90

ثم قهقه في ضحكة طويلة، وأسرع فوثب على فرسه وهمزه فانطلق به يعدو.

وبلغته في الأيام التالية أحاديث الأمراء في مجتمعاتهم إذ يقولون إنه زعيم الأمراء بلا منازع.

وكان الشيخ علي المجذوب يسير في طرق حي قوصون وحاراته بنبوته الطويل وعمامته الخضراء، يصيح بأعلى صوته، متغنيا بزجل طويل في مدح البطل الذي وقف وحده أمام خمسة أمراء، ولم يجرؤ أحد منهم على مواجهته، وكان يقطع غناءه بين حين وآخر ويهز رأسه في عنف ويقول: الله! الله!

آخر الباشوات

«الشعب يتحرك فتولد أمة.»

لم يستطع السيد عمر مكرم أن يشق طريقه في ميدان الرميلة؛ إذ كانت الألوف هناك بالعشرات تحيط بالقلعة من جميع جهاتها التي تلي الميدان، ولم تنقطع الجموع كذلك من حولها صاعدة إلى التل المجاور للقلعة وإلى الهضبة التي وراءها. كان حصارا تاما ليس فيه فجوة يستطيع أحد أن يدخل منها إلى القلعة أو يخرج بغير أن يتعرض للموت المحقق.

وتزاحمت الجموع حول السيد عمر حتى إنه لم يتقدم إلا مسافة قصيرة نحو باب العزب حيث كان حجاج زعيم الجماهير يرابط بأعوانه الذين بايعوه على الموت. وكان حجاج الخضري قد آلى على نفسه أن يستمر على الحصار حتى يستسلم الباشا مهما تطاولت مدة الحصار، وأقسم له مئات من شبان الأحياء المختلفة على أن يبقوا معه إلى النهاية؛ فلا ينصرفون عن أسوار القلعة إلا بالانتصار أو بالموت. وأراد السيد عمر في ذلك اليوم أن يتحقق بنفسه أن جماهير أبناء القاهرة لم يتزعزعوا ولم يترددوا بعد أن تخلى عن مناصرتهم جنود الأرنئود الذين كانوا يساعدونهم في حصار القلعة في مبدأ الأمر. ولكنه رأى بعينه أن الجموع لم تتزعزع، بل ازدادت أضعافا عما كانت عليه من قبل. وشعر السيد عمر بغبطة شديدة عندما رأى تلك الجموع حوله؛ إذ عرف أن شعب القاهرة جاد في تصميمه على خلع خورشيد باشا، ذلك الطاغية العنيد الذي أبى أن يستسلم بالرغم من عزل السلطان له وأعلن عزمه الجريء على الاستمرار في المقاومة.

وأخذت أصوات الألوف الزاخرة تتعالى بالهتاف للزعيم العظيم الذي كان يمثل لهم كل معاني المقاومة، كما كان يمثل لهم كل الأماني الغامضة التي تكمن في أعماق صدورهم.

وسمع حجاج الخضري صياح الجماهير وهو مرابط مع أتباعه المخلصين أمام باب العزب، وسمع اسم السيد عمر مكرم يتردد في هتافهم الصاخب، فأسرع ليستقبل الزعيم الجليل ويفضي إليه بالأنباء الأخيرة للانتصارات المتوالية التي تمت على أيدي فتيانه البسلاء. وسار في صف طويل من أتباعه يشقون الصفوف المضطربة الصاخبة، وكان سيفه مسلولا في يده وهو ينادي قائلا: يعيش السيد عمر مكرم!

وزاد صياح الجماهير علوا عندما مر حجاج الخضري بينهم بسيفه المسلول ورددوا هتافه في حماسة وهم يتدافعون وراءه.

Unknown page