على أن الملك أرغون لم يكن يتوقع غير هذا الجواب، فجاءه وهو على تعبية لمهاجمة المدينة، فباغتها بجيشه قبل أن تأخذ أهبتها للقاء، فنصب عليها آلات الحصار، وواثبها بقسوة عاتية، فقابلته بمثل شدته، وصبرت للحصار صبرا شريفا يتفق المؤرخون على التنويه بذكره، مع أنها لا تأمل نجدة تأتيها فتفرج الضيق عنها، وليس لديها من المئونة ما يكفيها لحصار طويل ، حتى إذا نشب الجوع يهددها وآضت المقاومة إلى ضرب من الجنون فالانتحار، اضطر عبد الملك إلى طلب الصلح والتخلي عن عاصمته، وهو في يقظة من الألم المرير لغفلته الحمقاء.
فعاهده ألفنس أن يضمن لأهل المدينة الأمان على النفوس والأموال، وأن يترك لهم الحرية في إقامة شعائر الدين وشرائع التقاضي، وأن يخيرهم في البقاء أو المهاجرة.
ففتحت سرقسطة أبوابها في 18 تشرين الثاني 1118م/4 رمضان 512ه؛ فدخلها ملك أرغون بعساكره محفوفا برسوم الأبهة والجلال، وفيما هو يحتل قصورها وثكناتها، ويحول مسجدها الجامع إلى كاتدرائية، كان عبد الملك بن هود يشد أثقاله ويحمل أمواله ويخرج في مأتم من أهله وحرسه إلى حصن روطة ليتحذه مقرا، وهاجر بعده كثير من المسلمين، فمنهم من اقتفى أثره، ومنهم من قصد مرسية أو بلنسية.
وجعل ملك أرغون سرقسطة عاصمة لمملكته كما جعل ملك قشتالة طليطلة من قبل، فانهارت بها القاعدة الثانية من كبريات قواعد الأندلس العربية بعدما لبثت أربعمائة سنة حصنا ركينا من حصون المسلمين، وقذى في عين إسبانية المسيحية، تعترض طريقها، جاثمة على نهر إبره.
معركة الأرك
كل أمراء الأندلس - كعبد الملك بن هود - ساخطون على المرابطين، يشتهون زوال دولتهم، لا يحترسون من صفقة حمقاء يعقدونها على غرار سرقسطة؛ توسلا للخلاص من جفاة الصحراء، شاء القدر المشئوم أن يفزعوا إليهم في تفسخهم، وخناق الإسبان يلتف على أعناقهم.
فما نفس يوم الزلاقة عن صدورهم حتى تهاوت التيجان عن الرءوس، وتداعى عليها استقلال شعب ما انفك - منذ أربعة قرون - ينافح الأعداء حرصا عليه، ويقرب لهيكله الحرام غوالي الدماء.
فإذا هم في أرضهم طعام مأكول، ودولتهم ولاية في دولة الملثمين، وإذا مراكش عاصمة لقرطبة أم العواصم، وحاضنة الخلفاء والملوك، تنهى وتأمر؛ فتطاع ولا تسأل، وتعطى ولا تحاسب، فإن المرابطين ما تعودوا في عسفهم، وعسف وطأتهم، مجاملة وسماحا.
إنهم يسوقون أهل الأندلس سوق الغالب للمغلوب، ومخاشنة البدو الغلاظ للحضر المتنعمين؛ يطاردون الفكر فما تطمئن إليهم فلسفة أو منطق، ويبتعثون التعصب؛ فكل مذهب إلا مذهب مالك مضطهد مكروه، بالحيف والإرهاب يأخذون الناس، وآذانهم يفتحون للدسائس والوشايات.
دانت لهم الأندلس مستكينة للبطش والقوة، فامتلكوها قادرين، ولكنهم عجزوا عن امتلاك القلوب؛ برابر غرباء، لا روحهم روحها، ولا عقليتهم عقليتها، فيهم قسوة وصلابة واستبداد، فلبثت تململ حاقدة تحت قبضتهم العاتية، شأن كل أمة مهيضة، تعنو للمسيطر ما دامت له القوة، حتى إذا آنست فيه الضعف أفلتت غاضبة تطلب استقلالها المفقود.
Unknown page