65

وكان المسيب دائما في طليعة القوم، يجوب المعسكر من طرف إلى طرف، وأوغل بين الجموع فإذا هو وحيد. ثم رأى فرسه يخر من تحته وهو بين ألوف يخبطون في عماية الظلام ودهشة النوم، فترجل وهو يصيح صيحته: الله أكبر! يا محمد!

واجتمعت عليه السيوف من كل جانب، وهو يدافع ويناضل ويتعثر في جثث قتلاه، وكاد التعب يعييه عن القتال وكسرت رمحه وكلت يداه. ثم سمع صيحة على مقربة منه أعادت إليه نفسه، فتحامل وصاح صيحته مجيبا، فأقبل عليه رجاله وجعلوا يطاعنون ويضربون، وفيهم رجل قد قطعت يمينه فأخذ السيف بشماله، ثم قطعت شماله فجعل يدافع العدو بما بقي من ذراعيه. ولما استجمع المسيب قوته، وصاح صيحته مرة أخرى، اندفع نحو الرجل ليعينه، ولكن سيفا أهوى على المسكين فأنامه. ولم يلبث العدو أن تردد وتزعزع وتملكه الفزع فتراجع يطلب الفضاء هربا، وما هي إلا لحظات حتى كانت أشباح الترك تسد الأفق لا تلوي على شيء.

فصاح المسيب في أصحابه: دعوا القوم في هربهم، ولا تلحقوا بهم.

ووقف ينظر لحظة إلى الفارس الصريع المقطوع اليدين، ثم مال إليه فقبله، وأسرع فركب جوادا رآه قريبا منه ولوى عنانه وأشار إلى أصحابه قائلا: إلى القصر!

وهناك استقبلهم المحصورون خارجين من القصر ليشتركوا في المعركة. وسار الركب العربي عائدا إلى سمرقند، بكل من في قصر الباهلي من رجال ونساء وذراري. وفصل المسيب من القصر في آخر الركب بعد أن دار حول الأسوار ينظر لعله يجد متخلفا، فرأى امرأة تصيح به تستمهله، وعلى يديها غلام صغير. فوقف حتى اقتربت منه، فقال لها في لهجة اللوم: وفيم تأخرت وقد كدنا نبعد؟

فقالت المرأة في هدوء: كنت أحمل ولدي من جانب في القصر تركته فيه.

فقال الرجل متعجبا: وكيف تتركين ولدك؟

فقالت المرأة: كنت أحارب مع قومي، فما كنت لأتركهم يحاربون وحدهم.

ثم دفعت الطفل إلى الرجل قائلة: خذ هذا بين يديك.

فأخذ الرجل الطفل منها فجعله أمامه، وذهبت هي إلى فرسها في جانب القصر فوثبت عليه كأنها فارس بارع.

Unknown page