81

فوثب كالمخبول يتلفت حوله في فزع، واستولى عليه شعور غامر من اليأس والذعر، وأحس برأسه يتصدع وبعزمه يتحلل. وطن الصوت في أذنيه مرة أخرى: «لقد قضي الأمر ولا حيلة في مقاومة القضاء.» فاندفع يخوض الموج لا يدري ماذا يريد، ثم توقف وتراجع. ولم يدر ما هو فاعل عندما نزع درعه فقذف بها في الماء، ثم ألقى فيه بعد ذلك طبره الفولاذي وخوذته النحاسية، ثم قذف بالجراب الذي كان في منطقته مملوءا بالجواهر التي ادخرها لتكون له إسعافا إذا احتاج إلى مال. وهم أن يلقي بسيفه وراءها، ولكنه تردد وأعاده إلى حمائله قائلا في صوت ذاهل يشبه حشرجة الذبيح: هذا ما بقي لي من ملك ضائع.

وتراجع من بين الأمواج متخاذلا كسيفا، فاتجه نحو الوادي حيث كان أصحابه. وما كادوا يلمحونه حتى أسرعوا إليه في قلق والتفوا حوله يأتنسون بوجوده بينهم. واتجه شاد بك إليه يريد أن يحدثه فإذا ضجة ترتفع من ناحية مدخل الوادي، فالتفت الجمع وراءهم يحسبون أن جنود الترك أقبلت تناوشهم، فإذا الأمير حسن بن مرعي عند المدخل ينادي قائلا: انج بنفسك وبمن معك يا مولاي قبل أن تهلكوا ونهلك معكم جميعا.

ثم لوى عنان فرسه وعاد يركض مسرعا.

فنظر طومنباي إلى أصحابه قائلا: أما سمعتم القول؟

فصاح الأمير قانصوه العادلي في غيظ: لقد علمت أن هؤلاء العرب لا يغنون عنا شيئا.

وصاح الأمير يحيى: هلموا إلى الخيل فلنمت كراما.

وتوالت صيحات أخرى والأمراء يتسارعون إلى خيولهم ليستعدوا للصدمة اليائسة. ولكن السلطان بقي ثابتا في مكانه وهو مطرق في حزن. فصاح به شاد بك: هلم يا مولاي فالدقائق معدودة.

فقال السلطان في ضعف: انج بنفسك وبمن معك أيها الأمير. لا تنظر إلي واذهب بأصحابك.

فعاد شاد بك إليه يريد أن يجذبه معه، ولكن نظرة السلطان الهادئة كانت تنم عن عزيمة صارمة. فقال شاد بك في ضراعة: إنك لن تهجرنا في هذه الساعة يا مولاي. إن وجودك بيننا يبعث فينا الأمل والقوة. إننا في حاجة إليك فلا تخذلنا بحق سيفك. إننا في حاجة إلى سيف البطل طومنباي.

فأدار السلطان وجهه الحزين عن الأمير حتى لا يظهر له ما بدا عليه من الاضطراب. وأطرق الأمراء بقلوب موجعة إشفاقا أن يملئوا أعينهم من ذلك البطل الذي ينهار تحت نظراتهم. ثم قال طومنباي بعد تردد: إنني أحس ألما يطعن فؤادي طعنا أشد من وقع السيوف والرماح وأنا أنطق بكلماتي. ولكن هذا هو القضاء. نحن نجني الثمار المرة التي غرسها من قبل سوانا. لست أذكر مساوئ الموتى، بل إنني أطلب لهم الرحمة من الله. ولكن هي الحقيقة المؤلمة. إنني أنطق بها وليس في صدري أثر من الحقد أو اللوم. نحن نجني الأشواك التي بذرها أولئك الذين كانوا يتمتعون بالحكم ولا يبالون القيام بأعبائه.

Unknown page