كان الشيخ مصطفى معنا، ويمكن القول إن أحدنا لم يكن يفارق الآخر. ولدي صور تمثلنا جميعا في ميدان روما أنظر إليها الآن بابتسامة حزينة. كان هذا الصديق الذي لا مثيل له قد نزل في فندقنا المتواضع لكي يبقى بالقرب منا. كنا أربعة، بالإضافة إلى فريد. ولم تكن المصاريف مغطاة إلا بالنسبة لاثنين فقط، وكان علينا أن نتخلى من ناحيتنا عن الفنادق الفاخرة. وعندما انتهى المؤتمر، فعل مصطفى الأمر نفسه عندما ذهبنا معا إلى فلورنسا. معا، نعم، لكننا وصلنا منفصلين على الرغم منا. ولا أدري كيف حدث أنه عند انطلاق القطار استطاع مصطفى أن يتسلق وسط الزحام عربة القطار. وما زال وجهه المذعور يتراءى لي على باب العربة، وإشاراته الآسفة في حين كان القطار يسير ونحن نصيح به أن ينتظرنا حتى القطار التالي. وعندما دخلنا محطة فلورنسا، كان هناك حاملا بيده باقة من الزنبق الأحمر .
وصعدنا إلى فييزول في الغداة. وبينما كنا نستريح ونتناول الشاي على شرفة جميلة، رأينا كتلا متراصة من الغيوم تغطي السماء كمجدلة تظهر وتتقدم فجأة بسرعة لا تصدق. وكانت تلك الظلمات السائرة تبدأ أجمل عاصفة رأيتها في حياتي؛ فقد هطل المطر مدرارا عنيفا، فأعارونا مظلات، لكنها لم تغننا شيئا، ثم أعادتنا سيارة أجرة عثرنا عليها أخيرا إلى فلورنسا شبه مبللين.
عندما عدنا إلى مصر، واجهنا جمهورا من الزوار بلغ من الكثرة حدا أني كتبت لأمي: «لو لم نكن نعرف هؤلاء الناس على حقيقتهم لكان بوسعنا القول إنهم يحبوننا بشدة.» غير أن البعض منهم كان يحبنا حقا.
كان مرسى الإسكندرية حافلا بالسفن الحربية، منذ ذلك الوقت.
وغدت الوزارة التي كان الإنجليز يدعمونها وحدهم مكروهة من الشعب إلى حد كبير. وأغلقت الجامعة أبوابها على إثر اضطرابات خطيرة؛ فقد أطلقت النار على الطلبة، ولم يكن بوسع طه أن يحبذ هذا التصرف. وبسبب ذلك غضب عليه نجيب الهلالي،
164
الذي كان مع ذلك صديقه، فترة طويلة.
وانتقلنا من بيتنا مرة أخرى،
165
لكننا سنبقى هذه المرة مدة عشرين سنة. وكان لا بد لذلك من أن يعزيني، فقد كنت بدأت أتعب قليلا إزاء الأواني التي كانت على حال من الفوضى والثياب التي يزداد انتفاخها - كأنما ذلك عن قصد - كلما حاولت إدخالها في الصناديق، والأوراق القديمة التي كنا نمسها ونحن نرتجف.
Unknown page