وسيتسمر الأمر على هذا النحو ثلاث سنوات؛ أي حتى نهاية 1934، ثم تبدأ نتائج هذه السنوات العجاف بالظهور؛ فمؤنس الذي كان مصابا بالبنيمونيا كان قد اجتاز تقريبا عتبة الخطر، غير أن طه اضطر لملازمة الفراش بسبب المرض ذاته، وكان مرضا في منتهى الخطورة في حقبة لم تكن تعرف بعد المضادات الحيوية فضلا عن أنه يصيب رجلا يعاني في الأصل من محنة مؤلمة. ولم يكن هناك أي دواء أكيد حقا، وكان لا بد من السهر عليه مع الانتظار والأمل والدعاء. كان في فترات هذيانه يتقاتل مع كل خصومه، وكان يناضل طوال الليل ثم لا يلبث أن يسقط على مخدته في إعياء كامل. أيسعني أن أنسى تفاني الدكتور سامي كمال؟! حضوره وعاطفته اللذين كانا يمنحاني الشجاعة؟! لقد أمضى فريد عدة ليال في البيت، ولا أدري كيف استطعت البقاء في صحو كامل إحدى عشرة ليلة، أنا التي كنت أحتاج للكثير من النوم. وأخيرا شفي طه ونجا من المرض، ولم أكن أريد أن أفكر بغير ذلك على الإطلاق.
أما هو، فقد أراد أن يبدأ العمل على الفور. كان يسهم في تحرير القسم الأدبي في صحيفة «السياسة» مقابل ثلاثين جنيها، غير أنه كان شديد الضعف، وكان عليه أن ينتظر قليلا.
واضطررنا إلى الانتقال من بيتنا. كنا نسكن واحدا من بيوت مصر الجديدة المخصصة للموظفين. والحق أننا طردنا منه بالمعنى الدقيق للكلمة، بيد أن شركة هليوبوليس تفضلت وأجرتنا فيلا جميلة لا يفصلها عن البيت السابق غير الحدائق فقط. وهو ما سهل علي الأمور؛ فقد نقلنا كل شيء على دفعات دون أن نضطر إلى الحزم أو اللف أو الرزم تقريبا. وإني لأستعيد ذكرى ذلك الصباح الذي أخذنا فيه طه وما كان يستطيع المشي إلا بصعوبة. كان الأطفال في مقدمة موكبنا، أما طباخنا الضخم عبد العزيز فقد كان يسير في المؤخرة مهيبا كشأنه دائما، حاملا - بعناية وحذر لآخر أداة من أدوات مطبخنا - ماعونا كبيرا ممتلئا بمرق اللحم كنا نعده كل يوم بعناية فائقة. وكنت أستعجل أن أقدم منه لطه كوبا بمجرد أن نصل إلى غرفته الجديدة.
كنت أريدني متفائلة. في اليوم التالي لانتقالنا كنت مع الإنسان الطيب إسماعيل «الجنايني» ننقل أربع أشجار رائعة من العندم الهندي كنت زرعتها ولم أكن أرغب في التخلي عنها. كنا في شهر يونيو وكانت درجة الحرارة ذلك اليوم قد بلغت 39 درجة في الظل؛ لذلك كان الأمر مخاطرة، إلا أن ثلاث أشجار منها بدأت تنتعش من جديد. ويعود هذا النجاح إلى عناية إسماعيل، وربما عاد أيضا للابتهالات التي كان الطفلان يقدمانها بجدية وهما يتوسلان إلى الله للعناية بها!
نعم؛ كنت أريد أن أكون متفائلة، وعكفت على جعل بيتنا الجديد مستحبا. وكانوا يقولون بخبث: «لقد طرد صدقي
134
الدكتور طه من بيته، لكن ها هو يسكن الآن في بيت أفضل من البيت السابق بكثير!»
كنا عزمنا على الترفع والاعتزاز بأنفسنا فلا نغير شيئا من مظاهر حياتنا الأولى. فإذا اضطررنا لمعاناة الحرمان، فإنه لا ضرورة لأن يعرف أحد آخر غيرنا بذلك.
لكن مؤنس أصيب بحمى عنيفة ثلاث مرات. كنت شاحبة أشد الشحوب، وكنت أناضل برغم إصابتي بالتهاب اللوزتين وبآلام العينين وبهزال متزايد. فأرسلنا طه إلى الإسكندرية لقضاء ثلاثة أسابيع فيها، وفعل ذلك أيضا في السنوات التالية. أما هو فلم يمنح لنفسه سوى يوم واحد في عام 1933 ويومين في عام 1934. لم أكن أحب ذلك، ومن المؤكد أن هذا الفراق لم يكن كفراق 1922؛ إذ كنا على بعد ثلاث ساعات بالقطار من بعضنا البعض وكنا نتخاطب تلفونيا، كما أنه لم يكن سيدوم ثلاثة أشهر. ومع ذلك فقد كان يتألم منه مثلما كنت أتألم.
كان يحاول في البداية أن يكتب لي بمرح:
Unknown page