم دفر لقد هويتك جدا ...» كما سترى. إذن، غضب أبو العلاء على الدنيا لأنها لم تحسن استقباله، فهجاها انتقاما منها، ولكنها أجابته بقوله :
رب لحد قد صار لحدا مرارا
ضاحك من تزاحم الأضداد
أقول هذا وأشهد أني ظلمت الشيخ - قبل أن أدرك سره - والله وحده يعلم إن كنت أدركت شيئا ...
Unknown page