200
حيث كان الجو مع ذلك أقل حرارة. وحصلنا على غرفة يتخللها الهواء إلى حد كبير. كانت تطل على الطريق الذي كان يؤدي بشكل مستقيم إلى الإسكندرية عبر الصحراء. كنت أطيل النظر في هذا الطريق على حين أفكر أنه سيصبح طريقا تاريخيا؛ فقد قطعته مدافع أفريقيا. وكنت أرى ثانية، مساء أول يوليو 1942، جيشا كان يقاتل وهو ينسحب، وجيشا آخر كان يمضي في الاتجاه المعاكس، ضد كل أمل تقريبا.
كيف يمكننا الذهاب إلى فرنسا؟! لم تكن ثمة طائرات ولا بواخر منتظمة المواعيد. لم تكن ثمة طائرات ولا بواخر منتظمة المواعيد، وكانت الأولوية بطبيعة الحال للعسكريين. وبعد أن خاب أملنا بعدة وعود، انتهينا إلى صعود سفينة بضائع فرنسية «ساجيتير»، وكان ذلك في 25 أكتوبر، فوصلنا مرسيليا في 30 نوفمبر! لا بد من القول إننا كنا نتوقف كثيرا على الطريق لحمل بضائع أو لانتظار أوامر؛ فقد عدنا من بيروت إلى بورسعيد لعدة أيام، هرع خلالها كل من أمينة وطه لمعانقتنا، ثم قضينا في الجزائر عشرة أيام. ولقد صدمني الهزال الشديد لعمال مينائها، كما اضطررنا فيها لاحتمال الكثير من الحرمان.
استقبلنا في الجزائر جورج ديلو وزوجته التي لم أكن أعرفها بعد، وقد صحبانا للنزهة في هذه المدينة ذات الجمال الرائع. لم يكن منظرها الشهير مخيبا للآمال، ولقد أحببت منه وأنا أنظر إليه من أعلى المتحف الحدائق التي كانت تنحدر حتى شاطئ البحر. كما صحبانا إلى الأوبرا، فقد كانت العروض قد استؤنفت مجددا آنذاك، واستمعنا إلى أغنيات وأناشيد فرنسية لم نعد نعرفها منذ ست سنوات، ثم رافقانا في المساء إلى المركب. ولحظة وصولي إلى فرنسا، قمت بصلاة خاشعة في كنيسة قائمة على لسان جبل مطل على البحر، حيث جاء إليها الكثير من البحارة للصلاة أيضا.
لم يتوقف جورج ديلو طيلة الفترة التي كانت الحياة خلالها صعبة في باريس عن إرسال اليوسف أفندي، والتمر، والهدايا الأخرى لمؤنس. كان ذلك لفتة طيبة منه نحو مؤنس؛ لقد كان يختص طه بود حقيقي، وبعد وفاته عاشت سيمون السنوات المأساوية من المعركة الجزائرية؛ إذ لما كانت قد ولدت في الجزائر وعاشت فيها دوما فقد تألمت الألم الذي يتألمه كل من عانى حبين متعارضين. وعاشت في فرنسا لا كما عاش هؤلاء الفرنسيون الذين طردوا من الأرض التي كانوا يعتبرونها وطنهم غير قادرين على التكيف مع وطنهم الحقيقي ... بكل تأكيد؛ ذلك أنها فرنسية حقا، غير أنها لن تشفى أبدا من حبها للجزائر. إنها تكتب لي رسائل طويلة بشجاعة وحنان، وإني لأحب رسائلها.
كان هناك الكثير من العسكريين على ظهر الباخرة، وكنا نتبادل الأحاديث في الموضع الوحيد الذي يمكن لنا أن نلتقي فيه، وأعني في بار صغير. كان البحر هائجا بين مرسيليا والجزائر، وكانت مرسيليا عندما وصلناها رمادية وباردة، لكن ... ها هي فرنسا أخيرا.
وفي مرسيليا اهتم بنا قنصل مصر آنذاك، وأدخل بحضوره الراحة إلى قلوبنا كما أسعدنا بدعوته لنا إلى غذاء رائع. كنا مضطرين لتناول العشاء في اليوم التالي عند زميل وصديق لجورج ديلو، وبانتظار ذلك، ولما كنا لا نملك بطاقات تموينية وكانت وجبات الباخرة أكثر من زهيدة، فقد استعلم مؤنس عن مكان يمكن لنا فيه الحصول على بعض الأشياء المغذية. فأعطي عنوانا، وذهبنا إليه، فوجدناه عبارة عن مكان صغير كانت تقوم فيه امرأة بالطبخ لثلاثة زبائن فقط. كانت الوجبة كاملة لكنها باهظة الكلفة قليلا. واستعجل مؤنس، فخورا بذلك ليحدث صديقنا شامبير عن هذا المكان عندما كنا نتناول العشاء عنده. وكاد شامبير أن يختنق وهو يقول مذهولا: «أصحبت السيدة والدتك إلى شارع «توبانو
Tubaneau »؟» وهكذا علم مؤنس المسكين أنه حي سيء السمعة جدا. ولا بد من التصديق أننا كنا، كلانا، ساذجين بما أننا لم ننتبه إلى ذلك. وأضيف، لكي تتضح معذرتنا، بأننا ذهبنا إلى ذلك المكان في وضح النهار.
وبعد فترة صبرنا فيها، حصلنا على مكانين في القطار السريع المتجه إلى باريس. وعندما توقف القطار في محطة ليون، لمحنا على الرصيف فورا مجموعة من الناس قلقة، كانوا قد جاءوا جميعا لاستقبالنا: أمي، وأختي، وصهري، وخالتي تورنييه،
201
Unknown page