إذ كان طه قد انتزع اختيار مكان المركز، فاستقر الاختيار على مصر (لكنه لم يستطع المشاركة في الافتتاح لإصابته بنزلة صدرية).
وكتب طائفة ضخمة من المقالات في كل الموضوعات، حتى إن سفير اليونان جاء إلينا في عام 1955 ليشكره على مقاله عن قبرص، ودفع مقاله عن قبرص أيضا «الضمائر الحمراء» تاجرا من الزقازيق ليكتب له رسالة جميلة. وفي عام 1958 نقل له السفير لامبروس رسالة من المطران مكاريوس
252
الذي كان مارا في القاهرة، وقطع على نفسه عهدا بالذهاب لرؤيته، غير أنه اضطر إلى العودة إلى الجزيرة فجأة.
كان قد استأنف الكتابة في كتابه عن «علي» الذي صدر في عام 1953، واستأنف العمل في الجزء الثالث من كتاب «الأيام». •••
كانت أحداث 1952 قد هزتني تماما، وقد كتبت لأمي: «تبقى حياتي إلى جانب طه شيئا مثيرا؛ فكل ما يحدث يؤثر عليه بصورة تختلف عن تأثيرها في الآخرين، وهذا طبيعي؛ لكني أشعر بصدى ذلك أحيانا أكثر مما يشعر به هو نفسه. إنني أستمتع برؤيته ينفرد بنصوصه القديمة التي سيستخلص منها تاريخ الخليفة علي وبنيه.»
كنت أهنئ نفسي أكثر بكثير أيضا على الوقار الخارق الذي تمت به الثورة (1952). أية سيطرة على النفس وأية فطنة! لم تكن هناك أية شتيمة أو أية قطرة من دم. كنت فخورة؛ فقد عاشت مصر تلك اللحظة - ربما - أجمل ساعات تاريخها.
إلا أنه لا بد من الحديث، ويا للأسف، عن السويس (1956). كنت ممزقة؛ أن يحب المرء بلده، وأن يتوجب عليه أن يقول إن فرنسا لا تملك الحق في تصرفها، كان أمرا مؤلما وصعب القبول. على أن المصريين لم يغيروا شيئا من مواقفهم نحوي؛ فلم أسمع أية كلمة جارحة أو حتى عدائية، وعندما توجب علي الحصول على بطاقة هوية (وكنت أحمل الجنسية المصرية منذ زواجي، إلا أنه كان يتوجب على المرء في مثل هذه الظروف أن يعلن عن أصله)، فإن مدير الجيزة كان أكثر من ودي في سلوكه نحوي. كنت أتألم بقسوة؛ في ثقتي ببلدي التي كانت وتبقى مطلقة، وفي الإساءة التي وجهت إلى مصر.
إن من الحق أن نقول إن بلدا ما لا يتجسد كله فيمن يمثلونه، بل ربما لا يتجسد فيهم على الإطلاق، لكن ذلك لا يحول بين الأخطاء المجرمة والشريرة وبين أن تسبب الدمار.
عندما طرد سلطان المغرب من بلده قبل ذلك حزن طه حزنا عميقا ؛ فقد كانت لديه فكرة رفيعة عن فرنسا، وكان قد ناضل كثيرا للدفاع عنها في كثير من المناسبات، كما عمل الكثير لنشر ثقافتها، وبذل كل ما يستطيع للإبقاء على مؤسسات التعليم الفرنسية في أثناء الحرب ... وكانت هناك مسألة الجزائر التي كانت جارحة إلى أقصى حد؛ فبعد أن قطعت له الحكومة الفرنسية وعدا بالسماح له بتأسيس معهد الدراسات الإسلامية فيها، جاءه منها رفض قاصم. ولم يستطع أن يقبل الهجوم على السويس، وقد أعاد وسام جوقة الشرف إلى فرنسا، ولم يكن ذلك أمرا يسر القلب، كما آلمني ذلك جدا.
Unknown page