100

والذين يعرفون أخبار الحوادث التي وقعت في مصر في ثورة سنة 1919 يعرفون أن الأستاذ إبراهيم رضوان كان اليد المحركة والقلب الدافع للحركة القوية التي عمت مديرية البحيرة كلها في إبان تلك الثورة. ولكن الذين يعرفون الأسرار الخفية التي كانت تنطوي وراء تلك الحوادث، يعلمون حق العلم أن القوة الحقيقية التي كانت تحركها إنما تنبعث من شيخ جاوز السبعين من عمره ولا يغادر بيته في قرية الكوم الأحمر، وهو الجندي القديم رضوان أفندي!

الرقصة المجنونة

«عندما كانت الحياة مجنونة.»

كان الأستاذ عطية يعتقد أن الحياة صارت مجنونة ، وذلك بعد أن بلغ سن الأربعين في عام 1951. حقا إنه من السخف أن يقول أحد إن الزمان فسد لأن الزمان تغير، فإنه لا مفر من تغير الزمان. ولكن من الضروري أن يكون الناس على اتفاق في شعورهم وآرائهم ما داموا يعيشون في وقت واحد، وإلا كانوا عرضة لسوء التفاهم. وهذا هو السر في اعتقاد الأستاذ عطية أن الحياة مجنونة؛ لأنه كان يخالف أهل زمنه في الآراء والشعور.

والأستاذ عطية مع غرابة أطواره جدير بأن يعد من الأفذاذ النادرين الذين بلغوا سن الأربعين في منتصف القرن العشرين. هو رجل ذو شخصية عجيبة تشبه الشخصيات الخيالية التي تتحدث عنها الأساطير، لا تهمه مظاهر الحياة بقدر ما تهمه حقائقها الجوهرية، ولا يعبأ بالأوضاع التي يتعارف الناس عليها إذا كانت في نظره أوضاعا سخيفة. وهو فوق كل هذا لا يعترف بالمقاييس الاجتماعية ولا المقاييس الأخلاقية إذا لم تكن قائمة على المبادئ التي يفهمها ويسلم بها: فهو مثلا لا يعترف بأن الإنسان جدير بالاحترام لأنه حصل على ثروة عظيمة فقط، وقد يكون احترامه عظيما لرجل بسيط فقير أكثر بكثير من تقديره لرجل من أصحاب الملايين، وذلك إذا كان صاحب الملايين من الذين لا يساوون مليما على حسب مقاييسه الخاصة.

ولكن الأستاذ عطية وإن كان غير راض عن الأوضاع والمقاييس التي في أيامه، فإنه كان محتفظا بالمرح وسعة الصدر، ولا يحمل لأهل زمانه ضغنا لأنهم يخالفونه في الشعور أو الآراء. هو لا يعرف المرارة ولا الحقد ولا الحسد، ويأخذ أمور الناس كما هي ويحتفظ بآرائه ومقاييسه لنفسه مع علمه بأنها تخالف مقاييس الناس وآراءهم. ولهذا كان محبوبا عند الجميع برغم اختلافهم عنه، بل كانوا يحبون أن يستمعوا إلى آرائه وانتقاداته التي يصوغها في أسلوبه الفكاهي الظريف.

وأما سبب اختلاف وجهة نظر الأستاذ عطية عن وجهة نظر أهل زمانه، فذلك ما يطول شرحه، ويكفي أن نقول إنه يرى أن العالم كله بوجه عام ومصر بوجه خاص قد أصبح عالما سخيفا مجنونا.

فالناس جميعا في نظره يسيرون نحو الهاوية بعيون مقفلة، بعد أن فقدوا أهم شيء في الحياة وهو أرواحهم. أصبح الناس جميعا في نظره حثالة يعيشون بلا أرواح يعبدون أصناما بغير أرواح، أو بقول آخر هم يعبدون الأصنام التي لا أرواح لها على شرط أن تكون من ذهب. ومن أجل عبادتهم للأصنام الذهبية، أصبحوا لا يعبئون بالحقائق وأغلقوا أعينهم عن معاني الحياة الكبرى، واتجهوا في لهوهم السخيف نحو الهاوية. هذه هي فلسفته التي كان يصوغها في أسلوبه الفكاهي اللطيف، بطريقة مضحكة مسلية مع أنها تنطوي على حكم نفيسة. والمثل الأعلى في الحياة للأستاذ عطية هو الشخصية الخيالية المعروفة: جحا، الذي بلغ من إعجابه بشخصيته أنه أوصى أحد الفنانين المشهورين بصنع تمثال نصفي له، ووضعه في صدر غرفة الجلوس في بيته.

والأستاذ عطية رجل وإن تخطى سن الشباب من زمن طويل يحتفظ بحيوية قوية، حتى إنه يبدو شابا في أعين الجميع. ومن فضائله أنه غير متزوج؛ ولذلك لا يجد سببا يحمله على المجاملة في إبداء آرائه. كما أنه يمتاز بفضيلة أخرى، وهي أنه لا يرى في الحياة سببا يستحق الأسف. لا تكاد الدنيا تزيد في نظره على مسرح شعبي تمثل عليه ملهاة مضحكة أو مهزلة، تتخللها أحيانا بعض مناظر مبكية ولكنها ملهاة لا يدرك معناها كثير من النظارة.

والممثلون في هذه الملهاة أو المهزلة هم الأحياء جميعا لا فرق فيهم بين من يسمونهم العظماء والحقراء، ولا بين العقلاء والحمقى، والجميع يقومون بأدوارهم على المسرح وينظرون إلى أنفسهم في الوقت نفسه. وهو يعتقد أنه هو الآخر يقوم بدوره في المهزلة العامة، كما يشترك في مشاهدة المناظر، والفرق بينه وبين غيره أنه لا يطلب أتعابا على القيام بدوره، في حين أن الآخرين يتقاضون أتعابهم بطرق مختلفة! بعضها يضحك وبعضها يبكي.

Unknown page